إشكالية سراية الجراح بعد الحكم
أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
الحوادث التي تتسبب
في وقوع الجراحات والإصابات في المواطنين في اليمن ليست نادرة وتكفي الإشارة فقط
إلى ما يسفر عنه العراك والشجار الذي تستعمل فيه الحجارة والعصي والخناجر والفؤوس
إضافة إلى ضحايا حوادث السير التي تتسبب في غالبها الدراجات النارية ؛ فالجراحات
التي تصيب المواطنين في اليمن بسبب الشجار وحوادث السير كثيرة تترتب عليها فيما بعد مضاعفات متنوعة ومختلفة صحية
واجتماعية وسياسية واقتصادية وشرعية وقانونية، ولذلك فإن هذه الآثار والمضاعفات
الناجمة عن الجراحات أو الإصابات تحتاج إلى دراسة بحسب كل تخصص، ومن الناحية الشرعية
والقانونية هناك إشكالية حقيقية في هذا الموضوع تتمثل في أن الجراحات التي تصيب
المجني عليهم لا تكون ثابتة أو مستقرة حيث أن هذه الجراحات متغيرة تتغير وتتضاعف
بين الفترة والأخرى وقد تستغرق هذه التغيرات فترة طويلة نسبياً وهو ما يعبر عنه
الفقهاء بقولهم (سراية الجراحاو الجنايات) فقد تكون الإصابة في البداية عند حدوثها مجرد جرح يسير كالشجة في الرأس أو
الدامية التي أرشها معلوم شرعاً وقانوناً ولكنها بعدئذ تتضاعف إلى فقدان البصر أو
فقدان النطق أو الوفاة، والفقهاء المتقدمون كانوا يذهبون إلى أنه ينبغي على القاضي
في هذه الحالة الإنتظار فلا يحكم في الجراح والجنايات حتى يبرأ الجرح تماماً، كي يكون حكم القاضي
مطابقاً لما استقر عليه الجراح، ولا شك أن قول الفقهاء المتقدمين كان في عصر خال
من التعقيد والإجراءات والهيئات التي تتولى ضبط وتحقيق الجراحات والحكم فيها، وفي
عصر كانت تسود فيه السماحة ويغلب فيه جانب التدين والورع، أما في العصر الحاضر فإن
على مأمور الضبط القضائي الذي يضبط الجناية والجناة إحالة القضية إلى النيابة
العامة خلال 24 ساعة وعلى النيابة العامة أن تتصرف في التحقيق في الجناية خلال مدة
حددها قانون الإجراءات تقوم بعدها بإحالة القضية إلى المحكمة وإن لم يكن هناك سقف
زمني للمحاكمة في اليمن إلا أن هناك سقوف زمنية لإجراءات التقاضي ومع هذا وذاك فإن
القاضي الجزائي في العصر الحاضر يقوم بالفصل في الدعوى الجزائية بحسب حالة الجراح
حين الحكم، ولكن بعد صدور الحكم قد تتضاعف جراح المجني عليه، فما هو الحل؟ وهذا
السؤال يثير اسئلة أخرى منها – هل يحق للقاضي أن يؤجل الحكم حتى تستقر الجراح؟ وهل
يحق للقاضي أن يحكم في الجراح المبينة أمامه ويضيف إلى الحكم أنه إذا ظهرت مضاعفات
أو سري الجرح فيتحمل الجاني نتيجة ذلك؟ وهل يجوز الإرجاء والتعليق في احكام
القضاء في حالة السراية في الجراح إذا تم
تنفيذ الحكم بالأرش ثم حدثت مضاعفات بسبب الجراح أدت إلى تعطيل منافع في جسد المجني عليه فما الحكم؟ وغير ذلك من الأسئلة
التي تحتاج إلى لفت عناية المعنيين من المشرعين والقضاة بل وحتى رجال السياسة
إليها لما لذلك من أهمية في المجتمع اليمني، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة التعليق
على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
24/4/2011م في الطعن الجزائي رقم (40596) لسنة 1432ه وتتلخص وقائع القضية التي
تناولها هذا الحكم أن شخصاً تعارك مع آخر فقام بضربه بالفأس في مقدمة رأسه فتم القبض
على الجاني وإحالة المجني عليه إلى المستشفى للعلاج وبعدئذ تم تقديم الجاني
للمحاكمة بتهمة الشروع في القتل وقد استمر المجني عليه في غيبوبة وبعدها افاق
واستقرت حالته فحكم القاضي الإبتدائي للمجني عليه بأرش جناية الدامغة وهي ثلث
الدية حسبما هو مقرر في الشريعة والقانون وكذا الحكم على الجاني بدفع تكاليف
العلاج وأضاف القاضي إلى منطوق الحكم عبارة ( ويعتبر المتهم مسئولاً عن أية
مضاعفات مستقبلية قد تحدث للمجني عليه) وبعد صدور الحكم الإبتدائي قام المجني عليه بإستئناف الحكم الإبتدائي وفي
أثناء سير إجراءات المحاكمة أمام محكمة الإستئناف فقد المجني عليه قدرته على
الكلام أو النطق وبناءً على ذلك طلب من محكمة الإستئناف الحكم له بالدية الكاملة
فقامت محكمة الإستئناف بإحالة المجني عليه إلى المستشفى الحكومي لفحص حالته وبيان
سبب فقدانه للنطق، فأصدر المستشفى تقريراً إلى المحكمة مفاده أن سبب فقدان المجني
عليه للنطق هي الإصابة أو الجراح الذي وقع في مقدمة رأسه وأن فقدانه للنطق سيكون
ملازماً له طوال حياته، واستناداً إلى هذا التقرير حكمت محكمة الإستئاف على المتهم
بدفع دية كاملة لتعطيله منفعة النطق لدى المجني عليه ولذلك قام المتهم بالطعن
بالنقض في الحكم الإستئنافي أمام الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا التي رفضت
الطعن وأقرت الحكم الإستئنافي وجاء في أسباب حكم المحكمة العليا( والدائرة تجد أن
مناعي الطاعن لا أساس لها من القانون لأن الحكم الإبتدائي قد تضمن في منطوقه
مسئولية الطاعن عن أية مضاعفات مستقبلية(سراية) قد تحدث للمجني عليه من جراء
الإصابات التي لحقت به وهذا ما اعتمدته محكمة الإستئناف فهي لم تجانب الصواب حينما
قبلت الإستئناف وكانت محقة حينما اعتمدت التقرير الطبي الرسمي الصادر عن المستشفى
الذي أكد أن سبب فقدان المجني عليه للكلام هي الإصابة التي أحدثها المتهم وبناءاً
على ذلك حكمت محكمة الإستئناف بالدية كاملة ) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب
ما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية سراية الجراح وحكمها في الشريعة الإسلامية:
سراية الجراح أو الجنايات مصطلح فقهي بحت ولذلك من اللازم فهمه لأن قانون
الجرائم والعقوبات أشار إلى السراية بنص عام ومجرد ومجمل ، وتطبيق وتفسير النص
القانوني يجب ان يتم الرجوع فيه إلى كتب الفقه الإسلامي ،فنقول: سراية الجناية:
سراية مضاف والجناية مضاف إليه فهي من باب
إضافة الشيء إلى سببه أي السراية التي سببها الجناية ، والسراية : هي ان ينتقل
الشيء من مكان إلى آخر فيسري الجرح من المكان الأول إلى مكان آخر ، فيتسع الجرح،
مثل أن يقوم الجاني بقطع اصبع وبعد هذه الجناية تتآكل الكف كلها أو احداث جرح موضحة بقدر الظفر وبعدئذ تتسع حتى
تصير بقدر الكف، أو اذا قام الجاني بضرب المجني عليه برأسه بضربة وصلت إلى الدماغ
فكانت الدامغة وبعدئذ تضاعفت أو سرت أو أدت إلى فقدان المجني عليه للنطق مثلما حصل
في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا، والفقهاء مجموعون على أن سراية الجناية مضمونة أي أن الجاني ضامن
لاي مضاعفات قد تحدث بسبب الجرح الاول ،وأساس ان الجاني ضامن لسراية الجناية في
النفس وما دون النفس قاعدة فقهية أخرى مفادها ( ما ترتب على غير المأذون فهو
مضمون) فكل شيء ترتب على شيء لم يؤذن فيه لا شرعاً ولا عرفاً فإنه يكون مضموناً
يتحمل أثره الجاني.[1]
الوجه الثاني: سراية الجناية أو الجراح في القانون اليمني:
أشار قانون الجرائم والعقوبات إلى السراية في مادتين هما (41و64) حيث نصت
المادة (41) في نهايتها على أنه ( ويعتمد في تحديد نوع الإصابات على تقرير من طبيب
مختص أو أهل الخبرة وإذا طالت الإصابات أو سرت إلى ما لا يمكن أرشه فيلزم حكومة
بما تراه المحكمة ) فهذا النص يقرر أن الجناية أو الإصابة اذا سرت او انتقلت الى
جنايات أخرى غير المذكورة في النص أو في الفقه الإسلامي، مثل الدامغة والجائفة
...إلخ فطالما أن هذه الجناية التي سرت إليها الجناية السابقة لم يقدر لها القانون
أرشا أو دية فإن القاضي يتولى تقدير أرشها
لأن القانون لم يحدد لها أرشاً وهو مايسمى في الفقه الاسلامي ؛(حكومة) ويقوم
القاضي بذلك بموجب السلطة التقديرية له ولكنه مقيد بنوع الإصابة وأثرها ومدتها
ولذلك لا غنى للقاضي في هذه الحالة من
الإستعانة بتقرير الطبيب المختص الذي يبين له ذلك حتى يستأنس القاضي بتقرير الطبيب
عند تقديره الحكومة التي تقابل الأرش الشرعي، وبناءً على ذلك لا يحق للقاضي تقدير
الجناية الأخيرة التي أدت إليها الجناية السابقة إذا كان القانون قد قدر أرشها ،
أما المادة (61) عقوبات فقد نصت على أنه ( لا يحكم بالمستحق من الديات والأرش إلا
بعد أن يتبين حال المجني عليه بسبب الجريمة فيما يسري عن الجروح) ومن خلال استقراء
هذا النص نجد أنه قد أخذ بموقف الفقهاء
الذين قرروا ذلك حتى يكون الجزاء سواء بالقصاص أو الدية أو الأرش مستقراً
بإستقرار الإصابة أو الجراح وثباتها حتى تكون العقوبة مناسبة وملائمة للجناية أو
الجراح، وهذا التوجه يحمد للقانون اليمني من الناحية الشرعية إلا أنه من الناحية
الواقعية والعملية فإن الجراحات أو الجنايات أو الإصابات لا تستقر إلا بعد انقضاء
مدة طويلة من تاريخ وقوعها حيث أن مضاعفاتها وآثارها على المجني عليه قد تطول
لسنوات عدة، فقد وقفت على إصابة ظلت تحت العلاج منذ عام 1995م وحتى 2003م وهذه المسألة معروفة لا تحتاج إلى شواهد
فالقضاة والباحثون يعلمون ذلك علم اليقين ، فلا يعقل أن يتم تجميد القضية طوال هذه
الفترات ثم ما مصير المجني عليه خلال هذه الفترة الطويلة ومن الذي سيتولى علاجه من
غير قرار أو حكم قضائي، وما تكييف هذا القرار؟
الوجه الثالث: توصيتنا للمشرع اليمني لمعالجة إشكالية السراية في الجروح:
حتى ننسب الفضل لأهله ينبغي أن نذكر أن المعالجة التي نقترحها مستوحاة من
الحكم الإبتدائي الذي أصدره القاضي الشجاع
في القضية محل تعليقنا الذي أصدره وهو
يعلم يقيناً أنه لا يجوز بموجب المادة (61) تقدير الأرش اوالدية إلا بعد استقرار
وثبات الجرح ومع ذلك فقد أصدر هذا القاضي العظيم حكمه والزم المتهم بدفع ثلث الدية التي ثبتت عند
القاضي وقت صدور حكمه وهي دية الدامغة كما حكم بإلزام المتهم بتسديد قيمة (180)
فاتورة علاج للمجني عليه بالإضافة إلى المصاريف والمخاسير التي تكبدها المجني عليه
في المتابعة والتقاضي، ولأن هذا القاضي العظيم يعلم علم اليقين بأن الجناية غير
مستقرةوقت صدور حكمه وأنها ربما تتضاعف فقد اورد ضمن
منطوق حكمه أن المتهم يتحمل أية مضاعفات قد تحدث للمجني عليه بعد صدور
الحكم ؛ وبعد صدور الحكم الإبتدائي حدث بالفعل ان سرت الجناية السابقة وأفضت إلى
جناية أخرى وهي فقدان المجني عليه للنطق
وكذا رقوده في المستشفى للعلاج وتكبده لمصاريف العلاج، وعندما قام المجني
عليه بإستئناف الحكم الإبتدائي جزئياً فلم تجد محكمة الإستئناف بداً من قبول
استئنافه والحكم له بالدية كاملة لتعطيل
قدرته على الكلام بسبب فعل المتهم وبالإضافة إلى ذلك فقد حكمت محكمة الإستئناف
بالزام المتهم بدفع قيمة الأدوية وتكاليف
الرقود والمصاريف والنفقات التي تكبدها بعد صدور الحكم الإبتدائي ولم تنظر الشعبة
الإستئنافية العظيمة إلى المادة (61) عقوبات وتقف عندها وتطبقها حرفياً أو
ظاهرياً، ومن جهتها فقد ترسمت الدائرة الجزائية خطى محكمتي الموضوع حيث أقرت الحكم
الإستئنافي ، وبناءً على ذلك فقد تضمن الحكم محل تعليقنااجتهاداً منتجاً يعالج
إشكاليات لا حصر لها فيما يتعلق بسراية الجراحات أوالجنايات، ولذلك ومن منطلق
المسؤولية الفقهية فإننا نوصي المشرع اليمني بإعادة النظر في صيغة المادة (61)
عقوبات والإستئناس بإجتهاد القضاء اليمني المشاراليه فهذا التعليق ؛ والله اعلم.