تنازع الاختصاص القضائي السلبي
أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
من الإشكاليات العملية الشائعة في اليمن
تنازع الاختصاص بين المحاكم بنوعيه السلبي والايجابي والذي يسهم بدوره في إطالة
إجراءات التقاضي ولذلك من المفيد ان تتجه
التوعية القانونية إلى هذه الوجهة حتى يكون الاختصاص مفهوماً للمتقاضين وللقضاة في
آن واحد ، ولذلك اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة
العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 31/10/2010م وتتلخص وقائع هذه القضية ان سلطة
الضبط في محافظة المهرة ضبطت قاربا اجنبيا يحمل طن ومائة وتسعين كيلو جراما من
المخدرات ؛(حشيش) وكان على متن هذا القارب (17) متهماً اجنبياً بحيازة المخدرات
وإدخالها الى اليمن وبعد التحقيق في
القضية من قبل النيابة العامة في المحافظة قامت النيابة بإحالة القضية الى المحكمة
الابتدائية بالغيظة التي قضت بإدانة المتهمين الـ17 (بنقل كمية طن ومائة وتسعين
كيلوجراماً من المواد المخدرة نوع راتنج من نبات الحشيش الى المياه الإقليمية
اليمنية بطريقة غير مشروعة ومصادرة القارب الاجنبي وإتلاف كمية المواد المخدرة)
فقام المتهمون باستئناف الحكم الابتدائي امام محكمة استئناف المهرة وذكروا في
الاستئناف انهم يدفعون بعدم اختصاص المحكمة الابتدائية بالغيظة لانها غير مختصة
بنظر قضايا المخدرات وطلبوا احالة القضية الى المحكمة الجزائية المتخصصة
الابتدائية بالغيظة لمعاودة نظرها لانها المحكمة المختصة ، فحكمت محكمة استئناف
المهرة (بعدم اختصاصها النوعي بنظر القضية واحالتها للنيابة العامة لتقديمها امام
المحكمة المختصة وهي الشعبة الجزائية المختصصة
بمحافظة حضرموت استناداً الى قرار مجلس القضاء الاعلى رقم (131) لسنة 2009م
وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (ان هذه القضية تم تسجيلها لدى محكمة
الاستئناف بالمهرة بتاريخ 15/6/2010م بينما قرار مجلس القضاء الأعلى المشار اليه
صدر بتاريخ 19/1/2009م وقرر في اخر فقرة منه على ان يتم العمل به ابتداء من تاريخ3 2/7/2009م
وحيث ان هذا القرار قد تضمن تشكيل محاكم جزائية ابتدائية متخصصة وشعب جزائية
متخصصة في بعض محافظات الجمهورية وحدد ذلك القرار نطاق اختصاصها واختصاص الشعبة
الجزائية المتخصصة بحضرموت بالقضايا الجزائية المتخصصة في كل.من محافظتي حضرموت
والمهرة وحيث تضمن ذلك القرار ان هذه المحاكم تختص بنظر قضايا المتاجرة بالمخدرات
وحيازتها وتهريبها وترويجها ولذلك فان محكمة استئناف المهرة تعد غير مختصة بنظر
هذه القضية وان الاختصاص بنظرها معقود
للشعبة الجزائية المتخصصة في محكمة استئناف حضرموت التي حددها قرار مجلس
اختصاصها بنظر استئناف القضايا الجزائية المتخصصة في محافظتي المهرة وحضرموت )،
وتنفيذاً لهذا الحكم قامت النيابة بتقديم القضية امام الشعبة الاستئنافية الجزائية
المتخصصة بمحكمة استئناف حضرموت التي حكمت ايضاً بعدم اختصاصها بنظر القضية حيث
ورد في حكم هذه الشعبة (ان قرار محكمة استئناف حضرموت قد جانب الصواب لانها هي
المحكمة المختصة بنظر القضية وليس الشعبة الجزائية المتخصصة بحضرموت لان قرار مجلس
القضاء الاعلى قد نص في المادة (4)على ان تختص الشعبة الاستئنافيه الجزائية
المتخصصة في الطعون بطريق الاستئناف في الاحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم
الابتدائية الجزائية المتخصصة واعمالاً لهذا النص فان الحكم الصادر عن محكمة
الغيظة الابتدائية بالمهرة لا تختص بنظره الشعبة الجزائية الاستئنافية المتخصصة
كما ان القضية كانت منظورة امام المحكمة الابتدائية بالغيظة قبل تاريخ نفاذ قرار
مجلس القضاء الذي نص على ان تستمر المحاكم والشعب العادية في نظر القضايا الجزائية
المتخصصة المنظورة امامها قبل تاريخ نفاذ قرار مجلس القضاء ولو صارت هذه القضايا بمقتضى هذا القرار تدخل
في اختصاص المحاكم الجزائية المتخصصة ، وحيث ان الحكم الابتدائي الصادر في هذه
القضية قد صدر من المحكمة الابتدائية بالغيظة ضمن الاختصاص المكاني لمحكمة استئناف
المهرة عملاً بنص المادة (232) إجراءات التي تقضى باختصاص محاكم الاستئناف بالفصل
في استئناف الاحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم الابتدائية الواقعة في دائرة
اختصاصها كما ان احكام المحكمة العليا قد اقرت ذلك المبدأ في قرارها رقم (183)
لسنة 1431هـ وحيث ان الاختصاص من المسائل المتعلقة بالنظام العام) ولان المحكمة
العليا هي المختصة قانوناً بالفصل في احكام التنازع القضائي بين محاكم الاستئناف
فقد تم رفع القضية الى المحكمة العليا بطلب من محكمتي الاستئناف في حضرموت والمهرة حيث اقرت المحكمة العليا حكم الشعبة الجزائية المتخصصة
بمحكمة استئناف حضرموت ، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (بعد دراسة الاوراق
فقد تبين ان نيابة المهرة قد حققت في القضية ورفعت الدعوى الجزائية الى محكمة
الغيظة الابتدائية وذكرت فيه انه في تاريخ سابق على 10/10/2006م كما تبين ان محكمة
الغيظة عقدت أولى جلساتها لنظر القضية بتاريخ 12/11/2007م وسارت في اجراءات نظر
القضية الى ان اصدرت حكمها بتاريخ 9/3/2010م وحيث ان الحكم الابتدائي قد صدر في
تاريخ لاحق لتاريخ صدور قرار مجلس القضاء الاعلى وتاريخ بدء العمل به في
23/7/2009م وبما ان قرار مجلس القضاء قد حدد اختصاصات المحاكم الابتدائية المتخصصة
والشعب الجزائية المتخصصة بقضايا محددة من بينها قضايا المتاجرة بالمخدرات ، ولذلك
فان ما ذهبت اليه الشعبة الجزائية المتخصصة في حضرموت غير سديد لان الشعبة لم تطبق
قاعدة سريان قرار مجلس القضاء الاعلى من حيث الزمن التطبيق الصحيح لان القضية كانت
منظورة امام محكمة الغيظة الابتدائية قبل تاريخ صدور قرار انشاء المحاكم الجزائية
المتخصصة ولذلك فلا تأثير له في انعقاد الاختصاص في هذه القضية لان اختصاص محكمة
الغيظة الابتدائية قد انعقد من تاريخ رفع القضية عليها وهو تاريخ سابق على صدور قرار
انشاء المحاكم الجزائية المتخصصة ولذلك فلا تأثير لوجود نوع القضية أو اسمها في
قرار انشاء المحاكم المتخصصة كما ان قرار مجلس القضاء قد قرر في المادة (8) على ان
يستمر نظر القضايا المرفوعة حالياً امام المحاكم الابتدائية والشعب الجزائية في
محاكم استئناف المحافظات ولو صارت بمقتضى
هذا القرار تدخل في اختصاص محاكم اخرى ،
ولما تقدم واستناداً الى المادة (220) من قانون السلطة القضائية والمادة
(40) مرافعات والمادة (238) اجراءات والى قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (131) لسنة
2009م فان الدائرة تقرر ان يكون الاختصاص بنظر استئناف حكم محكمة الغيظة
الابتدائية لمحكمة استئناف محافظة المهرة) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو
مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : ماهية التنازع السلبي بين المحاكم والجهة المختصة بالفصل فيه :
التنازع اما ان يكون ايجابياً حينما
تقرر محكمتان اختصاصهما بنظر قضية معينة
اما التنازع السلبي فيتحقق حينما تقرر
محكمتان عدم اختصاصهما بنظر القضية ، ويقرر المختصون في هذا الشأن ان تنازع
الاختصاص السلبي هو الاكثر وقوعاً في الواقع العملي مثلما حصل في القضية التي
تناولها الحكم محل تعليقنا ، وبالنسبة للقضايا الجزائية فقد بينت المادة (238)
اجراءات المحكمة المختصة بالفصل في التنازع بين المحاكم حيث نصت هذه المادة على
انه (اذا قدمت دعوى جزائية عن جريمة واحدة أو عدة جرائم مرتبطة الى محكمتين أو
اكثر في دائرة محكمة استئناف محافظة واحدة أو قررت كلتاهما اختصاصهما أو عدم
اختصاصهما بحكم نهائي وكان الاختصاص منحصراً فيهما يرفع طلب تعيين المحكمة المختصة
الى محكمة استئناف المحافظة التي تتبعانها
فاذا كانت كلتا المحكمتين واقعة في دائرة محكمة استئناف محافظة مختلفة أو اذا قررت
محكمتان من محاكم استئناف المحافظة اختصاصها أو عدم اختصاصها بالفصل في استئناف
حكم جزائي أو في طلب تعيين المحكمة المختصة بالفصل في القضية الجزائية يرفع طلب
تعيين المحكمة المختصة منهما الى المحكمة
العليا ويكون قرارها بتعيين المحكمة المختصة نهائيا غير قابل للطعن باي طريق من طرق الطعن) وبتطبيق
هذا النص على القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان محكمتي استئناف المهرة
وحضرموت قررت كل واحدة منهما على حدة عدم اختصاصها بنظر القضية وكل واحدة قررت
اختصاص الاخرى حسبما سبق بيانه ،
ولذلك فقد تحققت في هذه القضية حالة
التنازع السلبي بين محكمتين استئنافيتين
فيكون الاختصاص بالفصل في هذا التنازع منعقدا للمحكمة العليا ؛ولذلك نجد ان
حكم المحكمة العليا قد فصل في هذا التنازع
وحدد المحكمة المختصة بنظر الاستئناف والفصل فيه.
الوجه الثاني : طلب الفصل في تنازع الاختصاص السلبي بدلاً عن الطعن :
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا ومن خلال
استقراء نص المادة (238) إجراءات السابق ذكرها في الوجه الأول نجد ان القضية قد
اتصلت بالمحكمة العليا أو وصلت اليها ليس عن طريق الطعن بالنقض وانما عن طريق طلب
مرفوع من محكمتي استئناف حضرموت والمهرة تضمن طلبهما المرفوع الى المحكمة العليا
الفصل في التنازع السلبي الذي حدث بينهما
بشان نفي كل منهما لاختصاصها واسناد الاختصاص للمحكمة الاخرى ؛ونلاحظ ان طلب تعيين
المحكمة المختصة لا يتم رفعه الا من قبل المحكمتين حسبما ورد في النص لان مسألة الاختصاص من النظام العام وتنازع
المحكمتين في الاختصاص في المسائل الجزائية امر متعلق بالمحكمتين حيث يكون بمثابة
نزاع أو تنازع بين المحكمتين وليس بين أطراف القضية ؛ علماً بان قانون الاجراءات
المصري يجيز للنيابة وللخصوم ان يتقدموا بطلب تعيين المحكمة المختصة حسبما ورد في
المادة (228) اجراءات مصري ، ومن وجهة نظرنا ان النص اليمني افضل من نظيره المصري
لان الطلب ليس طعناً حتى يرفعه الخصوم الى
المحكمة الأعلى كما ان المحكمة التي يقدم اليها الطلب في الخصوم لم تكن قد اتصلت
بالقضية.
الوجه الثالث : نطاق سريان قرار مجلس القضاء بانشاء المحاكم الجزائية المتخصصة :
مع ان هذا القرار قد صدر بتاريخ 9/1/2009م
الا انه قضى بان يتم نفاذه بدءً من تاريخ 23/7/2009م وذلك حتى يتم تعيين القضاة
واعضاء النيابة وتدريبهم وحتى يتم اعداد وتجهيز المقار والاعداد والتحضير لمباشرة
المحاكم لاعمالها ، وبناءً على ذلك فان المعتبر هو تاريخ نفاذ هذا القرار وليس تاريخ صدوره ؛ فهذا من الاستثناء من مبدا
الاثر الفوري للقرارات ؛ وبناء على ذلك فالقضايا التي انعقدت الخصومة فيها امام
المحاكم العادية وقامت تلك المحاكم بعقد
جلسات لنظرها فان تلك المحاكم تكون هي المختصة بنظر تلك القضايا السابقة على تاريخ
نفاذ قرار مجلس القضاء ولو كان هذا القرار قد اناط الاختصاص للمحاكم والشعب
الجزائية المتخصصة حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا ، وتطبيقاً لذلك فان محكمة
الغيظة الابتدائية تكون هي المختصة بنظر قضية المخدرات المشار اليها في الحكم محل
تعليقنا لان تلك المحكمة قد نظرت في
القضية وعقدت جلساتها قبل صدور ونفاذ قرار مجلس القضاء ولو اصدرت حكمهاً بتاريخ 9/3/2010م لان العبرة بتاريخ تقديم القضية وانعقاد الخصومة
ولايغير من هذا الامر انشاء محكمة جزائية متخصصة في المهرة قبل صدور الحكم المشار
اليه ، كما ان محكمة الاستئناف بالمهرة تكون هي المختصة بنظر الطعن بالاستئناف في
الحكم الابتدائي الصادر عن محكمة الغيظة الابتدائية ولو كان قرار مجلس القضاء
الأعلى قد اناط الاختصاص بنظر استئناف قضايا المخدرات وغيرها بالشعبة الجزائية
المتخصصة في حضرموت لقلة القضايا في المهرة فالاختصاص العام لمحكمة الاستئناف
بالمهرة يظل قائماً مع صدور قرار مجلس القضاء الأعلى بانشاء المحاكم والشعب
الجزائية المتخصصة ومع انشاء وتشكيل الشعبة الجزائية المتخصصة في حضرموت التي شرعت
في مباشرة اختصاصاتها قبل مدة طالما والحكم الابتدائي المستأنف المشار اليه قد صدر
من المحكمة الابتدائية غير الجزائية المتخصصة لان هذه المحكمة هي المختصة حين
انعقاد جلستها لنظر القضية قبل نفاذ قرار مجلس القضاء الأعلى بانشاءالمحاكم والشعب
الجزائية المتخصصة.
الوجه الرابع : توصيتنا بالاسقاط الجوي لخارطة اختصاص المحاكم عن طريق نظام (قوقل) :
ذكرنا فيما سبق ان منازعات الاختصاص بين المحاكم ظاهرة نظمها القانون وعالجها لفض الاشتباك والتنازع بين المحاكم وذكرنا ايضا ً ان هذه المنازعات من اسباب اطالة اجراءات التقاضي لان منازعات الاختصاص لا يتم الخوض فيها بموضوع القضية وانما يقتصر النزاع على مسالة الاختصاص ويستمر هذا النزاع لمدد طويلة من غير فصل في الموضوع بسبب قلة التوعية بقواعد الاختصاص ومتعلقاته وعدم فهم الاختصاص المكاني للمحاكم الابتدائية وكذا قلة التوعية بقواعد الاختصاص النوعي والاختصاص المكاني لمحاكم الجمهورية ولذلك فاننا نوصي الجهات المعنية بضرورة الاسقاط الجوي لاختصاص المحاكم المكاني عن طريق التصوير الجوي (قوقل) إضافة الى اصدار المحكمة العليا للتعاميم التي تبين انواع القضايا التي تختص بنظرها المحاكم المختلفة على هيئة دليل وتدريب القضاة والتوعية المستدامة بهذا الموضوع لان هناك تداخل بين القضايا التجارية والقضايا.المدنية والقضايا الشخصية والقضاياالادارية وغيرها وهناك اختلاف وجهات نظر للقضاة في هذا التداخل فمن الملاحظ ان المحكمة العليا تنقض احكاما كثيرة لعدم الاختصاص؛ والله اعلم.