التراجع عن التنازل قبل قبوله - مدونة الاستاذ الدكتور عبد المؤمن شجاع الدين

 التراجع عن التنازل قبل قبوله

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين 

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من المسائل الواقعية التي يتكرر وقوعها  تنازل الجد أو الجدة عن نصيبيهما في تركة ابنهما المتوفي  اثناء حياتهما بدافع الشفقة التي تنتابهما بعد وفاته إلا انهما بعد ذلك قد يتراجعا عن ذلك التنازل او الهبة كما ان الموهوب لهم او المتنازل لهم قد يصرحوا بقبول التنازل أو الهبة كما انهم قد لا يعلموا بهذا التنازل او قد لايقبلوا،كما ان الجد الواهب قد يتراجع عن تنازله أو هبته قبل ان يقبل او يعلم الموهوب لهم ، وفي هذا الشان فقد قضى الحكم محل تعليقنا بان تراجع الجد في هذه الحالة أي قبل قبول الموهوب لهم يبطل الهبة، والحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 30/7/2018م وتتلخص وقائع القضية ان الجدة صرحت بعد وفاة ابنها بانها قد تنازلت عن نصيبها من تركة ابنها وذلك لبناته وقد كان هذا التنازل بحضور جماعة من النسوة اللاتي قدمن لتعزيتها بوفاة ابنها لكنها في اليوم الثاني صرحت بحضور شهود من الرجال بانها قد تراجعت عن تنازلها عن نصيبها لكثرة أموال ابنها وكفايتها وزيادة بالنسبة لبناته، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بصحة تراجع الجدة وعدم إنعقاد الهبة لانه لم يتم قبول الهبة أو التنازل من ورثة ابنها لان التراجع قد حصل في اليوم الثاني من التنازل وان التراجع ثابت بشهادة الشهود وان من شروط الهبة قبول الموهوب له في حين انه من الثابت ان بنات الابن الموهوب لهم لم يقبلوا هبة جدتهم،فقمن بنات الابن باستئناف الحكم إلا أن الشعبة الشخصية قضت بتأييد الحكم الابتدائي، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (اما ما اثارته المستأنفات من عدم جواز التراجع في الهبة فهذا القول مردود عليه لان من شروط صحة الهبة  قبول الموهوب له للهبة وهذا الشرط لم يقع فالموهوب لهن  لم يثبتن انهن قبلن الهبة، إذ لم يكن حاضرات اثناء التنازل من الواهبة كما ان الوقت لم يسعهن لقبول التنازل نظراً لان التراجع من المتنازلة كان في اليوم الثاني مباشرة بحسب ماهو ثابت في شهادة الشهود) فلم يقنعن بنات الابن فقمن بالطعن بالنقض غير ان الدائرة الشخصية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فقد ناقشت الدائرة تفاصيل ما ورد في الطعن وأوراق القضية فوجدت ان الحكم الاستئنافي المطعون فيه موافق من حيث النتيجة للشرع والقانون وذلك لما علل به واستند اليه في قضائه بتأييد الحكم الابتدائي مما يستوجب رفض الطعن موضوعاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية : 

الوجه الأول : تكييف التنازل في هذه القضية : 

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد انه قد قضى بتكييف تنازل الجدة عن نصيبها من تركة ابنها المتوفي اثناء حياتها على انه هبة من الجدة لبنات ابنها، وهذا تكييف صحيح لان التنازل حينما يكون من غير عوض أو مقابل فهو هبة اما اذا كان التنازل بمقابل فيكون تكييفه انه بيع، وبما ان تنازل الجدة كان من غير مقابل وفي اثناء حياة الجدة فانه يكون من قبيل الهبة حيث ينطبق على هذا التصرف تعريف الهبة الوارد في المادة (168) أحوال شخصية التي نصت على ان (الهبة عقد تبرعي يملك به مال او تباح به منفعة حال الحياة). 

الوجه الثاني : قبول الهبة وتأثيره على صحة التصرف : 

القبول ركن من اركان الهبة لان القانون اشترط لانعقاد الهبة الايجاب من الواهب والقبول من الموهوب له، فاذا لم يتم القبول من الموهوب له فلا تنعقد الهبة، وفي هذا المعنى نصت المادة (171) أحوال شخصية على ان (تكون الهبة بإيجاب من الواهب او نائبه وقبول من الموهوب له او نائبه قبل الإعراض ولا يشترط في الإيجاب والقبول ان يكون صريحين او في مجلس واحد وإنما يشترط التراضي صراحة او ضمناً بما تدل عليه قرائن الأحوال ،وتصح الهبة بالكتابة وبالرسالة أو بالإشارة المفهمة من أخرس ولا تتم الهبة الا بقبول الموهوب له او نائبه ويقوم القبض مقام القبول) ومن خلال استقراء النص يظهر انه اشترط قبول الهبة مرتين في سياق النص وذلك من قبيل التأكيد على ان القبول ركن من اركان الهبة لا تقوم لها قائمة بدونه، كما ان النص قد بيّن كيفية قبول الهبة وانه يجوز ان يكون ضمنياً كقبض الهبة اذا كانت منقولاً او قبض وثيقة الهبة اذا كانت الهبة مكتوبة في وثيقة، وعند تطبيق هذا النص على الهبة التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد انها لم تنعقد بقبول الموهوب لهن حيث ان الإيجاب صدر من الجدة ولم يبلغ إلى حفيداتها وقبل بلوغ الإيجاب إلى الحفيدات تراجعت الجدة عن الإيجاب فلم تنعقد الهبة،ولايمكن القول بأن قبض البنات الاموال الموهوبة يعد قبضا وفقا للنص لأن الايجاب لم يبلغ البنات اصلا كما أن الجدة لم تقم بتسليم البنات الاموال الموهوبة فلم يتم القبض بالتسليم أو بالتخلية، وحتى لا تثور الإشكاليات فان الأولى ان تكون الهبة ثابتة في وثيقة مكتوبة لا سيما اذا كانت الهبة عامة كمن يتنازل عن نصيبه مطلقا في تركة ابنه او اذا كان الشيء الموهوب عقاراً حتى يسهل إثبات الهبة وإجراء أية تصرفات لاحقة في الشيء الموهوب كما يفضل أن يثبت في وثيقة الهبة مايفيد تصريح الموهوب له بقبول الهبة منعا للنزاع في هذا الشان . 

الوجه الثالث : مدى جواز الرجوع في الهبة في هذه الحالة : 

كان اساس الخلاف بين الحفيدات وجدتهن في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا هو مدى جواز رجوع الجدة عن تنازلها عن نصيبها في تركة ابنها حيث قضى الحكم بجواز رجوع الجدة عن هبتها لان الرجوع قد تم قبل قبول الحفيدات وسند الحكم في ذلك ان الهبة تبرعية في هذه الحالة فليست بعوض والهبة التبرعية يجوز الرجوع فيها عملاً بالمادة (196) أحوال شخصية التي حددت حالات الرجوع عن الهبة ومنها ان تكون الهبة تبرعية ...الخ. 

الوجه الرابع:مدى جواز تنازل الوارث عن نصيبه في التركة: 

من الجائز وفقاً لأحكام الشرع والقانون ان يتنازل الوارث اذا كان ذكراً بالغاً عاقلاً راشداً عن نصيبه من التركة لغيره  بل ان ذلك من الامور المحمودة غير انه لا يجوز له التنازل عن نصيبه في تركة مورثه  قبل وفاته، لان المورث ما زال حياً لم يترك شيئاً، فتنازل الوارث عن نصيبه في التركة بعد تحقق وفاة مورثه ليس فيه غرر او جهالة لان الغرر في التبرعات جائز بخلاف الغرر في المعاوضات عملاً بقوله تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سبيل} [سورة التوبة 91] اما في القانون فقد اجاز القانون المدني للشريك او الوارث ان يبيع نصيبه الشائع، فاذا كان يجوز للوارث ان يبيع نصيبه شائعاً فانه يجوز له ان يهبه شائعاً، والله اعلم. 



الاسعدي للطباعة ت : 772877717