اهمال تقرير الخبرة يبطل الحكم

 

اهمال تقرير الخبرة يبطل الحكم

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع في تقدير الأدلة ومن هذه الأدلة تقارير أهل الخبرة، ولا ريب أن السلطة التقديرية لا تعني أن تطرح محكمة الموضوع الدليل دون مناقشة أو تسبيب ، إضافة إلى أن الاستدلال بتقارير أهل الخبرة يثير إشكاليات عملية عدة، ولذلك أخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 10/1/2020م في الطعن الجزائي رقم (37215) لسنة 1430م ، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن النيابة أتهمت احد الأشخاص وقدمته للمحكمة الجزائية بتهمة القتل العمد لشخص اخر حيث قام المتهم بطعن المجني عليه بالجنبية في رقبته فمات المجني عليه في الحال ، وقد دفع محام المتهم بأنه المتهم لم يبلغ سن الثامنة عشرة عند قيامه بفعل القتل، وقد مضت المحكمة الابتدائية في إجراءات نظر القضية حتى توصلت إلى الحكم بإدانة المتهم بجريمة القتل العمد للمجني عليه وسقوط القصاص على المدان المذكور لثبوت صحة الأدلة المقدمة منه بأنه لم يبلغ الثامنة عشرة عند ارتكابه جريمة قتل المجني عليه المذكور والزام المدان بدفع دية القتل لورثة المجني عليه ومعاقبة المدان بالحبس تعزيراً مدة عشر سنوات من تاريخ القبض عليه وتحميله مصاريف التقاضي، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الابتدائي (ولثبوت إرتكاب المتهم لجريمة القتل العمد فان ذلك كان يستوجب الحكم عليه بالقصاص لولا أن محاميه  دفع بانتفاء المسئولية الجنائية عن موكله المتهم بعدم بلوغه سن الثامنة عشرة مستنداً إلى شهادة التسنين الخاصة بالمتهم والشهادة المدرسية للمتهم ،غير أن اولياء الدم افادوا بان ذلك الدفع مسبوق بما يكذبه وهو إقرار المتهم في محاضر جمع الاستدلالات بان عمره عشرون عاماً وإقراره في محضر التحقيق في النيابة أن عمره ثمانية عشر عاماً ولكن الظاهر صحة محرر شهادة التسنين المذكور فيها تاريخ ميلاد المتهم لانها صادرة من جهة رسمية بوجب إجراءات قانونية تباشرها الجهة المختصة ولا ينال منها قول أولياء الدم بانها ليست حجة عليهم لان تلك الشهادة قد تم استعمالها رسميا لالتحاق المتهم بموجبها المدرسة كما أن شهادة التسنين تلك تتفق مع شهادة المدرسة واحتساب سنوات الدراسة، وبما أن المتهم لم يتم الثامنة عشرة عند تقدير عمره بالتاريخ الهجري وكذا لم يتجاوز عمره السابعة عشر بالتقويم الميلادي وبما أن القانون أشترط لتطبيق عقوبة الاعدام بان قد يكون المتهم قد اتم السنة الثامنة عشرة ولان المتهم هذه السنة) فلم يقبل بالحكم الابتدائي الطرفان فقاما باستئنافه إلا أن الحكم الاستئنافي قضى بتأييد الحكم الاستئنافي، وقد ورد في أسباب (أن الشعبة بناءً على طلب أولياء الدم وبراءة للذمة فقد قامت الشعبة بإحالة المتهم إلى الطبيب الشرعي لفحصه وتقدير سنه ثم إحالته مرة أخرى إلى طبيب شرعي اخر مع اعتراض محام المتهم بالقبول بأن الإحالة بتقدير سن المتهم إلى الطبيب الشرعي لا تكون الا عند وجود مستندات رسمية تثبت سنة، والشعبة تجد أن النيابة العامة وأولياء الدم لم يطعنوا بالتزوير في وثائق شهادة التسنين الخاصة بالمتهم وهي محرر رسمي صادر عن جهة رسمية وصادرة في تاريخ سابق على حدوث الواقعة بسنوات عند دخوله للمدرسة لاول مرة وحين أن هذه الشهادة يؤيدها ، ورد في الشهادات الدراسية للمتهم وفقاً للمادتين (173 و 175) إثبات ولان الشك يفسر لمصلحة المتهم) فلم يقبل أولياء الدم بالحكم الاستئنافي فقاموا بالطعن فيه بالنقض ، فقبلت الدائرة الجزائية الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا ( فقد تبين للدائرة أن الطاعنين قد عابوا على الحكم المطعون فيه بأن قضى بان عمر المتهم أقل من 18 سنة مستنداً في ذلك إلى وثائق مصطنعة وملفقة  مع أن المتهم قد اعترف في الاوليات ان عمره 20 سنة وامام النيابة اعترف بان عمره 18 سنة إضافة إلى أن التقرير بينت الطبين قد حددا سن المتهم بأنه سنه عند ارتكابه لجريمة كان 19 سنة ولكن الشعبة لم تعمل بهذا التعزير بين ولم تسبب رفضها لهما، والدائرة تجد أن مطاعن الطاعنين في الحكم الاستئنافي لها ما يبررها فقد تبين أن الحكم المطعون فيه قد أنتهى في قضائه إلى تأييد الحكم الابتدائي واعتبار اسبابه جزءاً لا يتجزاء من أسباب الحكم الاستئنافي، ولان الطاعنين قد اثاروا عدم تسبيب المحكمة لرفضها للتقريرين الطبيين الخاصين بتحديد سن المتهم فالثابت أن المحكمة الاستئنافية قد احالت المتهم إلى لجنة طبية ثم الى لجنة طبية أخرى فصدر تقريران طبيان بشان تحديد سن المتهم ولكن المحكمة لم تأخذ بهما ولم تسبب لذلك، ولما كان رأي الخبير والفصل فيه وما يوجه إليه من اعتراضات من تقدير واختصاص محكمة الموضوع فان لها في حدود سلطتها التقديرية أن تأخذ بما تطمئن اليه وتقتنع بسلامة الاسس التي بنى عليها الخبير تقريره ولكن عدم العمل أوعدم الموافقة على تقرير الخبير يجب أن يكون مسبباً استناداً إلى المادة (216) إجراءات التي تنص على أن : لا يكون تقرير الخبير ملزماً للنيابة أو المحكمة ولكن قرار عدم الموافقة على التقرير يجب أن يكون مسبباً، ولما كان الثابت من أسباب الحكم المطعون فيه أنه جاء مشوباً بالقصور في التسبيب في اطراحه للتقريرين الطبيين المشار اليهما انفاً الامر الذي يترتب عليه بطلان الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : وجوب مناقشة الأدلة في اسباب الحكم :

يقوم الحكم ويعتمد على أسبابه، وهذه الاسباب تبنى على الادلة الواقعية والقانونية التي كانت سبباً في تكوين قناعة  القاضي، فلا يكفي سرد الادلة أو الاشارة اليها في أسباب الحكم لان ذلك لا يحقق قصد القانون من تسبيب الحكم ومناقشته الادلة ،فحكم الإدانة يتطلب عناية أكبر من حكم البراءة، لان حكم البراءة يكفي فيه التشكيك في صحة اسناد الواقعة الى المتهم، في حين يتطلب حكم الإدانة تمحيص الدعوى والإحاطة بظروفها وادلة إثباتها والموازنة بين هذه الادلة وترجيح ادلة الإدانة على أدلة البراءة، فلا تلتزم المحكمة في حالة البراءة بالرد صراحة على كل دليل من ادلة الاثبات ما دامت قد رجحت دفاع المتهم ، فعدم التعرض للادلة الاخرى يفيد أن المحكمة قد طرحتها ولم تطمئن اليها ، ولا يكفي مجرد الاشارة إلى الادلة في حالة الادانة بل ينبغي سرد مضمون الدليل وذكر مؤداه بطريقة واقعية يبين الحكم فيها مدى صحة الواقعة التي قضى بها الحكم ومدى تساند الادلة التي اعتمدها الحكم واستدل بها (تنظيم الاجراءات الجزائية في القانون اليمني، استاذنا الدكتور محمد إبراهيم زيد ص420) فوفقاً لهذا المفهوم يجوز في حكم البراءة عرض الدليل دون مناقشة طالما وهناك ادلة أخرى للبراءة قد قام الحكم بمناقشتها.

الوجه الثاني : الحالة التي يجب فيها على القاضي أن يناقش تقرير الخبير :

ذكرنا في الوجه الأول أن الفقه القانوني يقرر عدم وجوب مناقشة جميع الادلة في حكم البراءة بخلاف حكم الادانة الذي يجب على القاضي أن يناقش كافة الادلة ، اما بالنسبة لتقارير الخبراء فقد أوجب قانون الاثبات اليمني على القاضي أن يناقشها في معرض تسبيبه في كل الاحكام سواء كانت بالبراءة أم بالأداء، فقد نصت المادة (173) إثبات على أن (للمحكمة أن تأخذ بتقرير الخبراء أو الخبير الذي تطمئن اليه مع بيان الاسباب اذا خالف التقرير الذي اخذت به تقريراً اخر)  والمقصود بالمناقشة هنا هو بيان اسباب أخذ الحكم بالتقرير المخالف لتقرير خبير أخر وغالباً تكون هذه الاسباب عبارة عن مرجحات للتقرير الذي يأخذ به القاضي، وأوجه الترجيح كثيرة أهمها التخصص المباشر للخبير في مجال الخبرة فمثلاً يرجح تقرير خبير الاسلحة والذخائر في بيان نوع المقذوف (الطلقة) على تقرير الطبيب الشرعي كما يرجح التقرير الرسمي الصادر عن الجهة الرسمية المختصة على التقرير الذي يصدر من جهة خاصة ويرجح التقرير الصادر عن الخبير المختار من الطرفين على التقرير الصادر عن الخبير المختار من طرف واحد ويرجح التقرير الصادر عن الخبير المكلف من القاضي على التقرير الصادر عن الخبير الذي يستعين به الخصوم، واضافة الى النص السابق ذكره الوارد في قانون الاثبات فقد نصت المادة (216) اجراءات  على ان ( قرار عدم الموافقة على التقرير يجب ان يكون مسببا)فقد اشار الحكم محل تعليقنا الى ان مقتضى هذا النص انه يجب على الحكم في كل الاحوال  ان يذكر اسباب عدم اخذه بتقرير الخبير، والغرض من وجوب مناقشة تقرير الخبرة في هذه الحالة أو بيان اسباب اخذ القاضي او عدم اخذه  بما ورد في تقرير دون غيره المقصود من ذلك إثبات حياد القاضي وعدم تحكمه في الاخذ بالأدلة.

الوجه الثالث : حجية تقرير الخبير :

يقرر قانون الاثبات جواز الاعتماد على تقرير الخبير الذي تطمئن اليه المحكمة واعتباره دليلاً كاملاً ،وفي هذا المعنى نصت المادة (175) اثبات   على أن ( تعتبر النتيجة التي توصل اليها الخبير أو الخبراء وتطمئن اليها المحكمة دليلاً كاملاً في المسائل التي يعينون فيها) ولكن اعتبار تقرير الخبرة دليلا كاملاً يكون ذلك محكوماً بمبدأ تساند الادلة ، ولذلك لاحظنا أن الحكمين الابتدائي والاستئنافي قد اعتمد واطمئن على المحررات الرسمية وهي شهادة التسنين والشهادات المدرسية المبين فيها سن المتهم باعتبارها محررات رسمية تم العمل بموجبها وكانت موجودة قبل وقوع حادثة القتل لسنوات ولم يطمئن حكم محكمة الموضوع الى تقارير الخبيرين لان سن المتهم كان ثابتا بالمحررات الرسمية المعدة لهذا الغرض، إضافة إلى اختلاف هذين التقريرين ، كما لاحظنا أن حكم محكمة الموضوع قد اعتمد على أكثر من محرر لأثبات السن لتطابق وتوافق هذه المحررات في إثبات سن المتهم لا سيما وان من بينها شهادة التسنين التي تم استخراجها عند دخول المتهم المدرسة الابتدائية والتي دلت على أن سن المتهم عند دخوله المدرسة، وهناك إشكالية كبيرة في اليمن في إثبات سن المتهم وقد سبق لنا ان عرضنا هذه الاشكالية وتوصيتنا بشأنها في تعليق سابق، والله اعلم.