الاقرار أولى من الشهادة

 

الاقرار أولى من الشهادة

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

الحقوق والالتزامات متعددة ومختلفة وتبعاً لذلك كانت وسائل اثباتها مختلفة ومتعددة حتى تحمي تلك الحقوق والالتزامات وتحفظها من العبث والضياع ؛ومع ذلك فان وسائل الاثبات ايست في مرتبة واحدة من جيث حجيتها فضلا عن انها تتعارض في احيان كثيرة ؛ويكشف التطبيق القضائي عن كيفية دفع التعارض بين وسائل الاثبات حينما تتعارض، ومن ذلك التعارض الذي يقع فيما بين الشهادة والاقرار لا سيما اذا كان الاقرار ثابتا بمحرر مشهود عليه؛ حيث قرر الحكم محل تعليقنا ان الاقرار اولى واقدم في الاحتجاج عندما يقع التعارض بينهما، ومن هذا المنطلق اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 18/5/2011م في الطعن المدني رقم (43559) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد الاشخاص قام بتحرير سند اقر فيه بانه مدين لشخص بمبلغ واحد وثلاثين الف ريال سعودي وبموجب هذا السند تقدم الدائن بدعوى امام المحكمة الابتدائية طلب فيها الزام المدين المدعى عليه بسداد المبلغ المذكور في السند، فرد المدعى عليه على الدعوى بان المبلغ ليس ديناً وانما هو مقابل شراكة في محل خياطة وليس دينا؛ً وللاستدلال على ذلك احضر شاهد واحد  شهد بان المبلغ كان مقابل شراكة ولم يكن دينا؛وبعد ان سارت المحكمة في اجراءات نظر القضية توصلت الى الحكم بقبول الدعوى والزام المدعى عليه بدفع الدين الذي بذمته وهو المبلغ المشار اليه، وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي (فقد تبين للمحكمة ثبوت الدين بذمة المدعى عليه من خلال السند المحرر بخط المدعى عليه نفسه والموقع عليه من قبله الذي لم ينكره المدعى عليه وحيث ان المدعى عليه قد عجز عن اثبات ان المبلغ المدفوع كان مساهمة في الشراكة  اما استدلاله بشهادة الشاهد...الذي شهد بان المبلغ المدفوع كان بغرض الشراكة فان ذلك يتعارض مع الاقرار الصريح للمدعى عليه الثابت في السند الذي لم ينكره المدعى عليه او يشكك فيه ) فلم يقبل المدعى عليه بالحكم الابتدائي فقام باستئناف الحكم إلا أن الشعبة الاستئنافية قضت بتأييد الحكم الابتدائي ، وقد ورد في اسباب الحكم الاستئنافي (ان المستأنف لم ينكر المحرر المتضمن اقراره كما انه لم يستطيع اثبات ان المبلغ كان الغرض منه الشراكة بينه وبين المستأنف ضده في محل الخياطة المملوك للمستأنف وهو ما يتعين معه عدم التعويل على دعوى الشراكة التي ذكرها المستأنف وحيث ان المحرر المتضمن اقرار المستأنف صحيح باعتراف المستأنف نفسه فلامحل لقبول شهادة الواحد) فلم يقبل المدين بالحكم الاستئنافي حيث قام بالطعن فيه بالنقض الا ان الدائرة المدنية رفضت الطعن واقرت الحكم الاستئنافي ، وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (فقد وجدت الدائرة ان الطاعن قد نعى على الحكم المطعون فيه تجاهله شهادة الشاهد الذي شهد بان المبلغ المذكور في السند ليس ديناً وانما هو مساهمة من المطعون ضده في مشروع مشترك مع الطاعن، والدائرة تجد ان هذا النعي في غير محله فقد سبق للطاعن اثارته امام محكمة الاستئناف التي قضت برفضه تأسيساً على ما ذكرته في حيثيات حكمها حيث ذكرت بان الطاعن لم ينكر ان المحرر أو السند بخطه وانما حاول ادعاء الشراكة بينه وبين المطعون ضده ولكنه لم يستطع اثبات دعواه بالشراكة مع ان المحكمة الابتدائية والاستئنافية قد اتاحت له ذلك اما شهادة الشاهد التي استدل بها الطاعن امام الشعبة الاستئنافية التي ذكر فيها ان المبلغ المذكور في السند مقابل الشراكة في محل خياطة فان هذه الشهادة لا يعوٌل عليها لمخالفتها ما حرره المستأنف الطاعن بان في ذمته دين للمدعي مبلغ وقدره واحد وثلاثون الف ريال سعودي دون ان يتضمن السند ما يشير الى ان سبب دفع هذا المبلغ هو علاقة شراكة او علاقة تجارية بين الطرفين كما ان هذه الشهادة مخالفة لما ثبت في السند ولذلك لا يجوز اتمامها باليمين المتممة حسبما طلب الطاعن في طعنه لان الشهادة غير مقبولة حسبما سبق بيانه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : مرتبة الاقرار بالنسبة للشهادة وحجيته :

الفقهاء مجمعون على ان الاقرار أقوى الادلة لانتفاء التهمة فيه فقد نص الزيدية والحنفية على ان الاقرار حجة شرعية فوق الشهادة ولا ينقص من ذلك كون حجية الاقرار قاصرة على المقر بخلاف الشهادة؛ فالاقرار اولى من الشهادة لان الشخص لايتهم بالكذب على نفسه في حين ان الشاهد يحتمل ان يكذب على غيره اي على المشهود عليه  فالاقرار تنتفي فيه التهمة، ونص المالكية على ان الاقرار ابلغ من الشهادة فقد قال اشهب :(قول كل احد على نفسه أوجب من دعواه على غيره، ونص الشافعية على ان الاقرار اولى بالقبول من الشهادة (البحر الزخار 2/163 وحاشية ابن عابدين 3/162 ومغني المحتاج 2/241 وحاشية الدسوقي 3/145) ، اما قانون الاثبات اليمني فلم يتناول مرتبة الاقرار او اولويته  على الشهادة؛ ولذلك فالمرجع في هذه الحالة هو الفقه الاسلامي؛ وقد ذكرنا ان الفقه متفق على ان الاقرار اولى من الشهادة ، ولذلك لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد قضى بان الاقرار اولى من الشهادة عند التعارض بينهما.

الوجه الثاني : صيغة الاقرار :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان الاقرار الذي اعتمده الحكم كانت صيغته في سند بخط المقر أي ان الاقرار كان كتابياً ينطبق عليه تعريف الاقرار في الفقه والقانون؛ وفي هذا المعنى نصت المادة (78) اثبات على ان (الاقرار هو اخبار الانسان شفاهة او كتابة على ثبوت حق لغيره على نفسه) فصيغة الاقرار في الحكم محل تعليقنا قد جاءت ضمن سند كتبه المقر بنفسه وبخطه وبتوقيعه اقر فيه بان في ذمته مبلغ واحد وثلاثين الف ريال سعودي للمدعي، وبناءً على ذلك فان السند بمثابة اقرار كتابي تنطبق عليه احكام الاقرار بما في ذلك اولويته على الشهادة وحجيته المطلقة على المقر.

الوجه الثالث : الاقرار الكتابي والمحرر الكتابي واثبات الاقرار :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا ومن خلال نص المادة (78) اثبات وكتابات الفقهاء السابق الاشارة اليها نجد ان صيغة الاقرار قد تكون شفاهة كما قد تكون كتابة، فعندما يكون الاقرار كتابة يسهل اثباته والاحتجاج به مثلما ورد في الحكم محل تعليقنا، ولذلك فان الاقرار وان كان من وسائل الأثبات الا انه يحتاج الى إثباته؛ وهذه خاصية ينفرد بها الاقرار عن غيره من وسائل الاثبات؛ ولذلك فان الاقرار يتم اثباته بالكتابة عن طريق المحررات العرفية او الرسمية ؛ولذلك لاحظنا ان السند الذي تناوله الحكم محل تعليقنا كان محرراً عرفياً قام بتحريره المدعى عليه او المحكوم عليه بخطه وتوقيعه حيث تنطبق عليه احكام المحرر العرفي من حيث تعريفه وحجيته المنصوص عليها في المادتين (103 و 104) اثبات ولو تم تحرير الاقرار او السند لدى الامين الشرعي او قلم التوثيق او تم توثيقه لدى قلم التوثيق لصار محرراً رسمياً بموجب المادتين (98 و 100) اثبات ، اما لو كان اقر المحكوم عليه بالمبلغ الذي بذمته للمحكوم له خارج مجلس القضاء او المحكمة لكان من اللازم على المستدل بالإقرار ان يثبت صدور الاقرار من المقر عن طريق شهادة الشهود او القرائن القطعية.


الوجه الرابع : ترتيب وسائل الاثبات ومراتب حجيتها في قانون الاثبات وتوصية للمقنن اليمني :

اسهب الفقهاء في بيان ترتيب ومراتب ادلة الاثبات حسبما هو مبسوط في كتب الفقه الاسلامي ، اما قانون الاثبات فلم يشر الى ترتيب ومراتب وسائل الاثبات من حيث حجيتها عند التعارض معان هذه المسالة لها اهميةبالغة  في التطبيق العملي ، ولذلك اوصي مخلصاً المقنن اليمني باستدراك هذا القصور وتضمين قانون الاثبات نصاً يبين مراتب حجية وسائل الاثبات التي نظمها القانون؛ والله اعلم.