الأولوية في السقي من مياه الأمطار

 

الأولوية في السقي من مياه الأمطار

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

بعض الخلافات تحدث بين الفلاحين بسبب الأولوية في سقى أراضيهم من سيل مياه الأمطار لاسيما ان اغلب أراضي اليمن تعتمد في السقي على مياه الأمطار، وقد تناول الحكم محل تعليقنا هذه المسألة، وهو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 22/1/2013م في الطعن رقم (47062)، وتتلخص وقائع القضية ان المدعي تقدم امام المحكمة الابتدائية مدعياً بان صاحب الأرض الزراعية الواقعة اسفل من أرضه يقوم بتحويل  السيل النازل من ماء المطر إلى أرضه أولاً بحجة ان أرضه صغيرة المساحة في حين ان أرض المدعي كبيرة جداً وانه عندما يتم سقيها أولاً لا يصل اليه من الماء شيئاً في غالب الاحيان، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بالأولوية في السقي للمدعي صاحب الأرض المرتفعة ولو كانت كبيرة وبعد ذلك يتم إرسال الماء إلى الأرض الواقعة اسفل من أرض المدعي، وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي (وحيث ان الحق في سقي الأرض من مياه الامطار يكون ابتداءً للأراضي المرتفعة وما زاد عن  كفايتها يتم تصريفه إلى الأراضي المنخفضة بالإضافة إلى ما هو مقرر شرعاً وقانوناً من تبعية السواقي والمساقي وحق الشرب للأراضي التي يتم بيعها وفقاً لنص المادتين (518 و 1376 ) مدني فلم يقبل صاحب الأرض السفلى بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه إلا أن الشعبة المدنية قضت بتأييد الحكم الابتدائي فلم يقنع صاحب الأرض السفلى فقام بالطعن بالنقض غير ان الدائرة المدنية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (اما ما نعاه الطاعن في عريضة طعنه فان نعيه مردود عليه وذلك لما سببته محكمة أول درجة بقولها : إن الحق في السقي للأرض من مياه الأمطار يكون ابتداءً للأراضي المرتفعة وما زاد عن كفايتها يتم تصريفه إلى الأراضي المنخفضة فهو تسبيب سائغ له ما يسنده من الواقع والقانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : الوضعية العامة للسقي من مياه الأمطار في اليمن :

غالبية الأراضي الزراعية في اليمن هي عبارة عن مدرجات أو ما في حكمها تعلو بعضها البعض فلا تستطيع سيول الأمطار الوصول اليها الا عن طريق الاراضي بعضها البعض  فما ان تمتلئ إحدها بالسيل إلا فاض منها إلى المجاورة لها أو الملاصقة لها  او الاسفل منها، وفي سبيل التعامل مع هذه الوضعية فقد وجدت اعراف  يمانية أصلية تمنع الخلاف بشأن السقي حيث يعلو كل عريم أو عبيلة أو سوم ما يسمى (منسح) وهو عبارة عن شق مرصوف يسمح بإنتقال السيل إلى الأرض المجاورة لها أو الاسفل منها، فاذا امتلأت الأرض الزراعية المرتفعة إلى (العبيلة أو السوم أو العريم) وهو عبارة عن حاجز ترابي يحجز ماء المطر في الحقل أو الموضع الزراعي كي ترتوي  المزروعات فبعدئذ ينزل الماء او السيل الفائض ينتقل تلقائياً إلى الأرض المجاورة أو الأسفل منها عن طريق المنسح المشار اليه، ونظراً لشحة مياه الأمطار فقد عمد بعض الفلاحين إلى زيادة ارتفاع العريم أو العبيلة أو السوم وهو الحاجز الترابي الذي يعده الفلاح لحجز مياه المطر بغرض ري المزروعات، فقد كان العرف جاري في اليمن في الأراضي الزراعية الجبلية ان يكون ارتفاع (العريم/السوم/العبيلة) مقدار مسافة مابين قدم الإنسان وركبته، فأصبح ارتفاع هذا الحاجز عن هذا القدر يؤدي إلى حبس الماء نهائياً عن الوصول إلى الحقول المجاورة، إضافة إلى تفاوت مساحات الحقول فبعض الحقول تكون مساحتها كبيرة جداً تستوعب كميات كبيرة من السيل او ماء المطر فلا يفيض عن حاجتها الا القليل ولذلك يحدث الخلاف بين الفلاحين المتجاورين كما حدث في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا.

الوجه الثاني : اوليات السقي من السيل :

اشار الحكم محل تعليقنا إلى بعض هذه الأولويات ومن اهمها أولوية صاحب الحقل الأعلى في السقي من السيل لانه الذي يستقبل السيل وفقاً لقواعد انحدار الأراضي التي تجعل السيل يسيل من الأعلى إلى الاسفل، وهذه الأولوية تقتضي ان يقوم صاحب الحقل الأعلى بسقي حقله حتى يرتوي من الماء إلى مسافة مابين قدم الانسان المتوسط إلى ركبته، ولذا يقال : لقد بلغ السيل الزبى أي بلغ الركب أي ركبة الانسان، ومعنى ذلك  أن صاحب الأرض المرتفعة يقوم بالسقي  من السيل حتى يبلغ ماء السيل حدود رأس حاجز الحقل أو العبيلة أو السوم أو الحاج الترابي المحيط بحقله ثم يرسل الماء إلى صاحب الحقل الاسفل منه مباشرة عن طريق المنسح الذي يسيل منه الماء إلى صاحب الحقل الاسفل، ومقتضي هذه الأولوية  انه لا يجوز لصاحب الحقل الاسفل تجنيب السيل وتحويله إلى حقله قبل ان يسقي الحقل الأعلى إلا اذا كان ذلك عن طريق المسقى التابع أصلاً لصاحب الحقل الاسفل كما سنرى، كما ان مقتضي هذه الأولوية ان صاحب الحقل الموازي اولى من صاحب الحقل الاسفل أي اذا كان هناك حقل مقابل للحقل فانه يكون أولى في السقي من الحقل الاسفل مثل ان يكون هناك حقل يلاصقه الحقل في  مستوى  العلو والارتفاع لأنه إلى جواره في الارتفاع لذلك فانه اولى بالسقي من الحقل الاسفل لانه اعلى من الاسفل، والقاعدة ان صاحب الحقل الاعلى أولى بالسقي،ومن هذا المنطلق فقد قرر الشرع  والقانون حق الشفعة بسبب الاشتراك في الشرب كما اوجب القانون والاعراف اليمنية الاصلية أنه يجب على مالك الأرض السفلى المحافظة  على جدار الأرض العليا المتصلة بملك صاحب الأرض السفلى واجازت هذه الاعراف الحميدة لصاحب الأرض الأرض الاعلى أن يزيح الماء الفائض واجاز القانون والعرف أن ينزل بعض التراب من الأرض الاعلى إلى الأرض السفلى بمقدار مايسمى  (ضربة المحر) ،والمحر هو من أدوات  الفلاحة كانت تستعمل بتجريف الأرض العليا لإصلاح حواف الأرض أو الحاجز الترابي المحيط بها والسابق ذكره.

الوجه الثالث :التأصيل الشرعي لأولويات السقي :

 يتلخص هذا التأصيل في سبب قوله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء 65] فسبب نزول هذه الآية هي القصة المشهورة وهي تحكيم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شجار الزبير مع الانصاري حينما قال النبي للزبير : اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى جارك فلما اعتراض الانصاري على حكم رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدار ثم ارسل الماء الى جارك،اي حتى يبلغ الماء الجدار المحيط بالزرع،وفي رواية أخرى أن النبي قال:إسق يازبير حتى يبلغ الماء الجذر ،اي جذر المزروعات المطلوب سقيها فترتوي من الماء .

الوجه الرابع : اولوية صاحب الحقل الاعلى في القانون المدني :

استند الحكم محل تعليقنا في تحديد الاولوية في هذه الحالة على المادة (1376) مدني التي نصت على انه (تتلقى الأراضي المنخفضة المياه السائلة سيلاً طبيعياً من الأراضي العالية دون ان يكون ليد الانسان دخل في اسالتها ولا يجوز لمالك الأرض المنخفضة ان يقيم سداً لمنع هذا السيل من الوصول إلى ملكه كما لا يجوز لمالك الأرض العالية ان يقوم بعمل يزيد به من عبء الأرض المنخفضة) فهذا النص يقرر اولوية صاحب الحقل الاعلى في تلقي السيل الذي يصب من المنحدرات مباشرة إلى الأراضي الزراعية من غير تدخل من قبل ملاك الأرض الزراعية اما اذا كان هذا السيل  يأتي عن طريق المساقي الخاصة التابعة للأراضي المرتفعة أو المنخفضة فانها تكون حق خاص وخالص وتابع للأراضي التي تسقى منه سواء اكانت الأرض المرتفعة أو المنخفضة ،وهو ما سنبينه في الوجه الآتي.

الوجه الخامس : دخول السيل عن طريق المساقي الخاصة التابعة للأراضي 

المساقي الخاصة هي عبارة عن حواجز او سواقي او مساقي او مشارب تم إعدادها من قبل المالك الأصلي للأرض بغرض تجميع ماء المطر من مناطق مجاورة او متفرقة قريبة أو بعيدة حتى يصل هذا الماء لسقي الأرض التي يتبعها هذا المسقى الخاص، ولذلك فهذا المسقى ملك خاص وخالص لصاحب الأرض التي يتبعها المسقى  حيث يحق للمالك أن يتصرف بالماء الوارد عبره  كيفما يشاء، فلا تسري عليه قواعد الأولوية في السقي المشار اليها سابقاً، وفي هذا المعنى نصت المادة (518)  مدني على انه (يدخل في بيع الأرض الماء من سيل أو غيل مالم يكن مستخرجاً بيد عامله أو بعرف قاض بعدم الدخول وتدخل السواقي والمساقي والجدران والطرق المعتادة كما يدخل الشجر النابت فيها مما يراد به البقاء لا ما يراد به ذلك من غصن او ورق أو ثمر أو زرع فأنها لا تدخل إلا بالنص عليها) فهذا النص صريح فان المساقي والسيل الذي ينزل منها يكون ملكاً خالصاً وتابعاً للأرض التي  يتبعها اينما كانت مرتفعة أم منخفضة قريبة أم بعيدة، والله اعلم.