بيع المتولي الخاص لوقف المسجد

 

بيع المتولي الخاص لوقف المسجد

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

هناك أوقاف كثيرة على المساجد قرر الواقفون لها ان تكون النظارة أو الادارة لها لورثة الواقفين الذين يتولون ادارتها والمحافظة عليها وجباية عائداتها وصرفها في تلبية احتياجات المساجد وصيانتها والقيام بأمرها، ونتيجة لوجود المادتين (46 ، 47) في قانون الوقف النافذ اللتين اجازتا نقض الوقف الأهلي القديم وتقسيمه بين الورثة وبيعه فقد قادت الاطماع الكثيرين من المتولين للوقف الخاص على بيع وتقسيم الوقف على المساجد والمبرات والقرب الأخرى، مع ان ذلك لا يجوز شرعاً وقانونا؛ً ولذلك فان هذا الفعل من قبيل خيانة المتولي للوقف التي تستوجب عزله ومسائلته جزائيا ومدنيا واذا تم بيع وقف المسجد نتيجة اتفاق بين المتولي وبين بقية ورثة الواقف فيتم نقل ولاية الوقف على المسجد إلى وزارة الأوقاف باعتبارها صاحبة الولاية العامة على القيام بامر المساجد، وهذا الأمر قرره الحكم محل تعليقنا وهو الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 13/1/2010م في الطعن الشخصي رقم (36716) لسنة 1430هـ ، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان المتولي للوقف الأهلي كان يقوم بتحرير الوقف الأهلي وبيعه للغير وتقسيم الثمن على ورثة الواقف حتى استنفذ الاعيان الموقوفة الاخرى فلم يبق الا الاعيان التي اوقفها الواقف على المسجد فقام المتولي للوقف الأهلي ببيع عدة مواضع من أوقاف المسجد فحدث نزاع فيما بين اجير الوقف الأهلي والمشترين الجدد للوقف حتى وصل الخلاف الى المحكمة الابتدائية التي سارت في اجراءاتها وربما ان اجير الوقف الأهلي قام بابلاغ مكتب الاوقاف الذي تدخل في الدعوى باعتبار ان الاعيان الموقوفة على مسجد وطلب من المحكمة رفع ايدي الغاصبين لأراضي الوقف والزامهم بدفع قيمة الاشجار والاضرار التي الحقوها بالوقف، فسارت المحكمة الابتدائية في اجراءاتها حتى خلصت الى الحكم (بقبول تدخل مكتب الأوقاف ورفع ايدي المشترين الغاصبين لاراضي الوقف واعادة بناء بيت الوقف واعادة قيمة الاشجار المقلوعة ودفع مصاريف التقاضي) وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي ( فقد دلت الشهادة على ان الموضع محل النزاع المذكور بحدوده وقف لمسجد... واستناداً إلى احكام الشريعة وقانون الوقف فقد تقرر اسناد الولاية في المواضع المتنازع عليها للولاية العامة لمكتب الأوقاف وعلى ممثلها تدوين بيانات المواضع المشار اليها في سجلات ومستندات مكتب الأوقاف الرسمية طبقاً للقانون وافادة المحكمة بذلك ولمكتب الأوقاف اسناد النظر لمن تراه صالحاً لذلك طبقاً للقانون) فلم يقبل متولي الوقف الأهلي و المشترين منه بالحكم الابتدائي فقاموا باستئنافه إلا أن الشعبة الشخصية الاستئنافية قضت بتعديل الحكم واستبعاد الفقرة التي تقضي بالزام  المشترين للوقف باعادة بناء بيت الوقف ودفع قيمة الاشجار المقلوعة حيث قضت الشعبة في حكمها التاريخي بتعديل منطوق الحكم الابتدائي ليصبح (اسناد الولاية في المدعى به الى مكتب أوقاف محافظة... وعليه صرف الغلة فيما عينه الواقف، وبطلان مشتروات المستأنفين من ورثة الواقف في المدعى به وللمستأنفين الرجوع إلى ورثة الواقف البائعين بقيمة المبيعات بسعر الزمان والمكان وقت صدور هذا الحكم) فلم يقبل متولي الوقف الأهلي والمشترين منه بالحكم الاستئنافي فقاموا بالطعن فيه بالنقض إلا أن الدائرة الشخصية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (كان الاطلاع على تفاصيل ما ورد في الطعن والرد عليه حيث تبين أن حكم الاستئناف موافق من حيث النتيجة لاحكام الشرع والقانون لاستناده الى انه ثبت من الاوراق ان المدعى به موقوف للمسجد من الواقف.... وان للمشترين للوقف الرجوع لاستعادة الثمن من البائعين ورثة الواقف) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : النظارة والادارة للوقف الخيري :

تعرف المادة (4) من قانون الوقف الوقف الخيري بانه ما تم وقفه على جهات البر العامة والخاصة في حين عرفت المادة (2) وقف الأوقاف العامة بانها كافة الأوقاف الخيرية التي تعود ولايتها لذي الولاية العامة، وبناءً على هذا المفهوم فان هناك اوقاف خيرية خاصة يتولى ادارتها أو نظارتها الاشخاص الذين حددهم الواقف في وقفيته ؛وغالباً ما يكون هذا المتولي للوقف أو الناظر من ورثة أو ذرية الواقف المتعاقبين كما يرد في الوقفيات (بطن من بطن) وعلى هذا الاساس فهناك أوقاف خيرية على جهات البر مثل المساجد والمدارس والسقايات واطعام عابري السبيل...الخ لا تتولها وزارة الاوقاف، وهذه الأوقاف تفوق الأوقاف العامة التي تتولها وزارة الأوقاف.

الوجه الثاني : الولاية الخاصة على الوقف على المسجد :

سبق القول في الوجه الأول ان هناك ولايات خاصة على اوقاف المساجد حددها الواقفون في وثائق وقفياتهم وغالباً ما يكون المتولي من ذرية الواقف، ومع ان قانون الوقف اعترف بالولاية الخاصة على الوقف على المسجد في هذه الحالة إلا انه اخضع الولاية الخاصة لوقف المسجد لاشراف ورقابة صاحبة الولاية العامة وزارة الأوقاف حيث نصت المادة (75) وقف على انه (مع قيام وزارة الاوقاف بالولاية على الاوقاف العامة التي تحت نظارتها وبقاء الولاية الخاصة على الوقف المتعلق بمسجد وتوابعه لمن هي ثابتة له شرعاً يجب على كل متولي لوقف من هذا النوع خلال شهرين من تاريخ توليه لهذا الوقف ابلاغ وزارة الاوقاف او الحاكم المختص بالوقف الذي يتولى عليه مع بيان اسم الواقف ونوع الوقف وتعيين املاكه ومصرفه وتسليم صور من مستندات الوقف وذلك اذا لم يكن قد سبق الابلاغ عن الوقف وتسليم صور من مستنداته ويجب على الجهة المختصة أو الحاكم المختص فور ابلاغ ايهما ابلاغ الأخر وقيد بيانات الوقف في الدفتر المعد لذلك اذا لم يكن قد سبق قيده ويجب على الادارة المختصة محاسبة متولي الوقف طبقاً لما هو  منصوص عليه في هذا القانون طبقاً للمعمول به في هذا الشأن) ومن خلال استقراء هذا النص يلاحظ انه قد ابقى الولاية الخاصة على وقف المسجد الا انه اوجب على المتولي الخاص تنفيذ الالتزامات الواردة في النص  كما ان هذا النص قد اخضع المتولي الخاص لإجراءات المحاسبة والمسائلة التي يخضع لها المتولي العام الذي تكلفه وزارة الأوقاف للقيام بأعمال الولاية العامة على وقف المسجد، وبسط وزارة الأوقاف لرقابتها واشرافها على اصحاب الولاية الخاصة على اوقاف المساجد يستند الى ان الوزارة هي صاحبة الولاية العامة على شئون المساجد وتلبية احتياجاتها والقيام بامرها وبسط اشرافها عليها لانها الوزارة المسؤولة عن ذلك شرعاً وقانوناً.

الوجه الثالث : بيع ناظر الوقف الخاص للوقف يوجب عزله :

بيع ناظر الوقف الخاص للوقف الذي يتولاه يعد خيانة لله ولرسوله وللواقف ولذلك فان هذا الفعل سبب موجب لعزل المتولي الخاص بحكم القانون حيث نصت المادة (80) من قانون الوقف على انه (مع عدم الاخلال بأحكام المسئولية الجزائية والمدنية يجب عزل متولي الوقف العام أو الخاص في أي من الحالات الأتية :-2- اذا ثبت خيانته أو تفريطه أو تقصيره في الوقف -7- اذا تصرف تصرفاً مضراً بالوقف) ولاشك ان اقدام متولى الوقف الخاص على بيعه خيانة للأمانة الملقاة على عاتقه بالمحافظة على الوقف الذي يتولاه كما ان التصرف ببيع الوقف من التصرفات المذهبة لمال الوقف فهو  اكثر واكبر من الضرر بمال الوقف.

الوجه الرابع : بيع متولى الوقف الخاص لوقف المسجد سبب لنقل الولاية على الوقف لوزارة الاوقاف :

مربع نص: الأسعدي للطباعة عن بعد / ت 772877717من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان متولى الوقف الخاص قد قام ببيع وقف المسجد وقام بتقسيم الثمن على بقية ورثة الواقف ولذلك لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا لم ينقل الولاية من المتولي الخاص إلى غيره من ورثة الواقف حسبما هو معروف لان الواقف قد اشترط في الوقفية ان يتولى نظارة الوقف أبنه الارشد وابنائه من بعده بطنا عن بطن، ولذلك فان الولاية الخاصة على الوقف الخاص تنتقل للاقرب الذي تتوفر فيه الشروط ولا تنقل الى الولاية العامة، ومع ذلك فقد لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد قضى بنقل الولاية على الوقف من الولاية الخاصة الى الولاية العامة وهي وزارة الأوقاف لان ذرية الواقف قد شاركوا المتولي خيانة الأمانة وتصرفوا في الوقف وباعوه وتصرفوا في ثمنه فاشتراكهم في هذا الجرم يجعلهم جميعاً غير مؤهلين للولاية على الوقف الخاص على المسجد، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بنقل الولاية على وقف المسجد المشار اليه من الولاية الخاصة الى الولاية العامة حسبما ورد في اسباب الحكم، خاصة وان متولي الوقف الخاص لم يقدم البيانات والمستندات التي اشترطت المادة (75 )  وقف على متولي الوقف الخاص تقديمها.

الوجه الرابع : عدم جواز بيع الوقف الخاص او تحريره :

من خلال ما تقدم ذكره في هذا التعليق ومطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان بيع الوقف الخاص جريمة يعاقب عليها القانون(خيانة الامانة)، والاهم من هذا ان الشريعة الاسلامية تحرم بيع الوقف او تحريره بقسمته بين الورثة فقد اخرج البخاري ومسلم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر بن الخطاب حينما أوقف بعض ماله (لا يباع ولا يشترى ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره) لان مال الوقف ملك لله سبحانه وتعالى، وقد قال الأمام المأوردي رحمه الله (شراء الوقف باطل باتفاق العلماء). (الحاوي 3/332؛)، والله اعلم.