الأدلة اللازمة للحكم بالقصاص

 

الأدلة اللازمة للحكم بالقصاص

أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا بتاريخ21/3/2007م في الطعن الجزائي رقم 28313لسنة 1428ه وخلاصة هذا الحكم أنه ( بعد إطلاع الدائرة على ملف القضية وحيث أن نيابة النقض طلبت في مذكرتها عدم قبول الطعن شكلاً لتقديمه بعد انقضاء المدة المحددة قانوناً ومن خلال الدراسة فقد وجدت الدائرة أن الحكم المطعون فيه صدر بتاريخ26/2/2006م إلا أن الطاعن محبوس في السجن المركزي رهن المحاكمة ولم يتسلم نسخة من الحكم إلا بتاريخ 8/5/2006م ونظراً لظروف المذكور فإن ميعاد الطعن بالنقض يبدأ سريانه من تاريخ تسليم الطاعن لنسخة من الحكم مما يجعل الطعن مقبولاً شكلاً لتقديمه بعد مضي 33 يوماً من تاريخ استلام الطاعن لنسخة الحكم، وحيث أن الطاعن ينعي على الحكم المطعون فيه مخالفته للقانون لأنه استند في قضائه لشهادة تخالف الواقع وأن هناك قصور في التسبيب ، كما أن الحكم لم يناقش الدفوع والطلبات التي تقدم بها الطاعن إضافة إلى أن الشعبة الإستئنافية لم تستدع الطبيب الشرعي لمناقشته بشان ما ورد في تقريره، وبعد دراسة الدائرة للك المطاعن فقد وجدت أن ما ذكره الطاعن مردود عليه بأن الشعبة قد قامت بمعاينة مسرح الجريمة بناءً على طلب الطاعن وذللك لمعرفة ملابسات الجريمة ، وفي أثناء المعاينة حضر بعض شهود الإدعاء ، حيث قاموا بتروية الشعبة وحينها اتضح للشعبة المكان الذي كان يقف فيه الجاني والمجني عليه و شهود رؤية الواقعة، ومن خلال ذلك اقنعت الشعبة بصحة شهاداتهم وامكانية رؤيتهم للواقعة وأنه ليس هناك مانع يحول دون الرؤية ولو كان الشاهد في مكان منخفض ، كما أن الشهادات تساندت بإعتراف الطاعن في محضر جمع الإستدلالات بقيامه بإطلاق على المجني عليه من جوار منزل.... وهذا المكان يطل على الموضع الذي كان المجني عليه موجوداً فيه، أما قول الطاعن بأن الشعبة لم تستدع الطبيب الشرعي فمردود عليه بأن التقرير كان واضحاً لا غموض فيه ولا إجمال يقتضي أن تقوم الشعبة بإستدعاء الطبيب لمناقشته للإستيضاح، لا سيما وأن تقرير الطبيب الشرعي قد جاء موافقاً ومطابقاً لتقرير المعاينة، وحيث أن الحكم الإستئنافي والحكم الإبتدائي قد استندا في قضائهما بإدانة الطاعن إلى إعترافه وشهادة الشهود ومحضر جمع الإستدلالات ومحضر المعاينة وشهود الرؤية الذين حضروا في اثناء المعاينة ، ومن خلال ذلك توصل الحكمان المشار إليهما إلى أن الطاعن هو الذي قام بإطلاق النار على المجني عليه عمداً وعدواناً، ولزوم إجراء القصاص منه ، لذلك فإن ما ذكره الطاعن لا يقوم على أساس مما يتعين رفضه، ولكل ما سبق وعملاً بالمواد435و436و437و478و479 إجراءات فإن الدائرة تحكم بالآتي: 1- قبول الطعن شكلاً ورفضه موضوعاً 2- قبول مذكرة العرض الوجوبي من النيابة العامة 3- اقرار الحكم المطعون فيه الصادر من محكمة الإستئناف ....المؤيد للحكم الإبتدائي بإجراء القصاص عن....لقتلة المجني عليه.....4- مصادرة السلاح المستخدم في الجريمة، والله ولي الهداية والتوفيق) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الأول: صعوبة إثبات القتل العمد الموجب للقصاص:

من المقرر شرعاً وقانوناً وقضاءً صعوبة إثبات القتل العمد الموجب للقصاص ، لأن القصاص ملحق بالحدود فيما يتعلق بدرء الشبهات، حيث قرر الفقه الإسلامي أن القصاص يلحق بالحدود فيما يتعلق بالدرء  بالشبهات، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ادرأو الحدود بالشبهات ما استطعتم)) ، وقد الحق الفقهاء القصاص بالحدود فيما يتعلق بالدرء من الشبهات نظراً لأن العقوبات في القصاص جسيمة ويتعذر تداركها ، وكذلك فإن أية شبهة في ردة فعل القاتل أو في الشهادات أو الإقرار تسقط القصاص، وكذلك اشترط الفقه الغسلامي والقانو والقضاء أن تكون الأدلة التي يثبت بها القتل العمد الموجب للقصاص واضحة وكافية ومناسبة، ولا تكون أدلة الإثبات كذلك إلا إذا أظهرت أداة القتل واستخدام الجاني لهذه الأداة وتحقق النتيجة وهي القتل،  وفي الواقع العملي يكون الإثبات على هذا النحو صعباً للغاية ، ولذلك نلاحظ كيف ناقش الحكم محل تعليقنا هذه المسألة حتى اطمئن  للحكم بإقرار القصاص من القاتل.

الوجه الثاني: وجوب إعمال مبدأ تساند الأدلة في إثبات القتل العمد الموجب للقصاص:

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد أنه قد أقر الحكم الإستئنافي، لأنه قد أعمل مبدأ تساند الأدلة إعمالاً صحيحاً فقد ثبت القتل العمد بإقرار الجاني وشهادة الشهود فعل القتل ومحضر معاينة مسرح الجريمة الذي قامت به الشعبة الإستئنافية وشهود التروية الذين حضروا مع الشعبة في أثناء المعاينة لمسرح الجريمة ، بالإضافة إلى تقرير الطبيب الشرعي الذي أشار إلى اتجاه الرماية ومداخل ومخارج الطلقات في جسم المجني عليه ، بالإضافة إلى استعمال الجاني لآلة قاتلة وهي الكلاشنكوف، فتساند هذه الأدلة وتظافرها قد أوجد الإطئمنان لدى محكمة الموضوع ثم لدى المحكمة العليا لإقرار الحكم بالقصاص على الجاني ، وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق فإنه كان من المتعذر شرعاً وقانوناً الحكم بالقصاص على الجاني لو لم تتساند تلك الأدلة في إثبات نية العمد لدى القاتل،  ومن هنا تظهر العلاقة الوثيقة بين مبدأ تساند الأدلة والحكم بالقصاص.

الوجه الثالث: تساهل الحكم محل تعليقنا في قبول الطعن بالنقض وتغاضيه في تطبيق النص القانوني المحدد لميعاد قبول الطعن بالنقض الجزائي:

قرر قانون الإجراءات الجزائية ميعاد للتقرير بالطعن بالنقض وهو (15) يوماً تحتسب من تاريخ النطق بالحكم و(40) لايداع عريضة الطعن بالنقض المتضمنة أسباب الطعن ومع أن الطاعن لم يقدم التقرير بالطعن بالنقض ومع أن نيابة النقض قد طلبت عدم قبول الطعن شكلاً لعدم تقرير الطعن في الميعاد، إلا أن الحكم محل تعليقنا قد قضى بقبول الطعن شكلاً لأن المحكوم عليه محبوس رعهن المحاكمة حسبما ورد في أسباب الحكم، ونحن نؤيد الحكم فيما ذهب إليه ، لأن قبول الطعن من الناحية الشكلية والتغاضي عن عدم قيام الطاعن بتقديم تقريره بالطعن بالنقض في الميعاد يحقق الغاية المقصودة من العرض الوجوبي على المحكمة العليا بالنسبة للأحكام الصادرة بالقصاص والحدود، لاسيما وأن مذكرة العرض الوجوبي المقدمة من النيابة قد خلصت إلى عدم قبول الطعن شكلاً، فلو جارت المحكمة العليا مذكرة العرض الوجوبي لما كانت هناك فائدة أو جدوى من العرض الوجوبي ولانتفت الغاية والحكمة منه وهي مراجعة المحكمة وتدقيقها في أوراق القضية لاسيما الحكم المطعون فيه للتأكد ن سلامة تطبيقه لأحكام الشرع ونصوص القانون، وبمناسبة التعليق على هذا الحكم الذي نرى أنه من أفضل الأحكام الجزائية للمحكمة العليا، نجدد التوصية بإعادة النظر في العرض الوجوبي للأحكام بالقصاص والحدود حتى يؤدي العرض الوجوبي الغايات والأهداف المرجوة منه ، وإعادة النظر في العرض الوجوبي يقتضي أن تتخلى النيابة العامة إلى حد ما عن وظيفتها كخصم للمحكوم عليه بحد أو قصاص وأن تستلهم وظيفتها القضائية المحايدة إلى حد ما ، كما أن ذلك يستدعي وجوب توفير محام لإعداد عريضة الطعن بالنقض نيابة عن المحكوم عليه(الطاعن) إذا لم يقم المحكوم عليه بتوكيل محام لهذه الغاية.

الوجه الرابع: حجية تقرير الطبيب الشرعي في قضايا القصاص:

سبق القول أن القصاص يدرأ بالشبهات مثله في ذلك مثل الحدود نظراً لخطورة العقوبات في القصاص وتعذر تداركها، ولذلك نوصي القانون والقضاة بأن تكون الإستعانة بالخبرة في القصاص بلجنة طبية تتضمن عدة مختصين (خبير أسلحة وذخائر+طبيب شرعي+فني بحسب الحالة) لأن كثير من حالات القتل العمد المستوجب للقصاص تحتاج إلى خبير مختص بالأسلحة والذخائر الذي يستطيع تحديد نوع السلاح واتجاهات الرماية ومداخل ومخارج الطلقات ومسافة إطلاق النار ونوع المقذوف والمظروف( المعبر) ونسبته إلى سلاح معين، فهذه مسائل من اختصاص فني أسلحة وذخائر وليس طبيباً شرعياً، فهناك فرق بين الطبيب الشرعي وخبير الأسلحة والذخائر وقد أشار إلى ذلك حكم آخر للمحكمة العليا حيث قرر صراحة ( بأن تحديد نوع المقذوف ليس من اختصاص الطبيب الشرعي بل من اختصاص خبير الأسلحة والذخائر) كما أن تعيين طبيب شرعي في قضايا القصاص يوهن تقريره حيث ينظر إليه على أنه شهادة واحد وفي ذلك شبهة، والله اعلم.