اجراءات المحكمة عند تصالح الخصوم

 

اجراءات المحكمة عند تصالح الخصوم

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء

 

للحكم اجراءاته وللصلح اجراءاته لاختلاف طبيعة الحكم عن الصلح, ولذلك ينبغي ان يستحضر القاضي عند تصالح الخصوم هذه الطبيعة الفارقة بين العقد والحكم حتى يتبع  الاجراءات القانونية المقررة لكل منهما, وللمحكمة العليا باعتبارها محكمة قانون دور محمود في تصويب الاجراءات, ويظهر ذلك في الحكم محل تعليقنا؛ وهو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية في جلستها المنعقدة بتاريخ 22/1/2011م في الطعن المدني رقم (41948) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد الاشخاص قام ببيع ارض زراعية بيع اقالة عرفية وفي الميعاد المتفق عليه عجز البائع عن اعادة ثمن تلك الارض  الى المشتري؛ فتنازع البائع والمشتري حتى قام المشتري برفع دعواه امام المحكمة الابتدائية المختصة طالبا فيها الزام البائع بتسليم الارض والغلول؛ وقد حكمت المحكمة الابتدائية  بقبول الدعوى والزام البائع المدعى عليه باطلاق  الارض محل النزاع وتسليمها للمدعي بحسب بصيرة الشراء والزام المدعى عليه بدفع الغلول للمدعي بحسب ما يقدره عدلان خبيران, فقام المدعى عليه باستئناف الحكم الابتدائي امام محكمة الاستئناف المختصة ؛ وفي اثناء اجراءات التقاضي امام محكمة الاستئناف تم التصالح فيما بين المستأنف والمستأنف ضده؛ وبموجب ذلك قامت الشعبة المدنية الاستئنافية بالحكم (باعتبار ما تم التصالح به في قوة السند التنفيذي والحاقه بمحضر الجلسة للتنفيذ بموجبه استنادا الى المادة 214 مرافعات) حسبما ورد في منطوق الحكم الاستئنافي؛ وبعد ذلك  قام البائع بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا التي قبلت الطعن ونقضت الحكم  الاستئنافي مسببة حكمها بانه  (وحيث نصت المادة 214 مرافعات على انه يجوز للخصوم في اية حالة تكون عليها الخصومة ان يتصالحوا ويقدموا ما اتفقوا عليه مكتوبا موقعا عليه منهم او من وكلائهم المفوضين  بالصلح وتقرر المحكمة الحاقه بمحضر الجلسة للتصديق عليه واعتباره في قوة السند الواجب تنفيذه, فان مؤدى هذا النص ان عقد الصلح القضائي انما هو عقد واتفاق متراضى عليه بملء ارادة الطرفين المتصالحين بأشخاصهما او بوكلائهم المفوضين تفويضا خاصا بإبرامه, وبموجب الصلح  يتنازل كل من الطرفين المتصالحين اصالة او وكالة عن جزء من دعواه؛ وشرط الصلح  ان يكون اتفاقا مكتوبا منهم وموقعا عليه ثم يقدم للمحكمة التي تنظر النزاع لتوثيقه والتصديق عليه من بعد التحقق من شروط صحته ومن ثم الحاقه بمحضر الجلسة واعطائه قوة السند الواجب التنفيذ, ذلك ان القاضي وهو يصادق على اتفاق الصلح لا يكون قائما بمهمة الفصل في الخصومة بحكم قضائي ولو كان ينظر النزاع المتصالح عليه, بل تكون مهمته قاصرة على اثبات ما تم الاتفاق عليه مكتوبا والحاقه بمحضر الجلسة ومن ثم التصديق عليه وتوثيقه بمقتضى سلطته الولائية لا سلطته القضائية؛ فاتفاق الصلح المصادق عليه من المحكمة يعد عقدا كسائر العقود وفقا للمادة (668) مدني وان اتخذ شكل وصورة الحكم عند الاثبات, وحين الاختلاف على محتواه ومضمونه فانه يخضع لما تخضع له سائر العقود والمعاملات الموثقة سواء تعلقت ببطلانه او انقضائه او فساده او تفسيره او انفساخه, وحيث ان الثابت بمحضر جلسة الشعبة الاستئنافية حضور المطعون ضده وحضور محامي الطاعن دون موكله وعدم وجود تفويض بالصلح من الطاعن لمحاميه الحاضر في تلك الجلسة, لذلك فان الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد اعتمد على مالا يعتمد عليه حيث اعتمد على ما ادلى به محامي الطاعن شفاهة بانه راجع موكله الذي وافق على ان يدفع للمشتري المطعون ضده للطاعن مبلغ مائة الف ريال توفية ثمن الارض المبيعة من دون ان يكون ذلك الاتفاق مكتوبا وموقعا عليه لا اصالة او وكالة, لذلك فان ما انتهى اليه الحكم المطعون فيه الحاق مسمى الصلح المنسوب لطرفيه بمحضر الجلسة مخالف للقانون مما يستوجب نقضه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الاوجه الاتية :

الوجه الاول : الوضعية القانونية للصلح القضائي :

اشار الحكم محل تعليقنا الى مسمى الصلح القضائي, وبحسب وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا يظهر ان الصلح القضائي هو الذي يقع بين الخصوم في اثناء نظر القضاء للقضية التي تصالح بشأنها الخصوم, والصلح القضائي هو المقصود والمشار اليه في المادة (214) مرافعات التي نصت على انه (يجوز للخصوم في اية حالة تكون عليها الخصومة ان يتصالحوا فيها ويقدموا ما اتفقوا عليه مكتوبا وموقعا عليه منهم او من وكلائهم المفوضين بالصلح وتقرر المحكمة الحاقه بمحضر الجلسة للتصديق عليه واعتباره في قوة السند الواجب التنفيذ) والصلح القضائي بهذا المفهوم يشترط فيه ان يكون كتابة وان يتم التوقيع عليه من قبل الخصوم انفسهم او من قبل وكلائهم المفوضين منهم تفويضا خاصا بإجراء الصلح كما يشترط في هذا الصلح ان يتم تقديمه الى المحكمة التي تنظر النزاع وان يطلب منها الخصوم التصديق على الصلح  واعتباره في قوة السند التنفيذي .

الوجه الثاني : عقد الصلح المدني :

الصلح عقد حسبما قرر القانون المدني وحسبما قضى الحكم محل تعليقنا, فقد نصت المادة (668) مدني على ان (الصلح عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة يحسم به الطرفان نزاعا قائما او يتوقيان به نزاعا محتملا وذلك بان يتنازل كل منهما عن جزء من ادعائه) وقد نظم القانون المدني عقد الصلح في المواد (من 668الى0 68) ومن خلال ذلك يظهر ان القانون المدني لم يشترط التصديق على الصلح  او كتابته وغير ذلك من الشروط والاجراءات المطلوبة في الصلح القضائي السابق ذكرها في الوجه الاول بل ان القانون المدني عقد الصلح الصادر من الفضولي شريطة ان يجيز ذلك الاصيل .

الوجه الثالث : الفرق بين الصلح القضائي والصلح المدني :

من خلال ما ورد في الوجهين السابقين يظهر ان الصلح القضائي وان كان عقدا حسبما قرر القانون المدني وقضى به الحكم محل تعليقنا الا ان هذا العقد له سمات تميزه عن عقد الصلح المنظم في القانون المدني ؛ وهذه السمات هي وجوب كتابة الصلح القضائي لان قانون المرافعات قد اوجب ذلك صراحة كما انه من اللازم في الصلح القضائي التوقيع عليه وتقديمه للمحكمة وقيام المحكمة بالتصديق عليه ثم صيرورته سندا تنفيذيا واجب النفاذ فكل هذه الشروط والاجراءات تميز الصلح القضائي عن عقد الصلح المدني حسبما نظمه القانون المدني .

الوجه الرابع : اجراءات الصلح القضائي :

حددت المادة (214) مرافعات السابق ذكرها في الوجه الاول حددت الاجراءات الواجب اتباعها عند الصلح القضائي,  ويمكن تلخيص هذه الاجراءات على النحو الاتي :

اولا: كتابة الصلح : حيث اشترطت ذلك صراحة المادة (214) مرافعات, وهذا الشرط وجيه لان الصلح تنازل واسقاط حسبما سبق بيانه لا سيما اذا تم هذا التصالح امام القضاء حيث يصير الصلح سندا تنفيذيا بقوة القانون حسبما سبق بيانه ولذلك فان الخصوم المتصالحون   يحتاجون  الى دراسة الامر بتدبر وتبصر  ولا يتحقق ذلك الا اذا امعن الخصم النظر في بنود الصلح عند كتابتها ومراجعتها ؛اضافة الى ان القاضي يتعذر عليه ان يرفق بمحضر الجلسة عقدا غير مكتوب بحسب التعبير الوارد في المادة (214) مرافعات, علاوة على ان كتابة عقد الصلح تحول دون حدوث خلاف بين المتصالحين  عند تفسير او تطبيق بنود الصلح القضائي, وعلى هذا الاساس فقد قضى الحكم محل تعليقنا بنقض الحكم الاستئنافي لأنه اعتمد صلحا غير مكتوب.

ثانيا : التوقيع على عقد الصلح : اشترطت المادة (214) مرافعات ان يقوم الخصوم انفسهم او الوكلاء المفوضون منهم بالتصالح ان يقوموا بالتوقيع على الصلح القضائي, لان الصلح المكتوب من دون توقيع الخصوم عليه لا يستفاد منه ان المتصالحين موافقون على ما ورد في الوثيقة المكتوبة ؛ فالعرف السائد ان التوقيع على الوثائق بمثابة اقرار بصدور المحرر من الشخص الذي قام بالتوقيع عليه اذا كان هذا المحرر بخط صاحب التوقيع كما ان  التوقيع من جهة ثانية يدل على ان الذي قام بالتوقيع في نهاية الوثيقة موافق على ما ورد فيه حتى ولو لم تكن بخطه, وعلى هذا الاساس فقد قضى الحكم محل تعليقنا بنقض الحكم الاستئنافي لأنه اعتمد صلحا غير مكتوب ولم يقم الطاعن بالتوقيع للاستدلال على رضاه بالعقد لان الصلح القضائي عقد حسبما ورد في الحكم كككمحل تعليقنا .

ثالثا : تقديم وثيقة الصلح الى المحكمة التي تنظر النزاع : ايضا هذا الشرط ثابت في المادة (214) مرافعات السابق ذكرها, لان الصلح لا يكون قضائيا الا اذا كان بصدد خصومة قضائية منظورة امام القضاء, كما ان القاضي الذي ينظر النزاع  لايستطيع ان يعتمد الصلح من غير ان يتفق الخصوم معا على الافصاح بانهم قد تصالحوا بالفعل وقد حرروا وثيقة بذلك وانهم يطلبون من المحكمة التصديق على الصلح وتطبيق نص المادة (214) مرافعات عليه, واعتبار القضية منتهية بالتصالح,  وبدون ذلك لا يستطيع القاضي من تلقاء نفسه ان يقضي بشيء لم يطلبه الخصوم .

رابعا : قرار القاضي بإرفاق وثيقة الصلح بمحضر الجلسة : من المتفق عليه عند غالبية القضاء ان هذا القرار يكون سابقا للتصديق على الوثيقة والا لما كانت له فائدة لان المادة (214) مرافعات ونظائرها في قوانين الدول العربية قد صرحت بان الغاية من هذا القرار هو اثبات اتصال القاضي او المحكمة بوثيقة  الصلح حتى يقوم القاضي  بدراستها والتأكد من توفر اركان وشروط عقد الصلح وانطباقها على الوثيقة المقدمة له للتصديق عليها, ولذلك فان هذا القرار سابق للتصديق وسابق للقرار الذي سوف تخلص فيه المحكمة الى اعتبار الصلح سندا تنفيذيا .

خامسا : تصديق القاضي او المحكمة على وثيقة الصلح : فهذا الاجراء هو اهم اجراءات المحكمة بالنسبة للصلح القضائي حيث ان المحكمة تقوم بدراسة وثيقة الصلح في ضوء احكام العقد المنصوص عليها في القانون المدني وفي ضوء نص المادة (214) مرافعات وذلك للتحقق من صفات الخصوم المتصالحين وما اذا كانوا هم الخصوم انفسهم او وكلاء عنهم وما اذا كانت لدى الوكلاء وكالة صحيحة تتوفر فيه كافة الشروط والمتطلبات القانونية, كما ان الدراسة لوثيقة الصلح تتجه ايضا للشروط الخاصة بالخصوم المتصالحين ومن ذلك  الاهلية الخاصة بالصلح لان الصلح اسقاط وتنازل فلا يجوز لولي الصغير ان يصالح ولا يجوز للولي على المال العام ان يصالح ولا الناظر الوقف الا بإذن خاص اذا كان في ذلك مصلحة للوقف او المال العام او الصغير, كما ان هناك شروط اخرى في محل النزاع الذي يقع التصالح بشأنه كما ان هناك شروط اخرى بشأن بدل الصلح او العوض المتصالح عليه ولا شك ان هذه المسائل الدقيقة وغيرها تحتاج الى دراسة القاضي لوثيقة الصلح  للتأكد من صحته وسلامته وموافقته لأحكام الشرع والقانون .

سادسا : التقرير بانتهاء القضية المنظورة بالتصالح واعتبار الصلح سندا تنفيذيا : وهذا الاجراء هو خاتمة الاجراءات التي تتبعها المحكمة, فاذا ثبت للمحكمة صحة وثيقة الصلح على النحو السابق بيانه فأنها تقوم بإصدار قرار تعلن فيه انتهاء القضية المنظورةامامها بالتصالح ويتم اثبات وثيقة الصلح المقدمة من الخصوم كما هي في قرار المحكمة وبعدئذ مباشرة تقرر المحكمة انتهاء القضية بالتصالح واعتبار الصلح سندا تنفيذيا حسبما نص القانون, فلا ينبغي ان يكتفي القاضي في  القرار المشار اليه على ارفاق وثيقة الصلح بمحضر الجلسة حسبما صنع الحكم الاستئنافي المنقوض بالحكم محل تعليقنا, وهذا هو الفرق الجوهري بين وثيقة الصلح القضائي التي تتخذ هذا الشكل وبين وثيقة الصلح التي تتم المصادقة عليها من قبل  قلم التوثيق التي تقتصر الموثق فيها على اثبات حضور اطراف عقد الصلح ومصادقتهما وقبولهما لما ورد في الوثيقة وقيام الموثق بالتأكد من صفات المتصالحين  ثم يقوم الموثق بإثبات ذلك في ذيل وثيقة الصلح وقد المح الحكم محل تعليقنا الى ان مصادقة القاضي المنظور امامه النزاع هي من قبيل العمل الولائي للقاضي وليس من قبيل العمل القضائي حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا اي ان مصادقة  القاضي في هذه الحالة تكون مثا مصادقة قلم التوثيق وهذا يويد وجهة نظرنا بان محررات الصلح الموثقة لدى اقلام التوثيق تعد سندات تنفيذية وقد ذكرنا مبررات وجهة النظر هذه في تعليق سابق .

الوجه الخامس : الاثار المترتبة على الصلح :

يترتب على الصلح القضائي وغيره حسم النزاع حيث نصت المادة (668) مدني على ان الصلح يرفع النزاع وكذلك المادة (214) مرافعات التي صرحت بان التصالح يحسم النزاع, ومع ان الصلح عقد مثله غيره من العقود حسبما ورد في القانون المدني والحكم محل تعليقنا الا انه للصلح  تأثير بالغ على الدعاوى والحقوق حسبما ورد في المادة (677) التي نصت على ان (يحسم الصلح المنازعات التي تناولها ويترتب عليه انقضاء الحقوق والادعاءات التي تنازل عنها أي من الطرفين تنازلا نهائيا) ومع هذا وذاك فان قرارات المحاكم اليمنية المتضمنة اتفاقيات الصلح بين الخصوم يتم الطعن فيها امام المحاكم الاعلى درجة على اساس انها احكام قضائية وليس عقود بين الخصوم مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ولذلك يفضل كثير من الاشخاص توثيق اتفاقيات الصلح لدى اقلام التوثيق بدلا من اثارتها امام المحاكم  ولذلك  قضى الحكم محل تعليقنا بان مصادقة القاضي على وثيقة الصلح من قبيل  العمل الولائي وليس القضائي وان مصادقة القاضي تكون كمصادقة قلم التوثيق  ؛ والله اعلم .  



الأسعدي للطباعة ت : 772877717