جزاء إهمال المصاب للعلاج

 

جزاء إهمال المصاب للعلاج

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

تنجم عن الحوادث المرورية وغيرها إصابات كثيرة ومتفاوتة وتتضاعف هذه الاصابات وتتفاقم لأسباب عدة ،منها إهمال المصاب في معالجة الاصابة والالتزام بالتوجيهات والارشادات الطبية، وقد قرر الحكم محل تعليقنا مبدأ : أن المتسبب في الحادث لا يكون مسئولاً عن تفاقم الاصابة اذا كان ذلك بسبب اهمال المصاب نفسه، ولأهمية هذا الحكم فقد اخترنا التعليق عليه ،وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/5/2012م في الطعن رقم (43174) لسنة 1433هـ، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم  أنه وقع حادث مروري  نجم عنه إصابة شخص  كان راكبا على دراجة نارية فاصيب بكسر في ساقه والتواء في عنقه حيث تم اسعافه وإجراء المعالجة اللازمة له في مستشفى كبير (السعودي الألماني) وقد تحسنت حالته بعد ذلك وشارف على الشفاء وقد اصدر ذلك المستشفى تقريرا أوضح فيه نوع الاصابات وأن المصاب سيتماثل للشفاء تماماً خلال مدة اقصاها ثلاثة أشهر وبناءً على ذلك فقد أوصى المختصون بالمستشفى المشار اليه بخروج المصاب من المستشفى وبقائه في منزله لمدة ثلاثة أشهر وقد تضمن ذلك التقرير توجيهات وإرشادات المستشفى التي كان يجب على المصاب اتباعها والالتزام بها ومن ذلك عدم المشي على الرجل المصابة أو تلويث الجرح الذي في الساق وغير ذلك من الارشادات الطبية، وقد قام الشخص المتسبب في الحادث المروري بدفع تكاليف المستشفى والعلاج، وبعد خروج المصاب من المستشفى المشار اليه تم عرضه للفحص في أكبر مستشفى حكومي (مستشفى الثورة) الذي اصدر تقريرا مماثلا  للتقرير الصادر عن المستشفى الألماني، إلا أن المصاب لم يلتزم بالإرشادات الطبية فكان يقوم بالمجارحة والمراجعة لمستشفيات ومستوصفات خاصة عدة إضافة إلى تلقيه العلاج الشعبي فتضاعفت حالته فقام المتسبب في الحادث المروري بإسعافه مرة ثانية إلى (المستشفى الالماني) الذي أكد في تقريره بأن سبب تفاقم حالة المصاب ليس الاصابة السابقة وانما مخالفة المصاب للإرشادات الطبية وتلويثه للجرح ومراجعته ومجارحته لدى مستوصفات وعيادات شعبية كثيرة وعندما تم فحص حالة المصاب من قبل (مستشفى الثورة الحكومي توصل إلى النتيجة ذاتها، وبعدئذ حدث الخلاف فيما بين المتسبب بالحادث والمصاب حيث تم إحالة الموضوع إلى محكمة المرور الابتدائية التي قضت بالزام المتسبب في الحادث المروري بدفع أرش الجناية التي لحقت بالمصاب المسماة (الناقلة) بالإضافة إلى تكاليف علاجه التي قدرتها المحكمة بخمسمائة الف ريال فلم يقبل المصاب بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه  فقضت الشعبة الجزائية بتعديل الحكم الابتدائي وتحميل المتسبب بالحادث بتكاليف علاج اضافية  فلم يقبل  المتسبب بالحادث لم يقبل بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض ، فقبلت الدائرة الجزائية الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وحيث يتضح من كل ما سبق أن المصاب ..... هو المتسبب في المضاعفات الواقعة فيه لعدم التزامه بالعلاج في مستشفى بعينه وبإشراف اطباء متخصصين واكثاره من التنقل بين عدة مستشفيات وإجراء عدة عمليات لاحاجة ولاضرورة لها حسبما أوضحته التقارير الطبية المرفقة الأمر الذي يجعل المطعون ضده هو الذي يتحمل تبعات ذلك وما ترتب عليه من مضاعفات فلا مبرر شرعي أو قانوني لتحميل الطاعن ما نجم عن تلك الاخطاء والمضاعفات) وسيكون تعليقنا على الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : مظاهر إهمال علاج الإصابة :

من خلال مطالعة وقائع واسباب الحكم محل تعليقنا نجد أنه قد قرر مسئولية المتسبب في الحادث  وتحميله التكاليف والأروش والتعويض المترتبة على الإصابة التي لحقت بالمصاب جراء خطأ المتسبب في الحادث، وفي الوقت ذاته فقد قرر الحكم عدم مسئولية المتسبب عن خطأ وإهمال المصاب نفسه في علاج إصابته  واتباعه الوسائل البدائية أو الشعبية في العلاج وعدم اكتراثه بالإرشادات الطبية الصادرة من المستشفيات والاطباء المتخصصون أصحاب الخبرة والدراية بشأن كيفية التعامل مع الاصابة والجروح وحفظها من التلوث، ولا ريب أن إثبات اهمال المصاب يحتاج إلى تقارير أهل الخبرة الذين يفحصون المصاب ويقدموا للقضاء نتائج فحصهم وكشفهم لجراح المصاب واسباب تفاقمها حتى يتبين للقاضي ما اذا كان سبب التفاقم يرجع إلى إهمال المصاب نفسه مثلما حصل في وقائع واسباب الحكم محل تعليقنا.

الوجه الثاني : التأصيل الشرعي لتحميل المصاب المهمل نتائج وتبعات إهماله :

الاهمال امتناع عن افعال مأمور بها شرعاً على وجه الوجوب أو الندب، والمهمل للواجب آثم مستحق للعقوبة التعزيرية (التعزير في الشريعة الاسلامية، عبد العزيز عامر، ص142) ويندرج من ضمن ذلك إهمال الشخص لنفسه وأهله، ومن جنس اهمال الانسان لنفسه اهماله  للجراح التي يصاب بها، فالواجب ان يبذل المصاب عنايته القصوى في العناية والصيانة والاهتمام بالجراح التي تصيبه حفظاً لنفسه من  الهلاك أو عضوه من التلف، فذلك من أهم مقاصد الشريعة (أصول الفقه في نسيجه الجديد لشيخنا الاستاذ الدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي 2/82) فاذا كان المهمل لجراحه آثم مستوجب للعقوبة فانه يكون المسئول مدنياً عن أية تبعات ومسئوليات بما لحق به من ضرر نتيجة اهماله، وقد استخلص الفقهاء من هذا التخريج البديع قاعدة (ما كان سببه منه فهدر) أي أن يتحمل الشخص تبعة الفعل أو الامتناع الذي يرجع اليه فلا يحق له تحميل غيره تبعات فعله لان حقه في ذلك مهدور بفعله او بإهماله.


الوجه الثالث : التأصيل القانوني لتحميل المصاب المهمل نتائج وتبعات إهماله : 

التأصيل القانوني لذلك يقترب كثيرا من التأصيل الشرعي، لان التأصيل الشرعي هو المعين الذي ينهمل منه القانون اليمني، ويظهر ذلك من مطالعة المادة (7) عقوبات التي نصت على أن ( لا يسأل شخص عن جريمة يتطلب القانون لتمامها حدوث نتيجة معينة إلا اذا كان سلوكه فعلاً أو امتناعاً هو السبب في وقوع هذه النتيجة وتقوم رابطة السببية متى كان من المحتمل طبقاً لما تجري عليه الامور في الحياة عادة أن يكون سلوك الجاني سببا فيً وقوع النتيجة وما كان سببه منه فهدر على أن هذه الرابطة تنتفي اذا تداخل عامل اخر يكون كافياً بذاته لإحداث النتيجة وعندئذ تقتصر مسئولية الشخص عن سلوكه اذا كان القانون يجرمه مستقلاً عن النتيجة) ومن خلال مطالعة هذا النص نجد أنه يقرر صراحة أنه اذا كان سبب تفاقم الاصابة يرجع إلى إهمال المصاب نفسه فهو هدر يتحمله المصاب نفسه وفي الوقت ذاته فان هذا النص يقرر ان الشخص لا يسأل الا عن الإصابة التي سببها فعله، والله اعلم.