الخصومة الموجبة منع القاضي من نظر القضية
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
تحدث
بين القضاة والخصوم مشاكل وإشكاليات وخلافات وسوء تفاهم ،ولكن هذه الامور لا ترقى
إلى الخصومة الموجبة منع القاضي من نظر القضية، وقد اشار إلى الخصومة الموجبة
منع القاضي الحكم الصادر عن الدائرة
الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5/7/2017م في الطعن رقم
(59523)، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان الشعبة الاستئنافية كانت
قد حجزت قضية قتل للمداولة والحكم فيها ،وبعد ذلك قامت والدة القتيل المجني عليه
بالدخول إلى حوش منزل القاضي واحرقت
عبايتها في الحوش ببترول اصطحبتها معها ثم تلى ذلك دخول اولادها وهم يحملون
اسلحتهم النارية إلى حوش القاضي وتهديده بالقتل هو واعضاء الشعبة، وفي اليوم
التالي قامت الشعبة بتحرير محضر إثبات الواقعة المشار اليه ومخاطبة النائب العام
ووزير العدل ورئيس مجلس القضاء الاعلى، وبناءً على ذلك قام النائب العام بإحالة واقعة تهديد القضاة إلى النيابة الجزائية المتخصصة ،وبناءً
على هذه الاسانيد تقدم اولياء دم المجني عليه أمام المحكمة العليا بطلب تنحي رئيس
واعضاء الشعبة لوجود خصومة فيما بينهم وبين رئيس واعضاء الشعبة رهن التحقيق امام
النيابة، فقررت الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا قبول طلب التنحي، وقد ورد ضمن
أسباب هذا قرار المحكمة العليا (تجد الدائرة ان طلب التنحي لرئيس واعضاء الشعبة
مبنياً على سبب قانوني من أسباب التنحي المنصوص عليها قانوناً لانه قد وقعت
الخصومة فيما بين طالبي التنحي وبين رئيس واعضاء الشعبة وبذلك فقد توفرت حالة
الخصومة بسبب ما قام به طالب التنحي من فعل غير قانوني لزم التحقيق فيه ولذلك فقد
نشأت خصومة بين طالبي التنحي ورئيس واعضاء الشعبة، ولرفع الحرج عن الشعبة بكامل
هيئتها فقد قبلت الدائرة طلب التنحي واحالت القضية إلى شعبة اخرى للفصل فيها)
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : السند القانوني للحكم محل تعليقنا في قبوله (طلب التنحي) :
استند الحكم في ذلك
إلى المادة (138) فقرة (5) مرافعات التي نصت على ان (يكون القاضي او عضو النيابة
ممنوعاً من نظر الدعوى (الخصومة) ويجب عليه التنحي عن نظرها من تلقاء نفسه ولو لم
يطلب الخصوم ذلك في الأحوال الأتية : (5- اذا كان له أو لزوجته أو لأحد أولاده أو
احد ابويه خصومة قائمة أمام القضاء مع احد الخصوم في الدعوى أو زوجته أو احد
أولاده أو احد ابويه) وقد ورد هذا النص ضمن الفصل الأول في قانون المرافعات بعنوان
(الامتناع الوجوبي) أي أنه يمتنع على القاضي على سبيل الوجوب النظر في القضية في
هذه الأحوال ومنها الحالة المبينة في الفقرة (5) من المادة (138) السابق ذكرها حيث
يجب على القاضي ان يتنحى عن نظرها من تلقاء نفسه من غير ان يطلب منه الخصوم ذلك
،ويطلق على ذلك التنحي الوجوبي فان امتنع عن التنحي من تلقاء نفسه فيحق للخصم
المتمسك بسبب المنع ان يطلب من القاضي الامتناع عن نظر القضية فاذا رفض القاضي
فللخصم ان يرفع الأمر إلى رئيس المحكمة ليصدر قراراً بمنع القاضي اذا ثبت له سبب
المنع حسبما بينته المادة (131) مرافعات، وبناءً على ما تقدم فان مصطلح (التنحي)
يستعمل ليقوم القاضي من تلقاء نفسه بالامتناع عن نظر القضية في حين ان مصطلح (منع
القاضي) يستعمل في حالة لجوء الخصم المتمسك بسبب المنع إلى رئيس المحكمة لمطالبته باصدار امر ً من المحكمة بمنع القاضي
بعد التأكد من وجود سبب المنع حسبما هو ظاهر في صيغة النص، لان الأمر بمنع القاضي
لم يصدر بناءً على طلب من القاضي نفسه وإنما بناءً على طلب من الخصم صاحب الشأن.
الوجه الثاني : ماهية الخصومة الموجبة لمنع القاضي وجوباً من نظر القضية :
يستعمل شراح قانون
المرافعات مصطلحات محددة في هذا الشأن (فالدعوى ) مصطلح يطلق على حق الشخص في
اللجوء إلى لحماية حقه وقد يستعمل الشخص حقه في الدعوى وقد لا يستعمله باعتبار ان الدعوى حقً مكفول في
الدستور والقانون فالدعوى حق وليست واجباً وكذا يطلق شراح المرافعات مصطلح(
الخصومة )على المرحلة التالية لقيام الشخص برفع الدعوى حينما يتم إعلان الخصم
الآخر بالدعوى فتتعلق الدعوى بالخصم الاخر فتصبح الخصومة حقا مشتركاً للخصمين في
حين يطلق مصطلح (القضية) على دعاوى الخصوم ومحاضر المحكمة وتقارير الخبراء وشهادات
الشهود التي يتم تقديمها اثناء سير المحاكمة واني يشتمل عليها ملف القضية (الوسيط
في قانون القضاء المدني، د.فتحي والي، صـ885) اما بالنسبة للمادة (128) مرافعات
فقد استعملت مصطلح (خصومة قائمة أمام القضاء مع احد الخصوم في الدعوى) ومعنى ذلك
ان الخصومة الموجبة لمنع القاضي هي الخصومة التي تنعقد فيما بين القاضي واحد
الخصوم التي يكون القاضي والخصوم قد عبروا فيها عن خصوماتهم وتداعوا بها أمام
القضاء اما اذا تحققت موجبات الخصومة ولكن لم يتم التعبير عنها امام جهات القضاء
فلا تتحقق الخصومة الموجبة لامتناع القاضي عن نظر القضية وكذلك الحال اذا اختلف
القاضي مع الخصوم ولم يتم رفع الخلاف إلى القضاء فلا تتحقق الخصومة الموجبة لمنع
القاضي من نظر القضية، اذا تم رفع الخلاف
بين القاضي والخصم أو احالته للقضاء فقد تحققت الخصومة الموجبة لامتناع القاضي
وعندئذ يستوي ان تكون الخصومة مدنية أو جنائية أو ادارية أو شخصية، وقد ذهب الحكم
محل تعليقنا إلى ان قيام القاضي بتقديم الشكوى الجزائية بالخصم واحالتها إلى
النيابة العامة حتى ولو لم يتم التحقيق والتصرف في الموضوع يكون سبباً كافياً
لامتناع القاضي، لان طبيعة الخصومة الجزائية لا تستدعي انعقاد الخصومة فيما بين
القاضي والخصم المتهم ،فقد عرف الاستاذ الدكتور احمد فتحي سرور الخصومة الموجبة
لمنع القاضي بانها (مجموعة الإجراءات التي تبدأ بتحريك الدعوى أمام القضاء وليس
مطلق النزاع) (الوسيط، د. احمد فتحي سرور صـ895) ويشترط في الخصومة الموجبة لمنع
القاضي عدة شروط منها -1- ان تكون الخصومة قد وقعت فعلاً وقت نظر القاضي للدعوى
المطروحة أمامه -2- ان لا يكون خصم القاضي قد افتعل الخصومة بقصد رد القاضي -3- ان
تكون الخصومة لاحقة على رفع الدعوى المنظورة لدى القاضي المطلوب منعه من نظرها
لانها اذا كانت سابقة على رفع الدعوى فانها تعد من أسباب عدم الصلاحية -4- يشترط
في الخصومة أيضاً ان تكون حقيقية في صورة دعوى أو شكوى جزائية وليس شكوى ادارية
(التنظيم القضائي، د.محمد عبدالخالق عمر، صـ262).
الوجه الثالث : إفتعال الخصومات مع القضاة والمحكمين والخبراء بقصد منعهم من نظر القضايا :
نكرر ونؤكد على ان
الخلط بين الذكاء والمغالطة ثقافة وسلوك لدى الخصوم في اليمن ولذلك يعمدون في
حالات كثيرة إلى إفتعال الخصومات مع القضاة والمحكمين والخبراء العدول حتى يتحقق
سبب المنع لهم من نظر القضايا لديهم لاسيما عندما يدرك الخصوم ضعف موقفهم في
القضايا وقد وقفت شخصياً على حالات كثيرة كانت الخصومات فيها مفتعلة بقصد منع
القاضي أو المحكم أو الخبير من نظر القضية، ومن خلال المطالعة للقضية التي تناولها
الحكم محل تعليقنا نلاحظ ان طابع الافتعال للخصومة فيها كان ظاهراً،ومما بجدر ذكره
أن غالبية الاعتداءات التي تقع على القضاة بمناسبة نظرهم للقضايا يكون الغرض منها
منع القضاة من نظر تلك القضايا،ولذلك ينبغي التشدد في معاقبة المعتدين لأن الباعث
على هذه الاعتداءات يكون خبيثا.
الوجه الرابع : نصيحة للقضاة لتلافي أسباب افتعال الخصومات معهم :
من خلال تصرفات
القاضي واقواله في اثناء جلسات المحاكمة يتلمس الخصوم وجهات القضاة وتوجيهاتهم في
القضايا المنظورة لديهم وفي حالات يسىء الخصوم فهم تصرفات واقوال القاضي، فعندما
ينهر القاضي احد الخصوم أو يبتسم لغريمه أو عندما يناجي أو يخافت القاضي أمين السر
...الخ عند انعقاد الجلسات وعندما يتحدث القاضي عن الخصوم والقضية وغير ذلك ، فمن
خلال ذلك تبدأ أولى خطوات منع القاضي من نظر القضية (موانع القضاء، د.حامد الشريف،
صـ112)، والله اعلم.