جريمة الاعتداء على المقابر لا تتقادم
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
من الظواهر الشائعة
في اليمن الاعتداء على المقابر وتغيير معالمها والبناء فيهاوعليها, فلا تكاد تخلو
مقبرة قديمة او جديدة من الاعتداء عليها. فلم يعد يبال المعتدون على المقابر من
عقاب الله على من يعتدي على المقابر وينتهك حرمة الموتى مع ان الشرائع السماوية
والوضعية تكاد تجمع على ان المعتدي على حرمة الموتى والمقابر مستحق للعقوبات
الدنيوية والاخروية بل ان الله يعجل عقوبته في الحياة الدنيا كما ذكر الامام احمد
بن يحي المرتضى في البحرالزخار لقلة الدين
وتساهل الناس في المحرمات المقررة عقوباتها
في الاخرة, ونظرا لقلة الدين وتساهل الناس في المحرمات فقد شاعت ظاهرة
الاعتداء على المقابر منذ فترة طويلة وكان هؤلاء المعتدون يظنون ان جرائمهم
والعقوبات الدنيوية المقررة عليها سوف تسقط بالتقادم بمضى المدة على اعتدائهم
بالبناء على المقابر وان ذلك سوف يكسبهم حقوقا. الا ان القضاء اليمني قرر قاعدة مفادها
(جرائم الاعتداء والغصب للمقابر لا تتقادم) ويظهر ذلك جليا من خلال مطالعة الحكم
محل تعليقنا. وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 6/3/ 2011م في الطعن الجزائي رقم (40356) لسنة 1432ه ـ وتتلخص
وقائع القضية التي قضى فيها هذا الحكم ان شخصين قاما ببناء منزلين لهما على جزء من
مقبرة قديمة وقاما بحفر بيارات في المقبرة
بعد ان قاما بتهديم القبور القديمة كما قاما بوضع الاحجار والحطب فوق المقبرة
والقبور وجعلا المقبرة طريقا لهما عند الدخول والخروج من منزليهما. وقد قام شخص
بإبلاغ مكتب الاوقاف بما حصل في المقبرة
من الشخصين المشار اليهما حيث قام مكتب الاوقاف بإحالة القضية الى النيابة
العامة للتحقيق في الموضوع وقد توصلت النيابة الى اصدار قرار اتهام تضمن اتهام
الشخصين بارتكاب جريمة تهديم القبور وتدنيس حرمة الموتى واغتصاب مال الوقف وقامت
النيابة بتقديم الشخصين للمحاكمة امام المحكمةالابتدائية وبعد ذلك تقدم مكتب
الاوقاف بالدعوى المدنية مطالبا تعويض الاوقاف عن الاضرار التي لحقت بها جراء
الجريمة وقد رد المتهمان على قرار الاتهام والدعوى المدنية بانهما قد قام بالبناء
قبل اكثر من ثلاثين سنة من غير ممانعة او اعتراض من احد وان المقبرة قديمة
وقبورها مجهولة وان الموضوع متقادم
ولان التهمة المنسوبة للمتهمين الاثنين هي
الاعتداء على مقبرة عامة والاعتداء على حرمة الموتى حسبما ورد في قرار الاتهام فقد
حكمت المحكمة الابتدائية بحبس المتهمين لمدة ستة اشهر مع وقف التنفيذ وتعهدهما بعدم العود الى هذه الجريمة اضافة الى
الزام المتهمين بتعويض الوقف بارض اوفر قيمة ومساحة من مساحة ارض المقبرة التي
قاما بالاعتداء والبناء عليها والزامهما بدفع
مصاريف التقاضي حسبما ورد في منطوق الحكم الابتدائي. وقد قام المتهمان باستئناف
الحكم امام الشعبة الاستئنافية التي ايدت الحكم الابتدائي فسارع المتهمان الى
الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام الدائرة الجزائية حيث ذكرا في طعنهما ان
التهم المنسوبة لهما قديمة متقادمة وان المقبرة والقبوركانت قديمة ومجهولة وخلص
المتهمان الى انه لا يجوز رفع الدعوى الجزائية عليهما لانقضاء تلك الدعوى الا ان
الدائرة الجزائية رفضت الطعن بالنقض واقرت الحكم الاستئنافي مسببة حكمها (بانه
تبين للدائرة من خلال دراسة عريضة الطعن واوراق القضية اقرار المتهمين بانهما قد
قاما ببناء منزلين لهما في الجهة الشرقية للمقبرة واحاطاهما بسور مع حفر بيارات في
المقبرة وثبت قيامهما بالاعتداء على حرمة المقبرة بشهادة خمسة شهود حيث اكد الشهود
الخمسة ان البناء والحفر للبيارات قد تم في المقبرة المذكورة وان مواضع البناء كان
يوجد بها اثار قبور واوضح الشهود ان المقبرة قديمة وبينوا حدود المقبرة من الجهات
الاربع وحدد الشهود تاريخ بدء المتهمين بالبناء, وبناء على ذلك فان ما تعلل به
المتهمان الطاعنان بانقضاء الحق في سماع الدعوى الجزائية لانقضائها بالتقادم ادعاء
غير صحيح ومردود عليه جملة وتفصيلا بان لا تقادم في الاعتداء على المقابر وحرمة
الموتى في قبورهم لان حرمتهم في قبورهم
كحرمة الاحياء في بيوتهم. لذلك فان احترام مقابر الموتى واجب على الدوام وبدون استثناء ومسئولية
اهمالها تقع على القائمين بأعمال الاوقاف وقد اوضح قانون الاوقاف الشرعية تحريم
اغتصاب الوقف أيا كان نوعه, ويضمن المغتصب العوض بأوفر القيم حسبما ورد في
المادتين (62و 63) من القانون ويعاقب من اقدم على ذلك بالحبس مدة سنة وفقا لنص
الفقرة الثانية من المادة (262) عقوبات, مما يستوجب رفض الطعن موضوعا) وسيكون
تعليقنا على هذا الحكم بحسب الاوجه الاتية :
الوجه الاول : السند القانوني للحكم بان جريمة الاعتداء على المقابر لا تتقادم:
صرح الحكم محل
تعليقنا بانه استند الى المادة (62) وقف
التي نصت على انه (لا يجوز اغتصاب الوقف واذا اغتصب وقف وجب على متوليه استرجاعه
ويجب على المغتصب ارجاعه واذا كان قد تلف ضمن المغتصب عوضه مع مراعاة القيمة زمانا
ومكانا أوفاها قيمة وقت الغصب او الطلب واذا كان قد تصرف فيه وتعذر عليه استرجاعه
ضمن غلته الى حين استرجاعه) كما استند الحكم محل تعليقنا الى المادة (63) وقف التي
نصت على انه (لا يجوز البسط على الوقف من أي شخص او أي جهة الا بإذن المتولي وبعد
استئجار منه) ومن خلال استقراء المادة (62) السابق ذكرها نجد انها قد منعت اغتصاب
اموال الوقف ومن ضمنها المقابر التي اوقفها ملاكها لدفن الموتى حيث تنطبق احكام
الوقف العام على المقابر بمقتضى المادة (2) وقف التي نصت على ان الاوقاف العامة
هي كافة الاوقاف الخيرية التي تعود
ولايتها لذي الولاية العامة) ومقتضى المادة (3) وقف التي نصت على ان (الوقف هو حبس
مال والتصدق بمنفعته او ثمرته على سبيل القربة تأبيدا وهو نوعان وقف اهلي
ووقف خيري), وبناء على ذلك فان المقبرة هي
من اموال الوقف حيث تسري عليها الحماية المقررة في المادتين (62و63) وقف السابق ذكرهما,
كذلك استند الحكم محل تعليقنا الى المادة (262) عقوبات التي نصت على انه (يعاقب
بالحبس مدة لا تزيد على سنة او بغرامة لا تتجاوز الفي ريال 1- من شوش عمدا على
الجنازات او المأتم او عرقلها بالعنف او بالتهديد 2- من انتهك او دنس حرمة القبور او مكان معد لدفن
الموتى او لحفظ رفاتهم او اقدم عمدا على هدم او اتلاف او تشويه شيء
من ذلك 3- من اختلس جثة او جزء منها او كفنها سواء كان ذلك قبل دفنها او بعده
ويجوز لصاحب الشأن ان يسلم الجثة او جزء منها لمعهد علمي او تعليمي لتحقيق اغراض
هذا المعهد) ومن خلال استقراء هذا النص نجد ان الفقرة (2) تنطبق على هدم القبور
وعلى القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا حيث قام المتهمان بحفر وازالة المشاهد
الدالة على القبور حينما قاما بالبناء على القبور كما انهما حفرا البيارات في
المقبرة التي يترتب عليها تدنيس القبور, ومن استقراء النص العقابي المشار اليه نجد
انه لم يقرر ان جريمة الاعتداء على المقابر لا تتقادم, وبناء على ذلك فان الحكم
محل تعليقنا قد اجتهد وقرر قاعده قضائية بان (الاعتداء على المقابر لا يتقادم)
وهذه القاعدة الاجتهادية سديدة لأسانيد عدة من اهمها الاعتداء على المقابر جريمة مستمرة
باستمرار البناء عليها فالضرر يلحق بالموتى باستمرار طالما والفعل الجرمي مستمر
كمياه المجاري او هدم القبور و طمس معالمها او المشي عليها او الجلوس او النوم
عليها في المنزل المبني على القبور او الرفات . كما ان القاعدة التي قررها الحكم
محل تعليقنا تجد لها الاساس المتين في
فقه الشريعة الاسلامية حسبما سيرد ذكره في الوجه الثاني .
الوجه الثاني : الاعتداء على المقابر من منظور شرعي :
حرصت الشريعة
الاسلامية على تكريم الانسان حيا وميتا فقد قال تعالى (ولقد كرمنا بني ادم
وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
ويظل تكريم بني ادم مستمرا بعد موته حيث
اوجبت الشريعة سرعة تجهيز الانسان الميت وتكفينه في اسرع وقت ممكن وتكريمه
بالدفن وبعد ذلك يظل مقام التكريم للإنسان الميت مستمرا حيث حرمت الشريعة
الاسلامية نبش القبور اوهدمها او نقل جثث الموتى, فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم (كسر
عظام الميت ككسر عظام الحي) كما قرر الفقهاء ايقاع عقوبات رادعة على كل منتهك
لحرمات الموتى لان الله سبحانه وتعالى جعل القبر مسكنا للإنسان الميت فالقبر يعد
حرزا للآدمي كالمسكن الخاص بالحي, ويذهب الفقهاء الى ان البناء على المقابر والسكن
في هذه البيوت المبنية على المقابر يكون سببا لنزول المصائب على سكان هذه البيوت
حسبما ورد في فتاوى علماء الازهر وغيرهم, وقد ذكر الشوكاني في كتابه (ما اتفقت
عليه الشرائع) ان الشرائع و الملل كافة تقرر احترام مقابر الموتى فلا يجوز البناء
عليها او المرور عليها او القاء القاذورات فيها, وهذا ما يلاحظه الناس بالفعل حيث
ان كل الديانات تحترم مقابر الموتى حسبما ما هو مشاهد في العصر الحديث, بخلاف
المسلمين في العصر الحاضر الذين تساهلوا في هذا العصر مستغلين تساهل القانون في
هذه الجريمة العظيمة المستوجبة للعقاب في الحياة الدنيا والاخرة .
الوجه الثالث : تساهل قانون الجرائم والعقوبات في عقوبة الاعتداء على المقابر :
من خلال مطالعة المادة (262) عقوبات التي نصت على ان عقوبة الاعتداء على المقابر هي عقوبة تخييرية أي الحبس او الغرامة ثم قررت ان عقوبة الحبس لا تزيد على سنة ومعنى ذلك انه يجوز للمحكمة ان تحكم على المعتدي على المقبرة بالحبس لمدة 24 ساعة لان ذلك هو الحد الادنى لعقوبة الحبس كما ان عقوبة الغرامة قد نص القانون على انها لا تزيد على الفين ريال ومعنى ذلك انه يجوز الحكم على المعتدي على المقبرة او حرمة الموتى بمبلغ خمسة ريالات او عشرة ريال او اكثر من ذلك . والادهى من ذلك ان الحد الاعلى او الاقصى للغرامة هو الفين ريال.؛؛؛. – قطعا ان هذا يتنافى مع التكريم والاحترام لحرمة المقابر والموتى, ولذلك نجد ان الحكم محل تعليقنا قد قضى بعقوبة الحبس لمدة ستة اشهر مع وقف التنفيذ على المعتدين على حرمة المقابر, والله اعلم .