الفاظ السب والقذف بين العرف والقانون

 

الفاظ السب والقذف بين العرف والقانون

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء 

ترددت كثيرا في الكتابة في هذا الموضوع ولكن الواجب الشرعي يحتم علي الكتابة لأني اقوم بتدريس مادة  التشريع الجنائي الاسلامي لمدة من الزمن حيث ترد تساؤلات كثيرة بشأن الالفاظ المتداولة بين بعض الاشخاص في بعض المناطق والتي يتم التلفظ بها على انها ليست قذف وانما يتلفظ بها هولاء ولايقصدون بها القذف وانما السب والشتم مثل الفاظ (زنـ ـوه, قحـ ـبة, زغـ ـوة, ابن ايـ ـري، عـ ـاره..الخ) وغيرها من الالفاظ التي اكتبها وانا اشعر بالخجل والحياء من القارئ الكريم, ولكن الواجب يحتم علينا كتابتها حتى يكون الامر مفهوما وحتى نبين كيف ينظر اليها الشرع والقانون وكيف يتعامل معها القضاء, وهل هي من الفاظ القذف ام من الفاظ السب ام انها من الفاظ المدح والوصف بالشطارة والذكاء (زنـ ـوه, زغـ ـوه) وغيرها من الالفاظ البذيئة المخجلة, كما ان هناك خلط واضح بين السب والقذف حتى في قانون الجرائم والعقوبات, ولذلك فان هذه المسائل تحتاج الى لفت الانظار اليها والتوعية الشرعية والقانونية بشانها, ومن هذا المنطلق اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 12/2/2011م في الطعن الجزائي رقم (40206) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان فلاحا في منطقة ريفية قام بهدم جزء من الجدار الفاصل فيما بينه وبين جاره وفي اثناء تشاجر الفلاح مع ابنة جاره قالت له: (مخنـ ـوث) فرد عليها (انا اعرف ان تجزعي يا بـنت ايـ ـري انتي قحـ ـبة...الخ) فتطور الخلاف حتى وصل الى النيابة العامة فأصدرت النيابة قرار احالة للقضية الى المحكمة او قرار اتهام اتهمت فيه الرجل وعمره ستين سنة بانه (اسند وقائع جارحة للمجني عليها لو كانت تلك الوقائع صادقة لأ وجبت عقاب من اسندت اليه قانونا او احتقارها عند اهل وطنها حين قال لها : انا اعرف اين تجزعي يا بنت ايـ ـري انتي قحـ ـبة ....الخ) وعند مواجهة المتهم بالتهمة المشار اليها قال : بان المجني عليها هي التي بدأت بسبه وان ما قاله كان ردا عليها حيث قالت له : يا مخـ ـنوث ...الخ وقال بان لديه شهود على ذلك وبالفعل قدم شهودا اثبتوا ان المجني عليها قد بدأت بسبه, وقد توصلت المحكمة الابتدائية الى الحكم (ببراءة المتهم من تهمة السب المنسوبة اليه) وقد ورد ضمن اسباب الحكم الابتدائي (اما فيما يخص تهمة السب فقد اعترف بها المتهم الا انه ادعى انه سب المجني عليها بعد ان سبته واحضر المتهم شهودا الى المحكمة الذين شهدوا ان المجني عليها قد بدأت بسبه ,وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم {ببراءة المتهم من تهمة السب المنسوبة إليه} ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي : اما السب الوارد في نهاية قرار الاتهام فقد قاله المتهم ردا على قيام المجني عليها بسبه فهو سب متعارف عليه بين أهالي المنطقة) فقامت المجني عليها باستئناف  الحكم الابتدائي امام محكمة الاستئناف التي رفضت استئناف المجني عليها وقضت بتاييد الحكم الابتدائي ,وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (اما واقعة السب فقد قضى الحكم الابتدائي ببراءة المتهم فلم تطعن النيابة بهذا الحكم كما ان المجني عليها لم تقدم الاستئناف في الميعاد) فلم تقبل المجني عليها بالحكم الاستئنافي حيث قامت بالطعن فيه بالنقض امام المحكمة العليا, وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا(اما بالنسبة لموضوع الطعن المقدم من الطاعنة فإن الحكم الابتدائي قضى ببراءة المتهم فلم تطعن فيه النيابة العامة ولذلك فلا سبيل امام الطاعنة للطعن في ذلك الحكم) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الآتية:                                                          

الوجه الاول: الفاظ السب والقذف في الشريعة الاسلامية:

السب في الشريعة الاسلامية هو: الكذب البين الذي لا يحتاج الى اثبات كأن يقول : الساب لشخص آخر: يا كلب يا حمار...الخ, لان المسبوب ليس حمارا او كلب ولا يحتاج ذلك الى أدلة اثبات او ادلة نفي, وعقوبة السب في الشريعة الاسلامية تعزيرية وهي اخف او اقل من عقوبة القذف بنوعيه الحدي والتعزيري, اما القذف في  الفقه الاسلامي فهو : اتهام الغير بالزنا او نفي النسب ومن الفاظه : يا ز ان يا زانيـ ـة يا ابن الـ ـزنا يا قحـ ـبة وغيرها او اية الفاظ موضوعة لغة او عرفا للدلالة على نسبة فعل الزنـ ـا او نفي النسب, ويندرج ضمن القذف الحدي اتهام الغير بفعل اللـ ـواط مثل ان يقول : يا لوطـ ـي يا مخـ ـنوث مثلما  ورد في قرار الاتهام في الحكم محل تعليقنا وكذا يقع باي لفظ موضوع في اللغة او العرف للدلالة على فعل اللـ ـواط, فهذا هو القذف الحدي في الشريعة الاسلامية, اما القذف التعزيري في الفقه الاسلامي فهو اتهام الشخص لغيره بواقعة غير الزنـ ـا تحتمل التصديق والتكذيب وتثير البلبلة والاضطراب في المجتمع كمن يقول لغيره : يا سارق, يا قاتل, يا فاسد, يا اكل الحـ ـرام....او غيرها من الالفاظ الموضوعة في اللغة والعرف التي تدل على نسبة الوقائع المحتملة للتصديق والتكذيب, وكما ذكرنا فعقوبة القذف بنوعيه الحدي والتعزيري اكثر واكبر من عقوبة السب لاختلاف اثر الجريمتين في الشريعة  الاسلامية, ونخلص من هذا الى ان الالفاظ البذيئة المتداولة عند السفلة مثل : قحـ ـبة او مخـ ـنوث او زنـ ـوة او زغـ ـوه ....الخ تندرج ضمن الفاظ القذف الحدي لانها موضوعة لغة وعرفا لاتهام الغير بالزنـ ـا او نفي النسب.

الوجه الثاني : الفاظ السب والقذف في قانون الجرائم والعقوبات :

وافق هذا القانون الشريعة الاسلامية في تعريفه للقذف الحدي وكذا في تقريره العقوبة الحدية لهذا الفعل حسبما ورد في المادة (289) عقوبات الا انه جعل السب محل القذف التعزيري حيث عرف القانون السب في المادة (291) بان (السب هو اسناد واقعة جارحة للغير لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من اسندت اليه قانونا او اوجبت احتقاره عند اهل وطنه) وقد لاحظنا ان قرار الاتهام في الحكم محل تعليقنا قد استند الى هذه المادة حيث تعامل مع الفاظ القذف على اساس انها سب وليس قذف ؛ وسوف نذكر سبب ذلك لاحقا, وبناء على موقف القانون اليمني فليس هناك جريمة قذف تعزيري في نسبة الوقائع المحتملة للتصديق والتكذيب للغير حيث يكون هذا الفعل جريمة سب وليس قذف تعزيري, وهذا تساهل من القانون اليمني اغرى الناس على الطعن في غيرهم بنسبة وقائع لهم غير الزنـ ـا (يا سارق, يا قاتل,...) وهذا ايضا يفسر الانفلات في توجيه الالفاظ في وسائل التواصل الاجتماعي .

الوجه الثالث : الفاظ القذف والسب في العرف :

الفاظ القذف والسب السابق الاشارة اليها (زنـ ـوه, زغـ ـوه, قحـ ـبة, ...الخ) هذه الالفاظ البذيئة تدل صراحة على اتهام الغير بالزنـ ـا او نفي النسب في الشريعة والقانون على النحو السابق بيانه اما في العرف فان السفلة والاراذل يتلفظون ولايقصدون بها القذف  وانما السب, وبالطبع هذه الالفاظ لم يتعارف عليها العلماء والفضلاء الذين يمنعهم دينهم من مجرد التفكير بالتلفظ بها ولكن هذه الالفاظ تنتشر بين السفلة والطغام, ولذلك فان هذه الالفاظ نتاج عرف فاسد مخالف لأحكام الشرع والقانون حسبما سبق بيانه, فالواجب على العرف ان لا يخالف الشرع والقانون والا كان فاسدا, وبناء على ذلك فلا ينبغي التعويل على العرف في هذه الحالة وانما يتم تطبيق احكام الشرع والقانون اذا اردنا الارتقاء بالمجتمع ونشر الفضيلة والاخلاق بدلا من الانجرار وراء الاعراف الفاسدة المخالفة للشرع والقانون  .

الوجه الرابع : القصد الجنائي في توجيه الفاظ السب والقذف :

من الاشكاليات العملية مسألة القصد الجنائي عند تلفظ القاذف او الساب باللفظ, فاذا كان من السهل اثبات القصد في حالة وجود خلاف او مهاترة او مشادة بين الجاني والمجني عليه مثلما حصل في القضية التي اشار اليها الحكم محل تعليقنا ولكن ليس من السهل اثبات القصد في حالة المزاح بين الجاني والمجني عليه السفلة الذين اعتادوا اطلاق هذه الالفاظ بينهم (زنـ ـوه, زغـ ـوه....الخ) وذلك على سبيل المزاح على اساس انهم عندما يتلفظون بهذه الالفاظ لا يقصدون بها نفي النسب وانما المزاح وقرائن الحال تدل على ذلك, الا انه من المقرر في فقه الشريعة الاسلامية والقانون ان هناك الفاظا صريحة  تدل على نفي النسب او فعل الزنـ ـا فمن تلفظ بها عامدا فقد وقعت الجريمة؛ لان الاحكام تقام على الظاهر فنحن غير معنيون بالبحث عن نية المتلفظ وقصده.

الوجه الخامس : اذا لم تطعن النيابة في احكام البراءة فلا سبيل للمجني عليه بالطعن :

وهذا الامر مقرر في المادتين (412و413) اجراءات فالمادة (412) حصرت الطعن في الجانب الجنائي في النيابة العامة التي لها وحدها تقرير الطعن من عدمه في الجانب الجنائي من الحكم باعتبار النيابة العامة تمثل المجتمع, وبموجب ذلك لا يحق للمجني عليها الطعن في العقوبة المحكوم بها على الجاني او المطالبة بإلغاء الحكم بالبراءة وادانته حسبما ورد في طعن المجني عليها لان ذلك الحق مقصور على النيابة العامة, في حين ان حق المجني عليها مقصور على الطعن في الجانب المدني من الحكم الا ان المجني عليها فرطت في حقها اذ انها لم ترفع دعوى مدنية امام المحكمة المدنية للمطالبة بحقها في التعويض عن الاضرار التي لحقت بها جراء الجريمة التي ارتكبها المتهم, وعلى فرض انها قدمت دعواها المدنية التبعية فان الحكم ببراءة المتهم من التهمة سيكون حائلا دون الحكم لها بالتعويض, لان سند الحكم بالبراءة ليس انتفاء الجريمة او عدم ثبوتها ولكن العرف السائد بينهم ان تلك الالفاظ التي تلفظ بها المتهم لا تفيد القذف والاتهام بالزنـ ـا وانما مجرد السب وتبعا لذلك لم يلحق المجني عليها أي ضرر بحسب ما ورد في الحكم الابتدائي، والله اعلم.