الدولة وارث من لا وارث له

 

الدولة وارث من لا وارث له

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

املاك الدولة وعقاراتها هي ثروة المجتمع باسره الذي يجب عليه أن يحافظ عليها وان يدافع عنها وفقاً لاحكام الدستور الذي صرح بان المحافظة على الاملاك والأموال العامة مسؤولية المجتمع كله، فافراد المجتمع هم المستفيدون أصلاً من هذه الاموال والاملاك بصورة مباشرة او غير مباشرة، ويندرج ضمن املاك الدولة التركات التي يتركها المتوفون الذين لا وارث لهم، إلا أن بعض افراد المجتمع يعميهم الطمع والجشع فيحاول الاستيلاء على تلك التركات مخالفاً بسلوكه أحكام الشرع والقانون، ولا شك ان قانون أراضي وعقارات ولائحته التنفيذية لم يوجدا الآلية المناسبة للإبلاغ عن وفاة الاشخاص الذين لا وارث لهم، ولذلك فان هذا الموضوع يحتاج إلى التوعية القانونية بشأنه وتسليط الضوء عليه، ومن هذا المنطلق اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 22/3/2010م في الطعن الجزائي رقم (36741) لسنة 1430هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن امرأة توفت وتركت منزلين دون أن يكون لها وارث ودون ان تعلم هيئة اراضي الدولة بذلك فقام احد جيران المتوفية بتأجير المنزلين لمدة طويلة تزيد على عشر سنوات.وقد تقدمت هيئة اراضي الدولة بشكوى الى النيابة العامة طلبت فيها تحريك الدعوى الجزائية على المعتدي على العقارين  وتاجيرهما لحسابه  الاستئثار  بايجارات المنزلين باعتبار في ان العقارين  المشار اليهما من املاك الدولة لان الشرع والقانون يقررا أن الدولة وارث من لا وارث له. وبناء على الشكوى قامت نيابة الاموال العامة بإحالة المتهم الى محكمةالاموال العامة وطلبت النيابة معاقبة المتهم بالعقوبة المقررة في المادة (47) من قانون اراضي وعقارات الدولة وامام المحكمة الابتدائية تقدمت هيئة اراضي الدولة بالدعوى المدنية التبعية التي طلبت فيها من المحكمة الحكم للهيئة على المتهم بإعادة مبالغ الايجارات لاكثر من  عشر سنوات وامام المحكمة ادعى المتهم أن المتوفاة كانت مدينة له وانه قد سبق ان صدر له حكم بالمديونية التي بذمتها له، فردت هيئة الاراضي بان الحكم الذي اشار اليه المتهم  قد اثبت ملكية الدولة للمنزلين باعتبار الدولة وارث من لا وارث له، وبعد إجراءات المحاكمة توصلت محكمة الاموال العامة الابتدائية الى الحكم بعدم قبول الدعوى الجزائية والدعوى المدنية التابعة لها ودعوى المديونية المثارة من المتهم، وقد ورد ضمن اسباب هذاالحكم الابتدائي ( انه قد سبق صدور حكم في هذه القضية لم يتم استئنافه فحاز ذلك الحكم حجية الامر المقتضى به واصبح حكماً نهائياً واجب النفاذ في حق الاطراف بالرغم من العيوب التي شابته) وبعد انقضاء المدة المقررة للاستئناف بوقت طويل قام المتهم برفع دعوى ثانية ضد هيئة الاراضي امام محكمة الاموال العامة ذاتها طلب فيها الحكم له بالمديونية التي بذمة المتوفاه والزام هيئة الاراضي بسدادها وقد اجابت هيئة الاراضي على تلك الدعوى بمطالبة المتهم بدفع الايجارات التي ظل يأخذها بدون وجه حق طوال الفترة الماضية بالإضافة إلى مطالبة الهيئة للنيابة بتسليم الهيئة المنزلين المحجوزين من قبل نيابة الاموال العامة، وقد حكمت محكمة الاموال العامة (بشطب الدعوى وثبوت ملكية المنزلين للدولة باعتبار الدولة وارثاً لمن لا وارث له وتسليم المنزلين الى هيئة الاراضي، فقام المتهم باستئناف هذا الحكم الا ان شعبة الأموال العامة الاستئنافية حكمت بإحالة القضية الى الشعبة المدنية للبت في الخلاف فلم تقبل هيئة الاراضي بالحكم الاستئنافي فقامت بالطعن فيه بالنقض الا ان الدائرة الجزائية رفضت الطعن واقرت الحكم الاستئنافي، وقد جاء في حكم المحكمة العليا ( ان الاحكام السابقة على الحكم الاستئنافي الاخير المطعون فيه لم تكن منهية للخصومة كما انها صادرة من الشعبة الجزائية وهي غير مختصة لان القضية مدنية تتعلق بالمديونية التي يدعى بها الشخص الذي قام باستغلال وايجار المنزلين وكذا مطالبة هيئة الاراضي بإيجارات المنزلين المشار اليهما باعتبار تلك المطالبات دعاوي مدنية إضافة إلى ان حكم محكمة الاموال العامة الاخير المستأنف امام الشعبة الجزائية قد صدر من غير ان تسبقه دعوى جزائية من نيابة الاموال العامة. فمحكمة الاموال العامة بإصدارها ذلك الحكم تكون قد خالفت القانون وتجاوزت اختصاصها لانه كان على محكمة الاموال العامة الابتدائية وفقاً لقواعد الاختصاص ان تحيل الدعوى المدنية الى قاضيها الطبيعي لذلك فان الحكم الذي صدر كان من محكمة غير مختصة. وحيث ان محاكم الاستئناف ( الشعب الجزائية) في المحافظات تختص بالفصل استئنافياً في الاحكام والقرارات الصادرة عن محاكم الاموال العامة الابتدائية. وحيث ان الأمر كذلك فان الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد صدر موافقا للقانون حينما قضى بإحالة ملف القضية الى الشعبة المدنية للفصل فيها وفقاً للقانون حيث جاء الحكم سليماً وفقاً لإجراءات صحيحة وموافقاً لصحيح القانون الأمر الذي يتعين معه اطراح الطعن بالنقض برمته) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : عدم العنايةبقواعد الاختصاص  وتوصيتنا لوزارة العدل والمحكمة العليا :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا ومن خلال المطالعة لآلاف الاحكام الصادرة عن المحكمة العليا يظهر ان هناك فجوة هائلة فيما يتعلق بتطبيق واعمال قواعد الاختصاص لاسيما الاختصاص الجزائي وعدم ادراك اختصاصات النيابة العامة ووظيفتها، وما الحكم محل تعليقنا الا شاهداً على هذه الفجوة. فكيف يتم قبول محكمة جزائية لدعوى مدنية متعلقة بإملاك عامة من المدعي المدني الأصلي الذي يدعي بحق خاص به مجرد عن أي دعوى جزائية، ليس هذا فحسب بل ان الحكم محل تعليقنا يدل على إشكالية عدم العناية والاهتمام بمسائل الاختصاص عامة  سوء فهم فيما يتعلق بهذه المسائل، فكيف تتم إحالة قضية جزائية إلى شعبة مدنية مع القضية ببساطة ان المتهم قام بالاعتداء على املاك الدولة وهما المنزلان الذي لا ينكر المتهم انهما ملك الدولة وانه لا وارث للمتوفاة وعلى هذا الاساس لا يجوز ان يقوم بالاستيلاء عليهما من غير أذن أو رضاء أو امر أو حكم فالقانون لا يجيز لأي شخص أن ياخذ حقه بنفسه حتى لو كان المتهم دائناً بالفعل للمتوفاه مع ان دعوى المتهم محل شك كبير لانه لم يطالب بالدين الا بعد الوفاة كذريعة للاستيلاء على المنزلين كما ان القرائن تدل على تن المتوفاة كانت دائنة للمتهم لانها كانت غنية وهو فقير، ولذلك : فأنا أوصي وزارة العدل بتصميم برامج تدريب في مجال الاختصاص القضائي لردم هذه الفجوة، كما أوصي المحكمة العليا بان توجه تعميم الى المحاكم المختلفة يتضمن مسائل الاختصاص وان تلزم القضاة بمراعاة هذه المسائل.

الوجه الثاني : اطالة إجراءات التقاضي بسبب عدم الاهتمام بقواعد الاختصاص وعدم مراعاتها وتوصيتنا :

يظهر الحكم محل تعليقنا كثرة الاحكام وكثرة الطعون وإطالة إجراءات التقاضي وضياع الحقوق وتأخيرها بسبب عدم مراعاة قواعد الاختصاص وعدم العناية والاهتمام بها، ولذلك فان هذه المسألة من أهم اسباب إطالة إجراءات التقاضي باليمن، ولذلك فإننا نوصي بدراسة هذه الظاهرة لمعرفة اسبابها واقتراح المعالجات والتدابير والجزاءات المناسبة لتجاوزها، باعتبار ذلك وسيلة من وسائل اصلاح القضاء وتطويره.

الوجه الثالث : ملكية الدولة للتركات التي لا وارث لها في الشريعة الاسلامية  

من المتفق عليه في الشريعة الاسلامية ان التركات التي لا وارث لها تكون للدولة أو ما يسمى بيت مال المسلمين، حيث اتفق الفقهاء جميعاً أن الدولة ترث من لا وارث له مطلقا وهو الذي ليس ورثة او ً  أرحام فان الدولة ترثه مطلقاً باتفاق الفقهاء، اما اذا مات وليس له ورثة ولكن له ذووا ارحام فقد اختلف الفقهاء على قولين حيث ذهب الزيدية والحنفية والشيعة الامامية والحنابلة الى ان التركة في هذه الحالة يستحقها ذووا الارحام ( البحر الزخار 6/352 وحاشية ابن عابدين 5/504 والانصاف 7/323 وشرائع الاسلام 4/26). وذهب الشافعية والمالكية والظاهرية الى ان التركة في هذه الحالة تؤول الى الدولة لان ذوي الارحام ليسوا من الورثة. والقول الاخير هو المختار من وجهة نظرنا.

الوجه الرابع : ملكية الدولة للتركات التي لا وارث لها في القانون وتوصيتنا للجهات المعنية:

اشار قانون الاحوال الشخصية اليمني على استحياء الى هذه المسألة وذلك في المادة (307) التي نصت في الفقرة الاخيرة على ان من المستحقين للتركة ( الخزانة العامة (بيت مال) ) دون أن تبين ذلك وتركت تطبيق هذا النص من غير ضابط خلافاً لما هو مقرر في القوانين العربية الاخرى. فمثلاً قانون المواريث المصري ينص في المادة الاولى على ان( تؤول التركات في جمهورية مصر العربية التي يخلفها المتوفون عن غير وارث الى بيت المال أياً كانت جنسياتهم مربع نص: الأسعدي للطباعة / ت 772877717وذلك من تاريخ وفاتهم) ولذلك نوصي الجهات المختصة باستحداث مادة في قانون الأحوال الشخصية لبيان هذه المسألة على غرار ما ورد في القانون المصري، اما قانون اراضي وعقارات الدولة فقد كان النص فيه أكثر وضوحاً بشأن هذه المسألة حيث نصت الفقرة (ح) من المادة (6) على انه يعد من اراضي وعقارات الدولة الخاضعة لاحكام قانون الاراضي (ح- الاراضي والعقارات التي لا يعرف مالكها أو لا وارث لها طبقاً لقواعد واحكام الشريعة) الا ان هذا النص مجملاً ولا يغني عن وجوب استحداث المادة الموصى باستحداثها في قانون الاحوال الشخصية. كما نوصي هيئة الاراضي بمخاطبة وزارة الادارة المحلية بالتعميم على السلطات المحلية للتعميم على الجهات المعنية بابلاغ هيئة الاراضي عند وفاة الاشخاص الذين لاوارث لهم، والله اعلم.