كتابة البصيرة القديمة بالحبر الأزرق
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
الحبر
الأسود والورق الأبيض يزيدا الحق بياناً ووضوحا، ولذلك كانت كلمة (أبيض واسود)
شعار لمنظمات الشفافية في العالم لما يمثله الأبيض والاسود من بيان ووضوحً ، بل ان
الكافة يستعمل كلمة (أسود وابيض) للتدليل على وضوح الرؤية وسلامة الإتجاه،
والبصائر أو وثائق الملكية وسائر العقود والتصرفات تتضمن إثبات الحقوق وحفظها من
الجحود والانكار والضياع والنسيان، ولذلك تستعمل في تحريرها او كتابتها الاحبار
السوداء والاوراق البيضاء ، فعند إستعمال الاحبار الأخرى غير الاسود في كتابة
العقود والتصرفات وغيرها من الوثائق المهمة فان ذلك يثير الشك والريبة في المحرر
خاصة عندما تكون البصيرة قديمة مثلما وقع في القضية التي تناولها الحكم محل
تعليقنا، وهو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 22/1/2013م ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ان الشعبة
المدنية ارتابت في البصيرة المبرزة امامها المحررة في عام 1947 لان هذه البصيرة مكتوبة بالحبر الازرق،
وبناءً على ذلك فقد رفضت الشعبة الإستدلال بهذه البصيرة، حيث ذكرت الشعبة في اسباب
حكمها مانصه: (وحيث ان المدعية ومن اليها استندوا في دعواهم إلى بصيرة محررة سنة
1367هـ محررة بقلم الأمين... حكت شراء ....
لنفسه من البائع إليه... وعلى ظاهر البصيرة تعطيل بقلم كاتب البصيرة نفسه
بحبر سائل ازرق مؤرخ سنة 1367هـ حكى فيها انتقال ما في باطن البصيرة إلى مؤرث
المدعية وهو الذي ولد الشك لدى المحكمة لعدم وجود ذلك الحبر بذلك التاريخ قبل
الثورة بخمس عشرة سنة في الوقت الذي كان يوجد الخط بالريشة والمحبرة) وعندما تم
الطعن بالنقض بالحكم الاستىنافي امام الدائرة المدنية بالمحكمة العليا ناقشت ما
ورد في اسباب الحكم الاستئنافي بالقول :(اما الاستدلال بما تضمنه ظاهر البصيرة
المشار اليها الذي افاد انتقال ما في باطن البصيرة إلى مؤرث الطاعنة وان التعطيل
كان بحبر ازرق في تاريخ 1367هـ وهو الذي ولد الشك لدى المحكمة لعدم وجود ذلك الحبر
في ذلك التاريخ قبل الثورة بخمس عشرة سنة، فهذا التعليل من محكمة الاستئناف تعليل
عليل ،لان الثابت ان المداد الازرق الذي اشار اليه الحكم في الحيثيات لا شك ولا
ريب انه كان موجوداً وقتئذ في اكثر المعاملات ومنجانب آخر فان المعلوم ان عقود
المسلمين مبنية على الصحة فلا يحق للمحكمة ان تبطل عقدا شرعياً بهذا التعليل
الواهي فكان الأولى والأحرى بها ان تتأكد من عدالة الكاتب محرر العقد المشار اليه)
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : وجود الحبر الأزرق وغيره في اليمن منذ مدة طويلة :
صرح
الحكم محل تعليقنا بان ريبة الحكم الاستئنافي وشكه بالبصيرة المكتوبة بالحبر
الازرق لم تكن في محلها، لان الحبر الأزرق كان موجودا في تاريخ تحرير البصيرة محل
النزاع (1367هـ - 1947) بل ان الحبر الازرق والاحمر والاخضر وغيرها كانت موجودة في
اليمن قبل ذلك التاريخ بوقت بعيد، فذلك ظاهر في المخطوطات ونسخ القران اليمانية
الموجودة في المكتبات العامة والخاصة فقد كانت مكتوبة باحبار مختلفة،فمثلا المصاحف
كان الحبر الاسود تكتب به الحروف والاحمر تكتب به علامات الضبط والازرق تكتب
علامات الحروف، لان كتابة نسخ القران الكريم
كانت تجرد الإضافات والنقط وعلامات الضبط والترقيم باحبار غير الحبر الاسود
الذي تكتب به حروف القران الكريم كما هو معروف، ولذلك فقد كان يتم تحضير الاحبار
بالوانها المختلفة في كل المدن والقرى اليمنية تقريباً بطرق معروفة ليست محل
تعليقنا، وإنما كان من النادر كتابة الوثائق والتصرفات بغير الحبر الاسود كالحبر
الازرق او الاحمر او غيرهما من الأحبار لعدم وضوح هذه الاحبار، لان اسلافنا كتبة
أهل اليمن كانوا يتحرون كثيراً في إختيار الأوراق والاحبار عند تحرير العقود
والتصرفات، فكانوا يختارون الحبر الاسود والورق الأبيض السميك والقوي لانه اكثر
وضوحا وديمومةً ومن ثم اكثر إظهاراً وبيانا وحفظاً للحق الثابت في المحرر، ولذلك
كان من النادر جداً إستعمال الحبر الازرق في كتابة العقود والتصرفات.
الوجه الثاني : نهج كتبة اليمن المتقدمين في إختيار الورق والحبر المستعمل في كتابة العقود والتصرفات :
من
خلال المطالعة للكتب التي كانت تدرس للكتبة المتقدمين في مدارس وهجر العلم في اليمن وتحديداً ما يسمى
(ادب الطلب) أي طلب العلم حيث كان يتضمن توجيهات وإرشادات لطلبة العلم ومن ضمنهم
الكتبة،فقد كانت تلقى عليهم شفوياً قبل ان يتعلموا الكتابة ذاتها بل ان بعضهم كان
يحفظ متون ادب الطلب نظماً فكان كتاب الطلب يتضمن شرحاً وافياً عن (القرطاس والقلم
والحبر) وفي سياق ذلك تتناول كتب آدب الطلب انه
ينبغي ان يستعمل الكاتب الحبر الاسود لزيادة بيانه وان يتم خلطه بمادة
الصمغ لضمان بقائه ولمعانه لمدة طويلة وان القرطاس ينبغي ان يكون من الأوراق
المتينة السميكة التي لا تتأكل ولاتتكسر بمرور الدهر، وخلاصة القول : ان منهج كتبة
البصائر المتقدمين كان يعتمد على التحري في إختيار الحبر والورق الذي يلائم مدة الحق او الشيء الثابت في المحررات المكتوبة، وتجديداً لمسلك المتقدمين
من اسلافنا من الكتبة الصالحين فانه يجب على من يتولى تحرير وكتابة المحررات في
العصر الحاضر ان يقتدي بمنهج الكتبة المتقدمين فيتحرى في إختيار الاحبار والاوراق المناسبة التي يكون عمرها مناسباً
لعمر الحق الثابت في الوثيقة، علماً بان الاحبار والأقلام المختلفة تقوم الشركات
المصنعة لها بتدوين مواصفاتها على هذه الاحبار والأقلام والاوراق فهناك اقلام يظل
حبرها ثابتاً لعشر سنوات وهناك اقلام يختفي خطها بمضي سنة وهناك اقلام احبارها لا
تمحى بالماء وهي التي يستعملها بعض الامناء في اليمن في العصر الحاضر، كما ان هناك
احبار الطابعات التي تمحي وتختفي بمضي مدة وجيزة بسبب قلة نسبة الصمغ ونترات الفضة
فيها والتي تجعلها صالحة لمدة طويلة، ولذلك ينبغي على الأمين الشرعي وغيره ان
يتحرى في إختيار القلم والورق والحبر الذي يكتب فيه المحرر حتى يحفظ حقوق الناس،
وقد اختارت وزارة العدل اوراق خاصة لاستعمالها في تحرير العقود والتصرفات وبعضها
مواصفاتها مناسبة وبعضها تتكسر بمرور الوقت، لذلك ينبغي على الامين أن يختار النوع
المناسب من تلك الاوراق عند كتابة العقود والتصرفات (ادب الطلب للشوكاني، صـ67)
و(نجاح الطالب في صفة ما يكتب الكاتب، القاضي علي الارياني صـ25).
الوجه الثالث : اقلام وأوراق تسرب الشك في التصرف :
مثل
إبراز وثيقة محررة بقلم جاف أو على ورق حديث لم يكن موجوداً في التاريخ المدون في
المحرر، فقد قضت المحكمة العليا في قضية مشهورة ببطلان الاحتجاج ببصيرة مزعومة
مكتوبة بالقلم الجاف الازرق وعلى ورق حديث مسطر استناداً إلى تقرير المعمل الجنائي
الذي تتوفر لديه الإمكانيات الفنية
والتقنية لتحديد عمر الخط وعمر الورقة وتاريخ الكتابة،ولذلك فانه من غير الجائز
كتابة العقود والتصرفات بالقلم الجاف بصرف النظر عن لونه وكذا فانه من غير الجائز
استعمال الورق العادي أو المسطر أو ورق
الدفاتر في كتابة العقود والتصرفات لأن هذه الاوراق لاتعمر طويلا ،علما بأن تحرير
الشيكات يتم بالقلم الجاف لاسباب تقنية تتعلق بورق الشيك ومطابقة التوقيع ومدة
إحتفاظ البنك بالشيك بعد صرفه.
الوجه الرابع : التحقق من صحة خط كاتب الوثيقة وعدالته :
ارشد
حكم المحكمة العليا محل تعليقنا ارشد الشعبة الاستئنافية بالتحقق من صحة الخط الذي
كتبت به البصيرة بدلاً من البحث عن الحبر الذي كتبت به البصيرة، لانه من السهل
لمحكمة الموضوع الاستدلال على خط الكاتب لان الكتبة في الماضي كانوا قلة ولهم كتاباتهم
المختلفة، ولذلك نجد في اليمن ان غالبية الناس يحتفظوا حتى برسائل الاشخاص الخطية
للاستدلال بها على خطوطهم عند الخلاف فقد لاحظت في قضية في محافظة ذمار ان احد
الاشخاص استدل على صحة خط محرر البصيرة برسالة من كاتب البصيرة إلى قبيلة أخرى
يدعوهم لحضور زواج ابنه (مظاهاة الخطوط، د.محمد صيام، صـ132) وكذا ينبغي التحقق من
عدالة الكاتب والمقصود بذلك التحقق مما
إذا كان كاتب البصيرة من المشهورين بالتزوير حيث أن اسماء الكتبة المزورين في
الماضي والحاضر مشهورة حيث يستفيض علم تزويرهم بين الناس لكثرة وقائع التزوير
المنسوبة اليهم التي تكون محلا للتحقيق والنقاش امام جهات الضبط والنيابة والمحاكم
المختلفة،والله اعلم.