العقوبة التعزيرية عند سقوط القصاص

 

 العقوبة التعزيرية عند سقوط القصاص

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

تشدد الفقه الإسلامي في تطبيق القصاص لخطورة هذه العقوبةوجسامتها، وتابع الفقه الإسلامي في ذلك قانون الجرائم والعقوبات حيث لا يتم تطبيق القصاص إلا في حالات ضيقة لصعوبة اثبات القصاص لأنه ملحق بالحدود من حيث اثباته، ولذلك فانه عند سقوط القصاص لأي سبب  يتبقى الحق العام المتمثل في حماية المجتمع من الجاني الذي سقط عنه القصاص ومن قيام أي شخص غير الجاني بإرتكاب جرائم القتل واستغلال مسقطات القصاص ،ولهذه الغاية وجدت العقوبة التعزيرية لمواجهة الخطورة الجرمية لدى بعض الجناة ، فاذا سقط القصاص ودلت الظروف على خطورة الجاني فيتم عندئذ توقيع العقوبة التعزيرية حتى لو سقط القصاص، وهذه المسالة   تثير جدلاً وإشكاليات عدة تستدعي الاشارة إليها في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 28/5/2013م في الطعن رقم (47846) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان شخصاً قام بإطلاق النار على جاره فأرداه قتيلاً ثم قام بإطلاق النار على الاشخاص الذين حاولوا اسعاف المصاب،  وكان قد سبق للجاني ان حاول دهس المجني عليه بسيارته قبل الحادث بيوم واحد ، وقد قضت المحكمة الابتدائية بمعاقبة المتهم بالإعدام قصاصاً رمياً بالرصاص حتى الموت، فقام المتهم باستئناف الحكم وفي اثناء نظر الشعبة الجزائية للقضية تنازلت أم المجني عليه عن حقها في القصاص، فحكمت الشعبة الجزائية بسقوط القصاص بتنازل الأم  وقضى الحكم الابتدائي   بالزام المتهم بدفع نصيب بقية الورثة من الدية وحبس المتهم عشر سنوات في الحق العام، فلم يقبل المتهم بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض، إلا أن الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فقد وجدت الدائرة أن الطاعن يعيب على الحكم الاستئنافي أنه قد اخطأ في تطبيق القانون حينما  قام بتطبيق الظروف المشددة في الحق العام فذلك مخالف لما تضمنته الوقائع والظروف التي احاطت بالواقعة، والدائرة من خلال رجوعها إلى أوراق القضية وجدت أن الطاعن قد حاول قتل المجني عليه دهساً بالسيارة في اليوم السابق لقيامه بإطلاق الرصاص عليه لولا ان منعه اخو الطاعن وكذا فقد ثبت بشهادة الشهود أن الطاعن في يوم واقعة القتل كان قد اطلق النار على المجني عليه طلقتين فسقط المجني عليه أرضاً فواصل الطاعن اطلاق النار على المجني عليه وهو ينزف دماً في الشارع العام وبعد ذلك قام الطاعن بأطلاق النار على كل من كان يحاول اسعاف المجني عليه واستمر في اطلاق النار حتى حضر اخو الطاعن فأخذ السلاح منه ، لذلك فان الشعبة لم تخالف القانون في استنادها إلى المواد (8 و 9 و109) عقوبات والتي اعطت الحق للقاضي أن يقدر العقوبة التقديرية المناسبة بين الحدين الاعلى والأدنى المقررين للجريمة مراعياً في ذلك كافة الظروف المخففة أو المشددة بالارتباط بالمادة (234) عقوبات الفقرة (2) التي نصت على أنه اذا امتنع القصاص يعزر الجاني بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن عشر سنوات، ولذلك فان نعي الطاعن على الحكم الاستئنافي يكون على غير أساس مما يستوجب رفضه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : الحكمة من تقرير العقوبة التعزيرية عند سقوط القصاص :

القصاص عقوبة مقدرة تتضمن حقوق عدة منها حق المجتمع وحق الله وحق اولياء الدم وهو الغالب، ولذلك جعلت الشريعة الاسلامية الحق في المطالبة بإجراء القصاص والعفو عنه لأولياء الدم، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس هناك حقاً لله أو حقاً عاماً للأمة، فالنفس البشرية تجتمع فيها حقوق ثلاثة حق اولياء الدم الذين افتقدوا قريبهم وحق الله سبحانه تعالى الذي خلق النفس البشرية الأم القاتل بازهاقها بالإضافة إلى حق الامة التي افتقدت عضواً عاملاً من اعضائها، ولذلك جعلت الشريعة الاسلامية حفظ النفس البشرية مقصداً من مقاصدها وكلية من الكليات الخمس (الدين والنفس والنسل والمال والعقل) ومن هذا المنطلق أيضاً قررت الشريعة الاسلامية العقوبة التعزيرية على قتل النفس البشرية حتى لو عفى اولياء الدم عن الجاني، وذهب قانون الجرائم والعقوبات اليمني أيضاً إلى تقرير العقوبة التعزيرية على القاتل حتى لو سقط القصاص أو امتنع،  حيث تقرر المادة (234) عقوبات العقوبة التعزيرية للقاتل حتى لو سقط القصاص لأي سبب حيث تنص هذه المادة على انه (يعزر الجاني بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات ويجوز أن يصل التعزير إلى الحكم بالإعدام اذا كان الجاني معروفاً بالشر أو ارتكب القتل بوسيلة وحشية أو على شخصين فأكثر أو وقع القتل  من شخص سبق ان ارتكب قتلاً عمداً أو توطئة لإرتكاب جريمة اخرى أو لإخفائها أو على امرأة حامل أو على موظف أو مكلف بخدمة عامة اثناء أو بسبب أو بمناسبة تأديته وظيفته أو خدمته حتى لو سقط القصاص بالعفو) وخلاصة القول ان القانون اليمني يقرر العقوبة التعزيرية على القاتل حتى لو امتنع القصاص أو سقط كما أن النص السابق يقرر ان هذه العقوبة هي الحبس ومع ذلك فقد اجاز ان تصل العقوبة التعزيرية إلى الإعدام في الحالات المشار اليها في النص السابق ذكره وحسبما سنرى.

الوجه الثاني : عقوبة الإعدام تعزيرا للقاتل حتى لو سقط القصاص:

حيث اجازت المادة (234) عقوبات أن تصل عقوبة القاتل التعزيرية إلى الاعدام حتى لو سقط القصاص، وبينت تلك المادة الحالات التي يجوز فيها تشديد العقوبة التعزيرية للقاتل إلى الإعدام ،حيث نصت تلك المادة على أنه (ويجوز ان يصل التعزير إلى الحكم بالإعدام اذا كان الجاني معروفاً بالشر أو ارتكب القتل بوسيلة وحشية أو على شخصين فاكثر أو من شخص سبق له أن ارتكب قتلاً عمداً أو توطئة لإرتكاب جريمة اخرى أو لإخفائها أو على امرأة حامل أو على موظف أو مكلف بخدمة عامة اثناء أو بسبب أو بمناسبة تأدية وظيفته أو خدمته حتى لو سقط القصاص) ولخطورة عقوبة الإعدام فقد حدد النص الحالات التي يجوز فيها للقاضي ان يحكم بالإعدام على القاتل تعزيراً حتى لو سقط القصاص حيث ذكرها النص على سبيل الحصر ،فلا يجوز القياس عليها ،كما أن الحكم بالإعدام في هذه الحالات يكون جوازياً وليس وجوبيا،ً ولذلك فقد لا يحكم القاضي بالإعدام تعزيراً حتى إذا تحققت الحالات المذكورة في النص السابق ذكره.

الوجه الثالث : عقوبة الحبس التعزيرية للقاتل إذا سقط القصاص او امتنع :

اجازت المادة (234) عقوبات  معاقبة القاتل تعزيرا  اذا سقط القصاص عنه أو امتنع حيث نصت تلك المادة على أنه (من قتل نفساً معصومة عمداً يعاقب بالإعدام قصاصاً إلا ان يعفو ولي الدم فان كان العفو مطلقاً او بشرط الدية أو مات الجاني قبل الحكم حكم بالدية ،ويشترط للحكم بالقصاص ان يطلبه ولي الدم وان يتوفر دليله الشرعي، فاذا تخلف احد الشرطين أو كلاهما واقتنع القاضي من القرائن بثبوت الجريمة في حق المتهم أو اذا امتنع القصاص أو سقط بغير العفو يعزر الجاني بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات ...الخ) فقد تضمن هذا النص القانوني الحد الادنى والحد الاقصى لعقوبة حبس القاتل إذا  امتنع القصاص او سقط، ولا شك انه عند تقدير القاضي  لعقوبة الحبس للقاتل في هذه الحالات فان القاضي يختار عقوبة الحبس المناسبة للجاني والجناية بحسب ظروفهما المشددة أو المخففة  طالما أن العقوبة المقدرة لا تزيد على الحد الاعلى  ولاتقل عن الحد الادنى، فالقاضي حينما يقدر عقوبة الحبس يراعي الظروف التي احاطت بالفعل والجاني، الا ان النص القانوني لم يشر الى الظروف او الحالات التي تستدعي تشديد عقوبة الحبس بخلاف حالات عقوبة الإعدام تعزيراً التي ذكرها القانون على النحو السابق بيانه،لان عقوبة الحبس اقل خطورة من عقوبة الإعدام تعزيراً، ولذلك فان الظروف التي يراعيها القاضي في تقدير عقوبة الحبس لا حصر لها، ولذلك فقد اعتبر الحكم محل تعليقنا سبق محاولة الجاني دهس المجني عليه بالسيارة ظرفاً مشدداً وكذا اطلاق الاعيرة النارية على المجني عليه بعد سقوطه أرضاً واطلاق النار على الاشخاص الذين حاولوا اسعاف المجني عليه مما جعل الحكم يقضي بمعاقبة الجاني تعزيراً بالسجن عشر سنوات وهو الحد الاقصى لعقوبة حبس القاتل تعزيرا على فعل القتل اذا سقط القصاص، ومع ذلك فان الحكم محل تعليقنا لم يقض بعقوبة الإعدام تعزيراً لعدم تحقق أي من الحالات التي يجوز عند تحققها الحكم بالإعدام تعزيراً، والله اعلم.