إشكالية الحكم على العاقلة بالدية والارش

 

إشكالية الحكم على العاقلة بالدية والارش

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من المقرر في الفقه الإسلامي وقانون الجرائم والعقوبات ان الدية والأرش في حالة القتل والجرح الخطأ تتحملها العاقلة وكذلك الحال بالنسبة للدية والأرش في حالة جنايات العمد والخطا التي تقع من الصبي والمجنون لان عمدها خطأ باتفاق فلا إشكالية هنا، ولكن الإشكالية تكمن في الحكم على العاقلة وتحميلها الدية والأرش دون ان يمثل افراد العاقلة امام القاضي ويقدموا دفاعهم ودفوعهم وتتم مواجهتهم بالتهمة المنسوبة إلى الشخص الذي يعقلونه لأنهم المعنيون لدفع الدية والأرش، وتظهر في هذا الشأن إشكاليات أخرى عند تنفيذ الأحكام على العاقلة، وللإشارة إلى هذه المسألة المهمة فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 21/1/2012م في الطعن رقم (43355) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان شخصاً قتل غيره عمدا،ً وظهر من خلال تقرير الطبيب الشرعي ان الجاني لم يبلغ الثامنة عشرة سنة اي انه لم يبلغ سن المسئولية الجزائية  إلا أن المحكمة الابتدائية لم تعتمد ماورد في تقرير الطبيب الشرعي وانما استندت إلى وثائق أخرى تدل على أن المتهم كان قد بلغ الثامنة عشرة عند ارتكابه للجريمة ولذلك فقد حكمت المحكمة الابتدائية على المتهم بالإعدام  عليه بالإعدام حيث  قام المحكوم عليه باستئناف الحكم حيث رجحت الشعبة الجزائية العمل بموجب التقرير الطبي فقضت الشعبة الجزائية بتعديل الحكم الابتدائي إلى حبس المتهم عشر سنوات بدلا من إعدامه وتحميله دية القتل العمد وله حق الرجوع على عاقلته لاقتضاء الدية منها، وقد أقرت الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا الحكم الاستئنافي فيما قضى به بشأن تحميل العاقلة دية العمد باعتبار المتهم لم يبلغ سن المسئولية الجزائية التامة (18 سنة) فيكون في حكم الصبي الذي تتحمل عاقلته الدية والارش المترتبة على جناياته سواء اكان الفعل عمداً أم خطأ، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : حالات الحكم على العاقلة بالدية والأرش واساس ذلك :

يقرر قانون الجرائم والعقوبات في المادة (35) ان تكون الدية والأرش بالنسبة لجنايات الصغير مطلقاً على العاقلة واذا لم تف فمن مال الصغير) ويقرر القانون ذاته بالنسبة للمجنون في المادة (34) على ان تكون الدية أو الأرش في احوال ذهاب النفس أو ما دونها أو الجرح موضحة فما فوقها على العاقلة، وبالنسبة للقتل الخطأ تنص المادة (72) عقوبات على ان تكون الدية والأرش في الخطأ على العاقلة ويتحمل الجاني ثلثها إن كان له مال ويوزع الباقي، ويتأسس الحكم على العاقلة بتحمل الدية والأرش في الحالات السابق ذكرها إلى اعتبارات واسانيد كثيرة اهمها مسئوليةالعاقلة في ارشاد وتوجيه ونصح الصبيان والسفهاء والمجانين للأخذ باسباب الحيطة والحذر وعقلهم أي منعهم من ارتكاب الجرائم وحثهم على الأخذ بأسباب الحيطة والحذر لان افراد العاقلة سوف يتحملون نتائج افعال سفهائهم وقصارهم وكذلك يتأسس نظام العاقلة على قاعدة الغرم بالغنم فافراد العاقلة يلحقهم النفع من الافراد الفاعلين للجنايات الموجبة للدية والأرش ولذلك يلزم العاقلة أن تتحمل نتائج جنايات هولاء،كما يتأسس نظام العاقلة على التعاون بين افراد العاقلة عملا بقوله تعالى(وتعاونوا على البر والتقوى) فهذا يدل على فضيلة التعاون بين افراد العاقلة في تحمل اثار ونتائج المصائب والنكبات التي تقع لبعضهم، كما انه قد ثبت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قضى بالدية والأرش على العاقلة في الحالات السابق ذكرها.

الوجه الثاني : مفهوم العاقلة في السياسة العقابية الحديثة :

عند التأمل في الحالات التي اوجبت الشريعة والقانون تحميل العاقلة بالدية والأرش نلاحظ ان تلك الحالات متعلقة بالصبيان والمجانين والسفهاء الذين بهملوا واجب أخذ الحيطة والحذر، لأن العاقلة قصرت  في حفظ هولاء وتحذيرهم حتى لايجنوا على الناس  لان هولاء الأشخاص أما أن يكونوا غير مسئولين جزائيا أو مهملين لواجبهم في أخذ الحيطة والحذر،ً وتبعاً لذلك فان العاقلة مسئولة عن الرقابة على افعال وتصرفات هؤلاء سواء افعال العمد او الخطأ بالنسبة الصبيان والمجانين لانعدام أو نقص مسئولية  هولاء وكذا تكون العاقلة مسئولة عن دفع الدية والأرش في الفعل الخطا بالنسبة للسفهاء من افرادها الذين لا يأخذون بأسباب الحيطة والحذر والسلامة لانها لم بارشاد ونصح وتوجيه افرادها بعدم التهور والانتفاع ومراعاة واجبات وقواعد الحيطة والحذر، ولذلك تكون الدية والأرش عقوبة وجزاء اهمال العاقلة في الرقابة والنصح لهؤلاء السفهاء، ولذلك فان نظام العاقلة المأخوذ من الشريعة الإسلامية يعد مظهراً من أهم مظاهر نجاح السياسة العقابية المعاصرة، غير ان نظام العاقلة في الوقت المعاصر في اليمن لن يؤت ثماره المرجوة في السياسة العقابية الحديثة إلا اذا اقتصر مفهوم العاقلة على الأشخاص الذين يقيم الجناة (الصبيان والمجانين والسفهاء) بجوارهم أو يعملون معهم فيكون بوسعهم ملاحظة سلوكهم وتقويم اعوجاجهم، فالنظرة التقليدية للعاقلة على انهم اقارب الجاني وان كانوا اباعد عنه في الإقامة أو العمل لا يستقيم في الوقت المعاصر حيث صار القريب لا يلاحظ تصرفات قريبه لبعده عنه (التشريع الجنائي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، صـ225).

الوجه الثالث : تحديد العاقلة في القانون وتوصيتنا :

عرف القانون العاقلة بانهم عصبة الجاني سواءً كانوا حاضرين ام غائبين، حسبما ورد في (91) عقوبات، وهذا قصور تشريعي فكيف يعقل الغائب الذي ربما لا يعرف الجاني أصلاً ؟ كما نص القانون في المادة (92) عقوبات على ان يتحمل الاغنياء من العاقلة ثلثي الدية حتى ولو لم تكن للاغنياء معرفة او علاقة بالجناة، طبعاً هذا النص من موروث ثقافة (ثلثان وثلث) وفي المادة (93) عقوبات نظر القانون نظرة عصرية للعاقلة إلى حد ما حيث نص على ان الحرفة أو تكون عاقلة للجاني الذي ينتمي اليها أو يعمل بها وهذا النص هو الأفضل والأكثر عملية وواقعية والممكن تطبيقه وتنفيذه بموجب الأحكام القضائية كما سنرى الا ان هذا النص ذاته قد قرر أن القبيلة تكون عاقلة للجاني ولو لم يقيم الجاني أو يعمل في كنف القبيلة وهذا أيضا قصور تشريعي ينبغي تلافيه.

الوجه الرابع : الحكم غيابيا على العاقلة مطلقا من غير تحديد افرادها والزامهم بدفع الدية والأرش!!!! وتوصيتنا:

كل أحكام القضاء التي طالعناها في هذا الموضوع تقضي بتحميل العاقلة الدية أو الأرش دون ان يتضمن الحكم تحديد افراد العاقلة وتوزيع الدية عليهم بل ودون ان يمثل افراد العاقلة امام القاضي، وليس العيب في القضاة وإنما العيب في قانون الإجراءات الجزائية الذي اجاز تعيين العاقلة بعد صدور الحكم عليهم والزامهم بدفع  مايخصهم من الدية والأرش حيث نصت المادة (512) إجراءات على ان (يكون تعيين افراد العاقلة أو من في حكمهم بناءً على طلب يتقدم به المحكوم لهم أو احدهم إلى دائرة كتاب المحكمة التي اصدرت الحكم الواجب التنفيذ يبين فيه اسماء هؤلاء الأفراد وعمر كل منهم وصلته بالمحكوم ضده ودرجة يساره) وفي السياق المخالف ذاته تأتي المادة (514) اجراءات التي تضمنت كيفية إعلان افراد العاقلة بطلب الزامهم بدفع ما يخصهم من الدية أو الأرش، في حين تناولت المادة (515) إجراءات كيفية اعتراض افراد العاقلة على طلب التنفيذ أو مطالبتهم بدفع الدية والأرش، وعند التأمل في هذه النصوص الثلاثة نجد انها تخالف الشريعة والدستور والقانون ومبادئ العدالة ومبادئ المحاكمة العادلة، فكيف يتم الحكم على أشخاص لا يعلم القاضي منهم كما انهم لا يعلمون بالمحاكمة أو الحكم لانهم لم يمثلوا امام المحكمة ولم تتم مواجهتهم بالدعوى وغيرها من الاجراءات، ومع ذلك تتم مطالبة افراد العاقلة بتنفيذ حكم ليسوا طرفا فيه، فلا شك ان نصوص التنفيذ على العاقلة المذكورة في قانون الإجراءات السابق ذكرها مخالفة للدستور والقانون، ولذلك فأننا نوصي بضرورة تعديلها كما اننا نوصي بان تكون جهة العمل او الحرفة هي عاقلة الشخص بدلا من العصبة والقبيلة حتى يسهل اختصام ممثل جهة العمل او الحرفة ويسهل ايضا تنفيذ الحكم عليها واقتضاء مايخصها من الدية او الارش وفقاً للدستور والقانون، وقبل تعديل هذه النصوص العوجاء فاننا نوصي باختصام افراد العاقلة قبل صدور الحكم حتى يكون حجة عليهم ويتم تنفيذه لاحقاً في مواجهتهم، والله اعلم.



الأسعدي للطباعة ت : 772877717