ظاهرة تزوير الوثائق القديمة لملكية العقارات
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
سيظل السلم الاجتماعي
والتكافل الاجتماعي والتعاون أهدافاً سامية ينشدها كل الخيرين في اليمن لكنها ستظل
أماني طيبة لن تجد لها سبيلاً للتحقيق ما دام أن هناك اسباب تحدث النزاع والصراع
والخلاف بين اليمنيين أفراداً وجماعات، ولعل من أهم أسباب التنافر والتناحر
والصراع الاجتماعي والخلاف هو وثائق ملكية الأراضي التي ظلت بمنائ عن استيعاب
المستجدات التقنية والاجتماعية والقانونية حيث ظلت كما هي منذ اكثر من خمسمائة
سنة، ومما يزيد الطين بلة أن تتعرض للتزوير الوثائق القديمة العرفية المثبتة
لملكية العقارات لان تزوير تلك الوثائق
يؤجج الصراعات والخلافات ويزيد من حدتها، ولأهمية هذا الموضوع وخطورته على السلم
الاجتماعي وبغرض التوعية ولفت الانظار اليه فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر
عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 21/2/2010م في
الطعن الجزائي رقم (36435) لسنة 1429هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم أن شقيقين اختلفا بشأن ملكية بعض المواضع الزراعية وفي اثناء الخلاف بينهما
قام أحدهما بإبراز بصائر أو محررات مزورة وحينئذ قام الاخ الاخر بتقديم شكوى إلى
النيابة العامة التي قامت بالتحقيق مع الأخ المزور وبعد ذلك توصلت النيابة إلى
ثبوت تزوير المحررات المشار اليها فقامت النيابة بإحالة القضية الى المحكمة حيث
ورد في قرار الاتهام بان الأخ المتهم استعمل عدة محررات عرفية مزورة أمام محكمة .... اضراراً بالمجني
عليه شقيقه .... وذلك بأن قام المتهم باستعمال وابراز ستة محررات عرفية أمام
المحكمة المشار اليها وهذه المحررات تحمل التواريخ (1324هـ و1341هـ و1366هـ
و1388هـ و 1335هـ و1389هـ) اضراراً بملكية المجني عليه لستة مواضع زراعية.وطلبت
النيابة معاقبة المتهم وفقاً للمواد (17 و 215 و 219) عقوبات وامام المحكمة انكر
المتهم ارتكابه لهذه الجريمة، وقد سارت المحكمة في إجراءات نظر القضية حتى توصلت
إلى الحكم بثبوت التهم المنسوبة للمتهم وحبس المتهم مدة سنة عقوبة تعزيرية لثبوت
استعماله للمحررات المزورة هذا في الحق العام أما في الحق الخاص فقد حكمت المحكمة
ببطلان المحررات المزورة والزام المتهم بدفع مبلغ خمسين الف ريال للمجني عليه
مصاريف تقاضي بالإضافة إلى مبلغ عشرين الف ريال تعويض للمجني عليه لما لحقه من
اضرار ناتجة عن هذه القضية، فلم يقبل المتهم بالحكم الاستئنافي حيث قام باستئنافه
واثناء نظر الشعبة الجزائية الاستئنافية للقضية توفى المتهم ولذلك فقد قضت الشعبة
بانقضاء الدعوى الجزائية بالوفاة واعادة القضية الى محكمة أول درجة فقام المجني
عليه بالطعن بالنقض فيما يتعلق بالجانب المدني الذي أهدره الحكم الاستئنافي إلا
أنه قدم الطعن بالنقض بعد مضي المدة المحددة قانوناً لقبول الطعن حيث قضت الدائرة
الجزائية بعدم قبول الطعن واعتبار الحكم الاستئنافي حكماً باتاً واجب النفاذ)
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :
الوجه الأول : الوضعية الواقعية لوثائق الملكية القديمة في اليمن :
وثائق الملكية
القديمة هي الوثائق الدالة على ملكية الاراضي وحركتها وانتقالها وحيازتها وهذا
المعنى يشمل وثائق شراء الاراضي وفصول القسمة للاراضي بين الورثة أو الشركاء وهذا
المعنى يشمل وثائق شراء الاراضي وفصول القسمة للاراضي بين الورثة أو الشركاء
ووثائق نزع بعض الاراضي من الفصول ووثائق الشفعة والمناقلة ووثائق اجارة الاراضي
أو المزارعة او المساقاة أو المغارسة وسندات تحصيل الغلات أو الايجارات وغير ذلك،
وهذه الوثائق القديمة محل الاشكالية والاكثر عرضة للتزوير لان غالبيتها
العظمى عبارة عن محررات عرفية حيث لم يقم
بتحريرها امناء شرعيون بل اشخاص عدة خطوطهم معروفة ومشهود لهم بالعدالة كما ان هذه
الوثائق ليست موثقة في المحاكم أو مسجلة
في السجل العقاري ، بالإضافة إلى أن تلك الوثائق يرد فيها الحشو والإضافة والشطب
لان ذلك في مفهوم المتقدمين لم يكن دليلاً على تزوير المحرر بخلاف المفهوم السائد
في الوقت الحاضر، إضافة إلى ان بعض الفاظ وعبارات تلك الوثائق غير مفهومة علاوة
على ان اسماء بعض المواضع والاماكن الواردة فيها تكون مختلفة عما هي عليه في الوقت
الحاضر، ومع أن الوثائق القديمة ليست موثقة أو مسجلة إلا انها تكون صحيحة وموثوق
بها لان خطوط كتابها معروفة وشائعة ومشهورة ويسهل التعرف عليها والاستدلال على صحة
الخط وعدالة الكاتب ويستطيع العارفون التأكد من صحة الوثيقة واكتشاف أي تزوير
فيها.
الوجه الثاني : كيفية التزوير في الوثائق القديمة:
من خلال التجربة
والدراسة للكثير من وثائق الملكية القديمة من مناطق يمنية مختلفة واكثرها من
محافظات أمانة العاصمة وصنعاء وعمران وصعدة وحجة، من خلال ذلك يتبين أن غالب حالات
التزوير تكون من قبيل التزوير المعنوي الذي يتم عن طريق اصطناع وثائق ملكية كاملة
تتضمن بيانات غير حقيقية.وهذه الطريقة هي اكثر حالات التزوير بالنسبة للوثائق
القديمة ففي هذه الحالة يقوم المزور باصطناع وثيقة كاملة بكل تفاصيلها تتضمن
بيانات كاذبة مثل وثيقة بيع أو اجارة أو غيرها وهذه الطريقة هي اكثر طرق تزوير
الوثائق القديمة.ً وتعتمد هذه الطريقة على البيانات المتوفرة لدى المزور عن الارض
التي تحكيها الوثيقة المزورة مثل مساحتها وحدودها واسمها واسماء الملاك السابقين
لها ووسيلة انتقالها بينهم واسماء الكتبة الذين تولوا كتابة وثائقها واسماء الشهود
المعاصرين للفترة او التاريخ المزور للوثيقة، ولشيوع هذه الظاهرة فان اغلب
اليمنيين يحجمون عن ابراز وثائقهم حتى لا تتسرب بياناتها إلى المزورين المحترفين،
وبالاضافة إلى طريقة اصطناع وثيقة مزورة كاملة فهناك طريقة التزوير المادي
التي تتم عن طريق قيام المزور بإضافة
فقرات اوعبارات أو جمل أو كلمات إلى وثيقة ملكية صحيحة حيث يتم التزوير عن طريق
الحشو أو الإضافة في حواشي الوثيقة أو ظاهرها. والغالب في هذه الطريقة انه يكون
التزوير عن طريق إضافة كلمات حتى يسهل تقليد الكلمات الواردة في الوثيقة الصحيحة
التي تتم الكتابةالمزورة في حواشيها او بين اسطرها لان إضافة فقرات او جمل طويلة يسهل اكتشاف تزويرها .وفي
كل حالات التزوير تكون الوثائق القديمة السابقة لانتقال الارض إلى الحائز هي
الاكثر عرضة للتزوير لكثرة الوثائق
السابقة على التصرف بالارض الى الحائز الاخير. وعدم وجود هذه الوثائق لدى الحائز
الاخير للارض لعدم اهميتها بالنسبة له عند انتقال الارض اليه ولانها تكون سابقة
للفترة التي انتقلت فيها الملكية له فهي تعد بالنسبة للحائز بمثابة وجائد.
الوجه الثالث : مزوروا الوثائق القديمة :
مزوروا الوثائق
معروفون بالاسم والخط عبر العصور المختلفة. وذلك اية من آيات الله في فضح المزورين
في كل العصور فكل ابناء اليمن تقريباً
يعرفون الكتبة المشهورين بالتزوير منذ اكثر من اربعمائة سنة. فمثلما يشتهر عبر
العصور الكتبة العدول التقاة المشهود لهم بالعدالة والنزاهة يشتهر أيضاً الكتبة
المزورين حيث يتم الاستدلال على هؤلاء عن طريق الوثائق القديمة التي تتضمن شهادات
وافادات واحكام تثبت ان هذا الكاتب مشهور ومشهود له بالعدالة والنزاهة وان ذلك
الكاتب مشهور بالتزوير التدليس.فاسماء
الكتبة المزورين مشهورة معروفة للكافة في كل العصور حتى العصر الحاضر.(التدريب
القانوني وصياغة العقود. دعبد المؤمن شجاع الدين.ص17).ومن الطرائف ان احد المشائخ استشارني في شراء ارض زراعية في احدى
مديريات محافظة صنعا وابرز لي صورة بصيرة الشخص الذي سيبيع فبدلا من اقرا البصيرة
كلها طالعت اسم الكاتب بسرعة فقلت له اابصيرة مزورة فقال ماسرع عرفت من ان تقرا
البصيرة عندما انصرف كان ممتعضا فقلت له
اذهب الى مديرية ....واسال عن الكاتب فلان وكان هذا فد مات قل اكثر من سبعين سنة
فعندما سال ذهل عندما ظهر له ان غالبية الناس يعرفون ان كاتب البصيرة مشهور
بالتزوير .فكل منطقة يحفظ اهلها اسماء الكتبة المزورين، وقد طالعت قبل سنة اعلانا
صادرا عن وزارة الأوقاف تضمن اسماء الامناء المخالفين فيما يتعلق بالتصرف في أراضي
الوقف.
الوجه الرابع : الوثائق القديمة التي تكون أكثر عرضة للتزوير :
وثائق الملكية
المعاصرة يقل التزوير فيها لعدم جدواه بالنسبة للمزورين لانه من السهل اكتشافه لان
المراكز القانونية حديثة العهد مثل البائع والمشتري والكاتب...الخ بخلاف الوثائق القديمة التي تكون
أكثر عرضة للتزوير، ولكن الوثائق القديمة التي تكون هدفاً للتزوير هي الوثائق
السابقة على انتقال العقار الى الحائز الحالي او الاخير . لان الشرع والقانون لا
يشترط على الحائز الاخير للعقار إلا ان
تكون لديه الوثيقة الأصلية الام التي تثبت ملكية البائع له ولذلك فان الوثائق
السابقة للوثيقة الأصلية تظل لدى البائع حيث تتحول الى وجائد يتم التزوير والتلاعب
فيها وهي اكثر الوثائق التي يستفيد منها المزورون في عمليات التزوير.
الوجه الخامس : تجارة وثائق الملكية القديمة وزبائنها :
يتحرج الكثير عن
الحديث في هذا الموضوع أو البحث فيه مع ان هذه التجارة رائجة في كل ارجاء اليمن
حيث يقوم اشخاص ببيع الوثائق القديمة (الوجائد) على الزبائن الذين غالباً ما
يكونوا من محترفين تزوير الوثائق القديمة أو محترفين المشارعة والمشاغلة والابتزاز
للحائزين الاخيرين للارض، وغالباً ما يكون باعة الوثائق اما ملاك لأراضي سبق لهم
التصرف بها فلم يتبق لهم الا (الوجائد) واما ان يكون هؤلاء ورثة لوكلاء الشريعة
القدامى أو ورثة كتبة متقدمين.
الوجه السادس : اهداف مزورين وثائق الملكية القديمة :
غالباً ما يستهدف
مزوروا الوثائق القديمة ابتزاز الحائزين الاخيرين للأرض المستهدفة بقصد الحصول على
مبالغ مالية وفي بعض الاحيان يقودهم الطمع الى الاستيلاء على الارض، وغالباً
يتبادل المزورون الادوار والخبرات والوثائق فيما بينهم ومن الطريف انه في عام 1997م
بصفتي مستشاراً لأحدى الشركات قمت بالإشراف على شراء أرضية كبيرة لإقامة مصنع
عليها وتم الشراء من عدة اشخاص حيث تم شراء ارضيتين مساحة الأولى ثلاث لبن
والثانية مساحتها خمس لبن تم شراؤهما أكثر من أربع مرات من باعة مختلفين وعند
تسجيل عقود البيع تم التأكد ان البيع الثاني والثالث والرابع كان بموجب وثائق
مزورة حيث كانت الشركة مستعجلة على سرعة الشراء واتمام الاجراءات لإقامة المشروع.
الوجه السابع : كيفية اكتشاف تزوير وثائق الملكية :
عندالشك في الوثيقة يقوم المشارع المتمرس بمطالعة اسم الكاتب للوثيقة
أولاً ثم يقوم بالبحث عن الوثائق التي قد سبق لهذا الكاتب ان قام بتحريرها حيث يتم
التأكد من نسبة الخط وصحته عن طريقة المعاينة بالعين المجردة والمقارنة بين حروف
الكلمات (مضاهاة الخطوط) فغالباً ما يكون التزوير ظاهراً لا يحتاج إلى خبرة المعمل
الجنائي وفي بعض الاحيان تتم إحالة الوثيقة المشكوك في تزويرها مع وثيقة اخرى
صحيحة للكاتب نفسه للمضاهاة بينهما عن طريق المعمل الجنائي الذي يتولى المضاهاة
بين الوثيقتين عن طريق تكبير حروف الكلمات وبيان مقاساتها وتحديد حجم الخطوط في
الوثيقتين وتحديد عمر الوثيقة وعمر الخط المثبت فيها واختلاف القلم والمداد.
الوجه الثامن : توصية الى الجهات المختصة :
تزوير وثائق الملكية
القديمة سبب من أهم اسباب النزاعات والصراعات والفتن في المجتمع اليمني ومع ذلك
فان الحكومات المتعاقبة كانت تترك الامر هذا ولاتلتفت اليه مع ان هذه المسألة من
أهم واخطر مسائل السلم والامن الاجتماعي والسكينة الاجتماعية ولذلك نوصي الجهات
المعنية أولاً بعقد دورات تدريبية للقضاة واعضاء النيابة والبحث الجنائي في موضوع
(تزوير وثائق الملكية القديمة وبحث اسبابها والاثار المترتبة عليها وطرق ووسائل معالجتها)
كما نوصي أيضاً : بان يتضمن قانون السجل العقارى نصاً عقابياً مشدداً على التزوير
في وثائق الملكية القديمة .لان قانون الجرائم والعقوبات العام يعتبر التزوير في
وثائق الملكية القديمة جريمة غير جسيمة لان هذه
الوثائق من قبيل المحررات العرفية فقد نصت المادة (215)عقوبات على ان (يعاقب بالحبس مدة لاتزيد على ثلاث سنوات كل من ارتكب
تزويرا في محرر خاص اضرارا بصاحبه او من يعتبر المحررحجة عليه). بما ان الحد
الاعلى لهذه العقوبة هو الحبس ثلاث سنوات
لم يتم ذكر الحد الادنى فبنطبق عليها الحد الادني لعقوبة الحبس للجريمة غير الجسيمة وهي السجن لمدة 24 ساعة. ولذلك فان هذه العقوبة
لاتتناسب مع خطورة واثار جريمة تزوير وثائق الملكية القديمة، والله اعلم.