جريمة إختلاس المال العام

 

جريمة اختلاس المال العام

أ.د عبد المؤمن شجاع الدين

        الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

أشار قانون الجرائم والعقوبات إلى أحكام جريمة الاختلاس وعقوبتها في نص وحيد يتضمن قاعدة عامة محددة مجملة ، وأشار ذلك النص إلى ان جريمة الاختلاس يكون الجاني فيها موظفاً عاماً ويكون محلها المال مطلقا سواء اكان عاما ام خاصا وحدد ذلك النص الحد الأعلى لعقوبة جريمة الاختلاس وهو السجن لمدة لاتزيد سبع سنوات  ، ومن هذا المنطلق تأتي أهمية التطبيق القضائي لهذا النص وتحديدا كيف يقرر القاضي مدة السجن المناسبة لجريمة الاختلاس طالما ان النص القانوني ترك للقاضي سلطة واسعة في اختيار مدة الحبس ؛  فطالما ان النصوص القانونية عامة ومجردة  فالتطبيق القضائي يبين التفاصيل الدقيقة لهذه القواعد العامة المجردة فضلاً عن ان التطبيق القضائي يبين كيفية تعامل القضاء مع هذه النصوص وفهمه لها ، ولهذا الفهم أهمية بالغة لان القضاء هو السلطة الدستورية المعنية أصلاً بتطبيق النصوص القانونية ، ولأن جريمة الاختلاس من الجرائم الماسة بالوظيفة العامة ولأنها من أخطر جرائم الفساد التي تتداعي الدول والمنظمات إلى مكافحتها ، فقد اخترنا التعليق على حكم يتناول هذه الجريمة ويبين وجهة القضاء اليمني واجتهاده في هذا الشأن ، ولذلك وقع اختيارنا على التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 6/1/2014م في الطعن الجزائي رقم (53669) لسنة 1435هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن أمين الصندوق في إحدى الجهات الحكومية قام باختلاس مبلغ عشرة ألاف دولار ومبلغ سبعمائة ألف ريال يمني حيث اصطنع إشعار توريد منسوب إلى البنك المركزي تضمن ذلك الاشعار أن المتهم قد قام بتوريد المبلغين إلى البنك المركزي حيث قام المتهم باصطناع المحرر لتغطية اختلاسه للمبلغين المشار اليهما ؛ وعند المطابقة بين حسابات تلك الجهة الحكومية مع حسابات البنك المركزي وعند المراجعة والتدقيق ظهر أن المتهم لم يقم بتوريد المبلغين الى البنك المركزي فتم إبلاغ نيابة الأموال العامة التي قامت بالتحقيق في التهم المنسوبة فتوصلت النيابة إلى صحة وقوع تلك الجرائم وصحة نسبتها إلى المتهم وبناءً على ذلك قامت النيابة بإحالة القضية إلى محكمة الأموال العامة التي قضت (بإدانة المتهم بالتهم المنسوبة له في قرار الاتهام وفقاً للمواد (16 ، 612 ، 212 ، 219) عقوبات وحبسه مدة سنتين من تاريخ القبض عليه  وفي الحق الخاص إعادة المبالغ المختلسة وتوريدها إلى حساب الجهة الحكومية بالبنك المركزي وإلزام المدان بدفع مبلغ خمسين ألف ريال مصاريف القضية وإتعاب المحاماة وعلى النيابة العامة إتلاف المحرر المزور وهو إشعار التوريد) وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (فقد تبين ثبوت التهم المنسوبة إلى المتهم حيث انه احضر السند المزور الذي أدعى انه صادر عن البنك المركزي مدعياً انه قد قام بتوريد المبلغ إلى البنك المركزي فهذا يكفي في إدانته بجريمة الاصطناع لإشعار التوريد وجريمة استعماله أضافة  إلى ما جاء في تقرير الرقابة ااذي حدد المبالغ التي قام المتهم بتحصيلها  والمبالغ التي قام بتوريدها والمبالغ قام  بتحصيلها  ولم يقم بتوريدها  وكذا إلى ما جاء في تقرير الأدلة الجنائية وافادة البنك المركزي  المتضمنة نفى البنك صدور ذلك الإشعار من البنك) فلم يقبل المتهم بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه ، إلا أن الشعبة الاستئنافيه رفضت الاستئناف وقضت بتأييد الحكم الابتدائي ، وقد ورد ضمن أسباب الحكم ألاستئنافي (بالاستناد إلى أسباب الحكم الابتدائي التي فندت ما جاء في استئناف المتهم فالادلة كافية على قيام  المتهم بارتكاب الجرائم  المنسوبة له  ومنها اقراره باستلام المبلغين المذكور ين في الاشعار وعدم توريده لهما) فلم يقبل المتهم بالحكم ألاستئنافي فقام بالطعن بالنقض إلا أن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا رفضت الطعن وأقرت الحكم ألاستئنافي ، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا ( ومن حيث الموضوع فقد عاب الطاعن على الحكم المطعون فيه مخالفته للقانون لعدم الالتفات إلى طلبه بفحص أشعار التوريد المدعى بتزويره ولعدم تكليف محاسب للمراجعة ، ومن دراسة الدائرة لأوراق القضية فقد تبين لها أن ما اثاره الطاعن لا وجه له لسبق إثارته أمام محكمتي الموضوع اللتين فصلتا فيها بأسباب قانونية سائغة حيث أن ما اثاره بشأن اشعار التوريد ألمدعى تزويره قد ثبت بتقرير المعمل الجنائي وبافادة البنك المركزي بان ذلك الإشعار لم يصدر عنه كما أن المتهم نفسه قد أدعى بتوريد المبلغ الى حساب الجهة في البنك المركزي في حين الواقع على خلاف  ما ادعاه المتهم ) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية :

الوجه الأول : ماهية جريمة الاختلاس :

من خلال مطالعة المادة (162) عقوبات يمكن تعريف جريمة الاختلاس بأنها قيام الموظف العام بأخذ مال  موجود في حيازته بسبب وظيفته ، حيث نصت المادة (162) عقوبات على ان ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سبع سنوات كل موظف عام اختلس مالاً وهو في حيازته بسبب وظيفته) فوفقا لهذا النص فإن جريمة الاختلاس تقع من الموظف العام ويكون  محلها مالاً عاماً أو خاصاً طالما وهذا المال موجود في حيازة الموظف بسبب وظيفته فأي مال يتوفر فيه هذا الوصف يكون محلاً لجريمة الاختلاس ، واشتراط القانون حيازة الموظف للمال الذي يكون محلاً للاختلاس يجعل المسئولين الكبار بمناى عن المسولية الجنائية عن جريمة  الاختلاس لان المال لا يكون في حيازتهم ولذلك جرم القانون وعاقب على جريمة الاستيلاء  على المال العام  والمقصود  كبار المسؤلين  الذين لايكون  المال في حيازتهم  في غالب الاحيان حيث نصت المادة (162) عقوبات على أنه ؛(يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سبع سنوات من استغل وظيفته فاستولى بغير حق على مال الدولة أو أحدى الهيئات والمؤسسات) فمن استقراء هذا النص يظهر انه لا يشترط حيازة الموظف للمال الذي يكون محلاً للاستيلاء ، ومن خلال ما تقدم تظهر أوجه الشبه فيما بين جريمة الاختلاس وجريمة الاستيلاء وكذا أوجه الخلاف بينهما فكلا الجريمتين تقع من موظف عام لكنها تختلفان في جوانب عدة أهمها أن الاستيلاء يكون محله المال العام في حين أن الاختلاس يكون محله المال الموجود في حيازة الموظف بسبب وظيفته سواءً كان مالاً عاماً أم خاصاً كما أنه يشترط في جريمة الاختلاس أن يكون المال المختلس في حيازة الموظف اما جريمة الاستيلاء فلا يشترط ذلك.

الوجه الثاني : معايير اختيار مدة حبس المختلس :

حددت المادة (162) عقوبات السابق ذكرها في الوجه الأول حددت الحد الأعلى لعقوبة جريمة الاختلاس وهو السجن لمدة لا تزيد على سبع سنوات ، حيث ترك القانون للقاضي السلطة التقديرية الواسعة  في اختيار مدة السجن بما لا يتجاوز السبع السنوات ، وتسمى هذه السلطة التقديرية بالتفريد العقابي القانوني الذي  يعني ان المختلسين ليسوا على شاكلة واحدة وانما مختلفون من حيث  ظروفهم والظروف التي تصاحب ارتكابهم  لجريمة الاختلاس ونوع الوظيفة التي يشغلها المختلس ومقدار المبالغ المختلسة؛ ولذلك ينبغي ان تتفاوت مدد حبسهم بحسب تفاوت هولاء المختلسين من حيث الاعتياد على الاختلاس ومن حيث صفة الموظف حيث ينبغي على القاضي أن يراعي هذه الاعتبارات حينما يختار مدة الحبس التي يقضي بها في حكمه على المختلسين ، وعند تطبيق هذا المفهوم على المتهم بالاختلاس في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد أن هذا الموظف المتهم بالاختلاس أمين صندوق أي انه من أرباب الأمانات والعهد فهذا وفقاً للقانون المالي ظرفاً مشدداً للعقوبة كما أن هذا الموظف قد قام بمناسبة ارتكابه لجريمة الاختلاس بارتكاب جرائم أخرى وهي اصطناع محرر رسمي واستعماله كما أنه لم تبدر منه بادرة على التوبة حيث ظل مصراً على انه لم يرتكب تلك الجرائم حتى أخر لحظة حينما طعن بالنقض أمام المحكمة العليا مع كثرة الأدلة والشواهد على ثبوت ارتكابه للأفعال المنسوبة له وصحة نسبتها إليه ، كما أن الفعل الصادر منه ليس جريمة  واحدة وإنما جرائم عدة وهذا يدل على سلوك اجرامي متأصل فيه ولذلك كان الأنسب ان تكون عقوبته هي الحبس مدة ثلاث سنوات وليس سنتين كما قضى به الحكم الابتدائي.

الوجه الثالث : تعدد الجرائم وتأثيره على تعدد العقوبات:

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أن المتهم قد أرتكب ثلاث جرائم وهي الاختلاس والتزوير واستعمال محرر مزور ، في حين ان الحكم الابتدائي قد اكتفى في منطوقه بتوقع عقوبة الاختلاس فقط ، في حين انه كان من الواجب وفقاً للقانون ووفقاً لما استقر عليه  قضاء المحكمة العليا ان تتم محاكمة المتهم عن الثلاث الجرائم وتحديد عقوبات كل واحدة منها على حدة ثم النص في المنطوق على تطبيق العقوبة الأشهد؛وقد الى كيفية ذلك في تعليق سابق بعنوان ( كيغية تطبيق العقوبة الاشد) .

الوجه الرابع : تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وحجيته :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أن المتهم في الطعن بالنقض كان يطالب بتعيين محاسب لاحتساب المبالغ التي بعهدته في حين ان حكم محكمة الموضوع كان قد اعتمد على تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الذي قام بمراجعة وفحص حسابات صندوق الجهة التي كان المتهم أميناً عليها وحسابات البنك المركزي  حيث توصل الجهاز الى احتساب المبالغ التي اختلسها المتهم ، فبالنسبة لجرائم الاختلاس وغيرها من الجرائم الماسة بالوظيفة العامة والمال العام فان قانون الجهاز المركزي للمحاسبة قد اناط بالجهاز مراجعة وفحص اية جرائم ماسة بالمال العام او الوظيفة العامة ومن ضمنها جريمة الاختلاس ، وقرر ذلك القانون على أن تقارير الجهاز لها حجيتها الثبوتية المعتبرة إضافة إلى ان الجهاز صاحب خبرة واختصاص فضلاً عن ان الجهاز الأجدر بمراجعة واحتساب المبالغ المختلسة لان ذلك يقتضي رجوع الجهاز إلى كافة المستندات والمعلومات الحكومية التي تكون حساباتها وبياناتها سرية لا ينبغي أن يطلع عليها محاسب قانوني خارجي وان لم يكن الامر كذلك فان الجهات الحكومية لن تمكن المحاسب القانوني من مراجعة وفحص حساباتها؛فجهاز المحاسبة هو المحاسب القانوني المعتمد للدولة ؛ فمثلاً في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان جهاز المحاسبة قد تولى فحص ومراجعة حسابات صندوق الجهة الحكومية التي يتبعها أمين الصندوق كما أن الجهاز قام بمراجعة وفحص حسابات البنك المركزي والمطابقة بينهما  وتحديد المبالغ المختلسة بدقة فلو اسندت هذه المهمة لمحاسب قانوني لما استطاع القيام بذلك؛ والله اعلم.