بيع الوالد لولده

 

بيع الوالد لولده

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

من الاشكاليات العملية التي يتكرر وقوعها قيام الوالد ببيع ماله  لاحد اولاده, فهذا التصرف في غالب الاحيان قد ينطوي على حيلة على بقية الورثة المحتملين الا انه في بعض الحالات يكون هذا البيع خاليا من الحيلة حيث يكون بيعا حقيقيا, ولا ريب ان هذا الموضوع يحتاج الى تعليق وتحليل لتحديد متى يكون بيع الوالد لولده حقيقيا ومتى يكون حيلة, اضافة الى ان هناك اشكاليات كثيرة تحدث بشأن الثمن الذي يدفعه الولد لوالده لا سيما عندما يكون هذا الثمن خدمة يقدمها الولد لوالده او عندما  يقوم الولد بالحج لابيه وغير ذلك من الخدمات او المنافع , ولذلك نجد انه من المناسب التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 11/1/2011م في الطعن الشخصي رقم (40329) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان والدة  في اثناء حياتها قامت ببيع عدة مواضع زراعية لولدها الذي تقيم عنده في منزله وذلك مقابل قيامه بالنفقة عليها ودفعه اجرة الحاج الذي ادى فريضة الحج نيابة عنه .وبعد موتها اختلف الورثةبشان قسمة تركتها حتى وصل الخلاف الى المحكمة الابتدائية وعند حصر تركتها من قبل المحكمة تقدم الولد المشتري بدعوى اختصاص  بتلك  المواضع الزراعيةالمباعة له من والدته فرد الورثة الاخرون بان البيع غير حقيقي وانه حيلة  عليهم .وقد حكمت  المحكمة الابتدائية باختصاص الولد بتلك المواضع  وصحة البيع لثبوت قيام الولد المشتري لتلك  المواضع  بالإنفاق على والدته دون بقية اخوانه وسداد اجرة الحاج عنها, فقام الورثة الاخرون بالطعن امام محكمة الاستئناف التي طلبت من الولد المستأنف ضده ان يقدم الادلة على انه  قد دفع ثمن تلك المواضع التي زعم انه اشتراها من والدته٠ ومن خلال ذلك توصلت محكمة الاستئناف الى الحكم بصحة بصيرة واحدة تحكي شراء الولد من والدته لموضع واحد من تلك المواضع لثبوت قيامه بالإنفاق عليها وسداده اجرة الحاج عنها لان مقابل النفقة على والدته واجرة الحاج عنها يعادل قيمة ذلك الموضع بحسب سعر اازمان والمكان .وفي الوقت ذاته قضى الحكم الاستئنافي بإبطال بقية البيوع الصادرة من الوالدة لولدها لان ظاهر هذه البيوع الحيلة حسبما ورد في اسباب الحكم الاستئنافي, وقد قام الولد المتمسك بعقود البيع له من امه  بالطعن في الحكم الاستئنافي بالنقض امام المحكمة العليا حيث ذكر في عريضة الطعن بالنقض انه قد اشترى من والدته تلك المواضع شراء صحيحا وانه قد قبض المبيع منذ عام 1395هـ من غير اعتراض, الا ان الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا اقرت الحكم الاستئنافي المطعون فيه مسببة حكمها بانه (تبين للدائرة ان ما توصل اليه الحكم الاستئنافي موافق من حيث النتيجة لأحكام الشرع والقانون لاستناده الى ان تلك البيوع قد انطوت الحيلة  على بقية الورثة بالبيع الى بعضهم الاخر وانه قد اتضح للشعبة الاستئنافية ان جميع البصائر المحررة سنة 1395هـ عبارة عن بصائر صورية حسبما ورد في اسباب الحكم الاستئنافي الامر الذي يستوجب  رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الأول : البيع الصحيح عامة :

حدد القانون المدني اركان عقد البيع وشروطه التي تجعل البيع صحيحا وذلك في المواد من (452) الى (463) وهذه الاركان هي صيغة العقد والبائع والمشتري ومحل البيع وهناك شروط تشترط في هذه  الاركان. فصيغة العقد يجب ان تتضمن الايجاب والقبول المتطابقين بقول البائع بعت والمشتري اشتريت ويشترط في البائع كركن من اركان البيع ان تكون  ارادته حرة غير مشوبة بعيب من عيوب الارادة مثل الاكراه والتدليس وكذلك الحال بالنسبة للمشتري كما يشترط في محل البيع ان يكون موجودا حال العقد وان يكون معلوما علما نافيا للجهالة  وان يكون المبيع  في ملك البائع ....الخ ولا يتسع المجال لذكر التفاصيل في هذا التعليق الموجز .وعند تطبيق اركان العقد وشروطه على بيع الوالد لولده نجد انها تنطبق عليه في بعض حالاته ولاتنطبق عليه في حالات اخرى كما سنرى لاحقا .

الوجه الثاني : بيع الوالد لولده في القانون المدني :

اجاز القانون المدني للوالد ان يبيع ماله لولده بشروط حددها القانون في المادة (464) التي نصت على انه ( يصح بيع الوالد ماله لولده المشمول بولايته وبيعه مال احد الولدين للآخر بشرط القبول من منصوب القاضي الذي يقبل البيع عن الصغير ثم يسلمه بعد ذلك لوالده ليحفظه لولده, ويشترط ان لا يكون البيع منطويا على حيلة ) ومن خلال استقراء هذا النص نجد انه  قد اجاز للوالد ان يبيع ماله الى ولده القاصر وليس البالغ شريطة ان لا ينطوي هذا البيع على حيلة. فاذا كان للولد الصغير مال خاص به لا يكون مصدره الوالد نفسه وكان هذا المال مساويا بالفعل لقيمة الارض المبيعة وقد تم تسليم الثمن تسليما فعليا ولم يقم الوالد بإعادة الثمن  الى ولده المشتري فان البيع في هذه الحالة يكون صحيحا وتنطبق هذه الاحكام على الولد الكبير البالغ فيجوز للوالد ان يبيع ماله الى ولده البالغ شريطة ان يكون لهذا الولد مال خاص به وان يكون الثمن الذي يدفعه لوالده مساويا لقيمة الارض في الزمان والمكان وان لا يثبت ان الوالد قد اعاد الثمن لولده المشتري ففي هذه الحالة يكون البيع صحيحا, وقد صرح القانون بجواز بيع الوالد ماله لولده الصغير القاصر لان هذا البيع محل خلاف في الفقه الاسلامي فاراد القانون ان يختار القول الذي ذهب الى جواز بيع الوالد لماله الى ولده القاصر اما الولد الكبير فلا خلاف بين الفقهاء في جواز بيع الوالد له شريطة ان لا ينطوي البيع على حيلة .

الوجه الثاني : المقصود بالحيلة التي تبطل بيع الوالد لولده :

اشار الحكم محل تعليقنا الى ان غالبية البيوع التي صدرت من الوالدة لولدها باطلة لأنها انطوت على الحيلة كما صرح القانون المدني على بطلان البيع الصادر من الوالد لولده اذا انطوى هذا البيع على حيلة, وهذا يستدعي الاشارة بإيجاز بالغ  الى المقصود بالحيلة المبطلة لعقد البيع الصادر من الوالد لولده, فالمقصود  بالحيلة هنا ان البيع ليس حقيقي وانما يخفي تصرف اخر من الوالد لولده وهو الهبة من الوالد لولده في اثناء حياته حيث قد يعمد الوالد الى اخفاء الهبة تحت عبآة البيع فالوالد اصلا لم يستلم ثمن المبيع او استلمه وقام باعادته الى الولد او ان الثمن يقل كثيرا عن ثمن المبيع, فيكون التصرف الظاهر هو البيع في حين ان حقيقة التصرف هو هبة وليس بيعا, ويمكن ان ينطوي بيع الوالد لولده على حيلة اخفاء الوصية او النذر او الوقف لولده اوغير ذلك, وقد قرر النص القانوني الذي اجاز بيع الوالد لولده ان لا ينطوي البيع على حيلة على بقية الورثة وكذلك اشار الحكم محل تعليقنا الى هذه المسألة, فالحيلة على الورثة تتحقق حينما يعمد الوالد الى البيع لولده بقصد زيادة نصيب ولده بقصد زيادة نصيب ولده من ماله مقابل انقاص ما سيؤول الى الورثةالمحتملين  الاخرين كان يكون للوالد بنت او بنات وليس له ابناء وله اخوة وكأن يكون الوالد له ولد او اولاد وله والد ووالدة .

الوجه الثالث : كيفية الاستدلال على وجود الحيلة في بيع الوالد لولده :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا واقوال الفقهاء في هذه المسألة يظهر لنا ان هناك مظاهر وامثلة ذكرها الفقه الاسلامي للاستدلال بها والاسترشاد بها لتقرير وجود الحيلة في بيع الوالد لولده, ونلخص ذلك فيما يأتي :

1- سن الولد : فالولد الرضيع لا مال له الا ان يهبه غير والده مالا كالعم او الخال او يكون موقوفا عليه من غير والده, فاذا صدر البيع من الوالد لولده الرضيع او الذي ليس له مال لصغر سنه وعجزه عن الكسب فان  بيع الوالد لولده في هذه الحالة ينطوي على حيلة .

2- عجز الولد: فالولد العاجز عن السعي والكسب الاصل ان لا مال له حتى يدفع قيمة الارض المباعة له من والده الا ان تجري عليه الدولة او الغير مساعدة مالية او يهبه الغير او يتصدق عليه ,والمقصود بالولد العاجز عن الكسب هو المريض بمرض يعجزه عن العمل والكسب كالأعمى او    الاقطع او الكسيح ....الخ اوقد يكون عاجزاً عن الكسب لصغر سنه حسبما سبق بيانه .

3- إنعدام مصدر دخل الولد او قلته : فقد يكون الولد بالغا سليما من العاهات قادرا  على السعي والكسب  الا انه لايوجد مصدر دخل له يدل على ان بيع والده له لاينطوي على حيلة؛ فمن اين للولد مال يدفعه الى والده  ثمنا للأرض المبيعة , وقدينعدم الدخل بسبب عدم وجود وظيفة او عمل او حرفة او مهنة للولد يتكسب  منها , كما ان قلة الدخل تكون دليلاً على ان بيع الوالد لولده ينطوي على حيلة لان الدخل القليل يكاد  لايلبي ضرورات وحاجيات الولد فلا يكون له فضل مال يدفع منه  ثمن الارض المباعة له من والده.

4- اسراف الولد واعتياده على العادات المسرفة: فقد يكون الولد من ذوي الدخل الجزيل او المتوسط لكنه كثير السفريات للسياحة والبحث عن المتعة والترف وقد يكون من المشهورين بالإسراف بحيث تكون الاموال التي يحصل عليها من  مصدر دخله مساوية للأموال التي ينفقها او اكثر منها , فبيع الوالد للولد المسرف على هذه الشاكلة يكون باطلاً لانطوائه على الحيلة. 

الوجه الرابع : المقابل لثمن المبيع للولد بين الحقيقة والحيلة :

قد لا يكون الثمن الذي يدفعه الولد لوالده نقودا وانما يكون نفقة او خدمة, وعندئذ تكون المسألة اكثر صعوبة عندما يتثبت القاضي عن صحة بيع الوالد لولده وعدم انطواء هذا البيع على حيلة, ولكن القاضي الحصيف يستطيع الاستدلال بادلة كثيرة اهمها تقدير القيمة النقدية للنفقة او الخدمة عن طريق الخبراء العدول والمقصود بهم هنا الذين عرفوا او شاهدوا مظاهر الخدمة او النفقة ووقتها في اليوم ومدتها من حيث السنوات ومدى احتياج الوالد المنفق عليه او المخدوم وتأثير تلك الخدمة او النفقة وكفايتها لان العدول هنا يجب ان يكونوا ممن  يعلم حال الولد المنفق والوالد المنفق عليه وان يعرفوا مظاهر النفقة او الخدمة ومكوناتها  معرفة تامة – فاذا كانت قيمة النفقة او الخدمة مساوية لقيمة المبيع فان البيع صحيح لا ينطوي على الحيلة فان قل عن ذلك بمقدار يزيد عن 10% فان البيع ينطوي على الحيلة, وفي احيان كثيرة يكون بيع الوالد لولده مقابل شقية الولد مع والده حيث يقوم الوالد ببيع ولده ارضا او غيرها مقابل شقية الولد معه وللتأكد من انعدام الحيلة في هذا التصرف يجب على القاضي ان يندب خبراء عدول للوقوف على الشقاء او السعي الذي قام به الولد لحساب والده والعائد الذي تحقق من سعيه والوقت الذي قضاه ساعيا لحساب والده واهم هذه العناصر هو احتساب العائد الذي تحقق من السعي, فاذا كان العائد الذي تحقق من السعي مساويا تقريبا لقيمة المبيع من الوالد لولده فان البيع في هذه الحالة لا ينطوي على حيلة وان لم يكن كذلك فان البيع قد انطوى على الحيلة .ولاشك ان التقدير لعائد السعي يجب ان يتم عن طريق الخبراء العدول العارفين بالولد الساعي وعائدات سعيه ومقدارها ومدى تناسبها مع ثمن المبيع من الوالد لولده.

ولذلك نجد ان الحكم محل تعليقنا قد قضى بان احدى البصائر فقط صحيحة وهي وثيقة بيع الوالدة لولدها قطعة ارض زراعية حيث قامت محكمة الموضوع بتقدير النفقة واجرة الحاج فوجدت انها تقابل قيمة تلك الارض فقضت المحكمة بصحة ذلك البيع لعدم انطوائه على الحيلة, وفي الوقت ذاته قضت المحكمة ببطلان البيوع الاخرى الصادرة من الوالدة لولدها عام 1395م لان دخله في ذلك الوقت لم يكن يؤهله للأنفاق على والدته اضافة الى ان هناك عائدات للاراضي كانت تحصل منها والدته على نفقتها, وفي ضوء تقدير قيمة نفقة الولد على والدته واجرة الحاج عنها تم التقرير بصحة تصرف واحد وابطال التصرفات الاخرى، والله اعلم.