عدم نهائية الحكم الغيابي بالقصاص
أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن
كلية الشريعة والقانون
جامعة صنعاء
الحكم محل تعليقنا هو
الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلسة 11 رجب 1420ه الموافق20/10/1999م
في الطعن الجزائي رقم (153) لسنة 1418ه الذي قضى بأن (الحكم على الغائب بحد أو
قصاص إنما هو حكم تمهيدي وليس حكماً فاصلاً أو منهياً للخصومة لأن الحكم الصادر
بالقصاص على الغائب أو الفار من وجه العدالة تنطبق عليه المادة(289) إجراءات والتي
نصت على أنه فيما عدا المحكوم عليه بحد أو قصاص فيمكن من الدفاع عن نفسه عند حضوره
أو القبض عليه).
وسيكون تعليقنا على
هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:
الوجه الأول: موافقة الحكم محل تعليقنا للقانون:
فذلك
ظاهر من استناده إلى المادة (289) من قانون الإجراءات الجزائية التي نصت على أن
(تعين المحكمة منصوباً عن المتهم الفار من أقاربه أو أصهاره حتى الدرجة الثالثة إن
أمكن وإلا من المحامين المعتمدين، ثم تنظر الدعوى كما لو كان المتهم الفار حاضراً
وتتبع في محاكمته القواعد المقررة في المحاكمة الحضورية وتفصل في الدعوى ويعتبر
حكمها بذلك حضورياً فيما عدا المحكوم عليه بحد أو قصاص فيمكن من الدفاع عن نفسه
عند حضوره أو القبض عليه) وهذا النص صريح في عدم نهائية الحكم الغيابي بالقصاص وأن
المحكمة الإبتدائية لا تستنفذ ولايتها بصدور هذا الحكم وأنه يحق للمحكوم عليه
غيابياً بالقصاص أن يمثل أمام المحكمة الإبتدائية للدفاع عن نفسه حسبما ورد في
النص.
الوجه الثاني: الأسباب الموجبة لعدم نهائية الحكم الغيابي بالقصاص:
هذه الأسباب كثيرة أهمها أن الحكم القضائي يجب أن يكون عنوان الحقيقة ،
ولايكون الحكم الغيابي بالقصاص كذلك إلا إذا حضر المتهم المحكوم عليه غيابياً
بالقصاص وأدلى بأقواله وقدم اوجه دفعه ودفاعه، لأن نصف الحقيقة أو أكثر تكون لديه،
في حين أن النصف الآخر من الحقيقة لدى المجني عليه إذا كان حياً على فرض أن القصاص
فيما دون النفس، أما إذا كان المجني عليه قد لاقى حتفه بفعل المحكوم عليه غيابياً
فإن الحقيقة كاملة تقريباً تكون لدى المحكوم عليه في هذه الحالة ، كما أنه يتعذر
تدارك أو استدراك عقوبة القصاص بخلاف العقوبات الأخرى، إضافة إلى أن القصاص عقوبة
بالغة الشدة مما يستوجب التحري والتثبت فيها أكثر من غيرها من العقوبات، إضافةً
إلى أن جعل الحكم الغيابي غير نهائياً يغري المتهم بتسليم نفسه إلى العدالة وفي
ذلك فوائد عظيمة للعدالة وللمجتمع ولأولياء الدم وللمتهم نفسه، فلو كان الحكم
الإبتدائي الغيابي بالقصاص نهائياً بمضي المدة لشكل المحكوم عليه خطورة بالغة على
أسرة المجني عليه وأسرته ومجتمعه، فقد حدث بالفعل أن قام الفارون من وجه العدالة
المحكوم عليهم غيابياً بالإعدام بإرتكاب جرائم قتل واعتداء أخرى وانخرطوا في جرائم
أخرى كتشكيل عصابات مسلحة أو الإلتحاق بالجماعات الإرهابية حيث فهموا بأن الأحكام
الغيابية الصادرة عنهم نهائية.
الوجه الثالث: كيفية دفاع المحكوم عليه غيابياً بالقصاص عن نفسه أمام المحكمة الإبتدائية التي أصدرت الحكم عليه:
قضى الحكم محل
تعليقنا ومن قبله المادة(289) إجراءات بأن الحكم الغيابي بالقصاص لايكون نهائياً
حيث يحق للمحكوم عليه في هذه الحالة الدفاع عن نفسه، وذلك يقتضي الإشارة بإيجاز بالغ
إلى كيفية هذا الدفاع، وقد أشارت إلى ذلك المادة (293) إجراءات التي نصت على انه
(يجوز للمحكمة إذا سلم المحكوم عليه الفار نفسه أو قبض عليه وقدم للمحكمة التي
أصدرت الحكم ما يفيد قيام عذر قهري منعه من الحضور ولم يستطع تقديمه قبل الحكم
توقفه المحكمة على ما تم من إجراءات في غيبته فإن اعترض على أي منها وطلب إعادته
تفصل المحكمة في هذا الإعتراض بحكم قابل للإستئناف فإن قبلت المحكمة إعادة الإجراء وترتب على ذلك
تغيير عقيدتها عدلت الحكم بغير إضرار بالمتهم وإلا ظل قائماً ولا يسري ما ورد في
هذه المادة على مرحلة الإستئناف).
ومن خلال استقراء
المادة السابقة نجد أنها قد علقت قيام المحكوم عليه غيابياً بالقصاص بتقديم العذر
القهري وهذا من وجهة نظرنا لايستقيم مع ماورد في المادة(289) التي صرحت بحقه في
الدفاع عن نفسه أمام محكمة أول درجة من
غير قيد أو شرط، فهذا تناقض ينبغي إزالته عند تعديل القانون بحيث يستثنى المحكوم
عليه غيابياً بحد أو قصاص من العذر القهري
، ومن مزايا الحكم القضائي محل تعليقنا أنه قد قرر حق المحكوم عليه بالقصاص في
الدفاع عن نفسه أمام محكمة أول درجة ولم يشترط تحقق العذر القهري بالنسبة للمحكوم
عليه غيابياً بالقصاص.
وتتلخص كيفية دفاع
المحكوم عليه بالقصاص غيابياً عن نفسه أمام محكمة أول درجة بأن تقوم المحكمة
بتسليمه نسخة من ملف القضية يتضمن الحكم الغيابي وكافة الأوراق والمستندات التي
استند إليها هذا الحكم وتمنح المحكمة المحكوم عليه الوقت الكافي لدراسة الملف
مستعيناً بمن يراه من المحامين وعلى المحكمة أن تعينه في ذلك، ومن خلال الدراسة
لملف القضية ينبغي على المحكوم عليه أن
يحدد الإجراءات التي يعترض عليها وينبغي حينئذ أن يبين أوجه اعتراضه وأسانيد
الإعتراض .
الوجه الرابع: حق المحكوم عليه غيابياً بقصاص أن يجمع بين الإعتراض على الإجراءات السابقة وتقديم أوجه دفاع جديدة:
يحق للمحكوم عليه
غيابياً بالقصاص أن يبدي أوجه دفاعه الأخرى بالإضافة إلى الإعتراض أو المعارضة، فيحق له أن يقدم أدلة نفي التهمة، كما يحق له أن
يدلي بأقواله في القضية، حيث أن نص المادة(289) صريحة في أحقية المحكوم عليه
غيابياً بالقصاص أن يجمع بين الإعتراض على إجراءات المحاكمة السابقة وبين إبداء
أوجه دفاع جديدة، وللأسف فإن بعض الباحثين والمحامين والقضاة يستقرئون المادة(293)
بمعزل عن مضمون المادة (289) ويتوصلون بذلك إلى حصر حق المحكوم عليه في هذه الحالة
بالإعتراض فقط على الإجراءات دون أن يبدي اوجه دفاع جديدة، وهذا الفهم يجافي صريح
المادة (289) كما أنه يناقض الحكمة من استثناء المحكوم عليه غيابياً بحد وقصاص من
اعتبار الحكم حضورياً في غيبته، ويتأسس حق المحكوم عليه غيابياً في إبداء وجوه
دفاعه ودفوعه والإعتراض على إجراءات المحاكمة السابقة أمام محكمة أول درجة يتأسس
على أن مبدأ التقاضي على درجتين من النظام العام ، فحرمان المحكوم عليه غيابياً من
إبداء أوجه دفاعه والإعتراض على الإجراءات يخل بمبدأ التقاضي على درجتين.
الوجه الخامس: حق المحكوم عليه غيابياً بحد وقصاص في الإعتراض الكلي والجزئي على الإجراءات:
من خلال استقراء ماورد في المادتين 289 و293 اجراءات نجد أن مفهوم
هاتين المادتين يقرر حق المحكوم عليه غيابياً بحد أو قصاص في الإعتراض على بعض
إجراءات المحاكمة التي تمت في غيبته كما أنه يحق له أن يعترض على كل تلك الإجراءات
طالما وهي تمت في غيبته، وهناك من يتمسك بظاهر المادة 293 فيذهب إلى أن حق
الإعتراض يكون جزئياً على إجراء فقط أو اجرائين في أحسن الأحوال، لأن هناك فرق بين
حق الإعتراض في القانون اليمني وبين نظام المعارضة في الأحكام الجزائية في القانون
المصري، فحق الإعتراض يكون جزئياً في حين أن المعارضة تكون كلية ولأن المحكمة
الإبتدائية تملك فقط حق تعديل الحكم الغيابي وليس الغائه، وهذا التخريج من وجهة
نظرنا لا اساس له لأن المادة 289 صريحة في تمكين المحكوم عليه غيابياً بحد أو قصاص
من الدفاع عن نفسه ولايتحقق ذلك إلا إذا كان له حق الإعتراض الكلي أو الجزئي عن الإجراءات
التي تمت في غيبته ، إضافة إلى أن القول بقصر الإعتراض على الاعتراض الجزئي يعطل
الحكمة من تقرير مبدأ عدم نهائية الحكم الغيابي بحد أو قصاص.
الوجه السادس: للمحكوم عليه غيابياً بحد أو قصاص طريقان للإستئناف :
فإذا كان من المقرر قانوناً أنه لايجوز للمحكوم عليه أن يستأنف الحكم
الغيابي مباشرة قبل أن يسلم نفسه أو يتم القبض عليه، إلا أنه من المقرر قانوناً له
في هذه الحالة أن يتقدم أمام المحكمة الإبتدائية التي اصدرت الحكم الغيابي
بالإعتراض على إجراءات المحاكمة التي تمت في غيبته فإذا رفضت المحكمة الإبتدائية
اعتراضه فيتوجب عليها عندئذ أن تصدر حكماً مسبباً يتضمن أوجه الإعتراض ووقائعه
واسانيده واسباب حكمها ويكون هذا الحكم قابلاً للطعن بالإستئناف وفقاً لصريح
القانون، حتى تبسط المحكمة الإستئنافية وهي محكمة موضوعية رقابتها على سلامة وصحة
تناول محكمة أول درجة لهذه المسألة الموضوعية، وبالإضافة إلى هذا الإستئناف فإن
المحكوم عليه يملك الطعن بالإستئناف في الحكم الإبتدائي المعدل للحكم الغيابي
طبقاً للقواعد العامة لإستئناف الأحكام الإبتدائية الجزائية ، وقابلية الحكم الفاصل في الإعتراض للإستئناف وكذا الحكم المعدل للحكم
الغيابي للإستئناف تستند إلى اسانيد
قانونية وواقعية كثيرة من اهمها خطورة عقوبة القصاص والحد وشدتها وكذا تأثير
الإجراءات السابقة على قناعة محكمة أول درجة وعقيدتها لاسيما وهي تمت في غيبة
المحكوم عليه وكذا الأثر المترتب على الفصل بالإعتراض بالنسبة للمحكوم عليه في هذه
المسألة الموضوعية.
الوجه السابع: استئناف الحكم الغيابي بالقصاص أو الحد لايسقط حق الإعتراض:
من المقرر وفقاً لقانون الإجراءات عدم جواز قبول استئناف من المحكوم
عليه غيابياً حتى يسلم نفسه أو يتم القبض عليه، ومع هذا الحظر القانوني إلا أن
المحكوم عليه قد يقوم بإستئناف الحكم الصادر غيابياً عليه ويحصل هذا في الواقع
كثيراً، وهناك من يرى أن قيام المحكوم عليه غيابياً بإستئناف الحكم الغيابي على هذا
النحو يسقط حقه في الإعتراض أمام المحكمة الإبتدائية والصحيح أن هذا الإستئناف
لايسقط الحق في الإعتراض ، لأن الإعتراض من النظام العام إذ يتعلق بمبدأ التقاضي
على درجتين.
الوجه الثامن تعديل الحكم الغيابي اذا ما قبلت محكمة اول درجة الإعتراض:
إذا قبلت محكمة أول درجة اعتراض المحكوم عليه غيابياً على الحكم
الغيابي فعندئذ يتوجب عليها أن تعدل حكمها الذي صدر غيابياً مراعيةً أوجه الدفاع
والإعتراض التي قدمها المحكوم عليه غيابياً ، وقد يكون التعديل للحكم الغيابي كلياً
أو جزئياً بحسب قوة ووجاهة أوجه الدفاع والإعتراض التي ابداها المحكوم عليه، ويثور
تساؤل لدى بعض الباحثين والقضاة بشأن تصريح قانون الإجراءات بتعديل الحكم الغيابي
لهذه الحالة وليس إبطاله أو إلغائه كما هو الحال في محكمة الإستئناف أو المحكمة
العليا، ولا ريب أن الغاية من ذلك هي أن محكمة أول درجة التي اصدرت الحكم
الإبتدائي الغيابي ليست محكمة طعن أصلاً، فهي لا تملك الحق في إلغاء الحكم أو
إبطالة وإنما يقتصر دورها على تعديل حكمها الغيابي ، وهذه المسألة هي السبب في
الخلاف بشأن نظام الإعتراض هل هو طريق من طرق الطعن ؟ وعلى هذه الخلفية ابتدع
الفكر القانوني القول بأن نظام المعارضة أو الإعتراض على الأحكام الجزائية
الغيابية هو طريق طعن استثنائي مثله في ذلك مثل التماس إعادة النظر في الأحكام
كونهما يقدمان إلى المحكمة التي أصدرت الحكم الملتمس فيه أو المعترض عليه، والكلام
في هذا الشأن طويل لا يتسع المجال لبسطه في هذا الموضع.
الوجه التاسع : التمييز التلقائي للحكم القضائي إذا كان قد قضى بقصاص أو حد:
نظراً لخطورة وشدة عقوبات القصاص والحدود وتعذر تداركها ولإيجاد الرقابة الموضوعية والقانونية على سلامة تطبيق هذه العقوبات فقد قرر قانون الإجراءات الجزائية اليمني وغيره ضمانات كثيرة تكفل سلامة تطبيق هذه العقوبات ومنع أي تجاوز أو انحراف في ذلك ، ومن أهم هذه الضمانات التمييز التلقائي للأحكام القضائية اذا كانت قد قضت بقصاص أو حد، والتمييز التلقائي يعني أنه يتوجب على المحكمة الإبتدائية أن تقوم برفع حكمها مع ملف القضية إلى المحكمة الإستئنافية حتى ولو لم يستأنف أحد الحكم الإبتدائي وكذلك الحال بالنسبة لمحكمة الإستئناف إذ يتوجب عليها أن تقوم ببحث ودراسة الحكم الإبتدائي من تلقاء ذاتها وفي ضوء ذلك تملك تأييده بكل فقراته أو إلغائه أو تعديل بعض فقراته وفي كل الأحوال يتوجب على محكمة الإستئناف أن تقوم برفع حكمها مع ملف القضية إلى المحكمة العليا حتى ولو لم يطعن احد بالنقض في الحكم الإستئنافي وبدورها تملك المحكمة العليا دراسة الحكم الإستئنافي في ضوء أوراق القضية من تلقاء ذاتها، فإذا توصلت إلى إقرار الحكم بالحد أو القصاص فإنها تقوم بإحالة الموضوع إلى رئيس الدولة للإذن بإجراء الحد أو القصاص ، وهناك دول مثل مصر تقوم بإحالة الموضوع في هذه الحالة إلى المفتي، أما اذا قامت المحكمة العليا بنقض الحكم فإنها حينئذ تعيد الحكم المنقوض مع ملف القضية إلى محكمة الموضوع للفصل فيه وفقاً لتوجيهات وإرشادات المحكمة العليا، والتمييز التلقائي للأحكام إذا كانت بحد أو قصاص يعضد ويؤيد مبدأ عدم نهائية الحكم الغيابي للقصاص أو الحد، والله أعلم.