إمتناع القاضي لسبق نظره القضية
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
يجب ان لا تكون لدى القاضي افكار ومعلومات وقناعات ومواقف مسبقة عن
القضية التي ينظرها حيث يجب على القاضي ان يستمد قناعته ومعلوماته من المذكرات
والمرافعات التي يدلي بها الخصوم في جلسات المحكمة لما لذلك من اهمية في حياد
القاضي واستقلاله وعدم قضائه بعلمه ، ومن هذا المنطلق منع القانون القاضي من نظر
القضية التي سبق له النظر فيها وأوجب عليه التنحي وان لم يطلب الخصوم ذلك، ولأهمية
هذا الموضوع وكثرة الاحتياج له فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة
التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 12/1/2011م في الطعن التجاري
رقم (43480) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان الدائرة
التجارية بالمحكمة العليا نقضت حكماً استئنافياً وأعادت ملف القضية إلى الشعبة
الاستئنافية التجارية فقام احد قضاة الشعبة بالتنحي لسبق نظره في القضية فقررت
الشعبة احالة ملف القضية الى الشعبة التجارية الأولى فقام احد الخصوم بالطعن
بالنقض في ذلك القرار لان احد اعضاء الشعبة قد سبق له نظر القضية والحكم فيها قبل
اعادتها من المحكمة العليا، إلا ان الدائرة التجارية رفضت الطعن وقضت باعادة ملف
القضية الى الشعبة الاستئنافية التي رفض الطاعن الاحالة اليها، وقد ورد في اسباب
حكم المحكمة العليا ( والدائرة من خلال اطلاعها على أوراق القضية وجدت ان الطاعن
ينعي على القرار الصادر من الشعبة الثانية بإحالة القضية الى الشعبة الأولى لان من
ضمن هيئة الشعبة الأولى احد القضاة الذين سبق لهم نظر القضية والحكم فيها قبل
اعادتها بحكم المحكمة العليا السابق حيث ذكر الطاعن ان ذلك القاضي ممنوع من نظر
القضية وفقاً للمادة (128) مرافعات فقرة (7) ، وهذه الدائرة وبعد مناقشتها لهذا
النعي تجد انه غير سديد لان الفقرة (7) من المادة (128) مرافعات قد نصت على ان
(يكون القاضي ممنوعاً من نظر الدعوى ويجب عليه التنحي من تلقاء نفسه ولو لم يطلب
منه الخصوم ذلك اذا كان قد افتى في الدعوى أو ترافع فيها عن احد الخصوم أو كتب
فيها ولو كان ذلك قبل اشتغاله بالقضاء أو كان قد سبق له نظرها قاضياً وحكم فيها في
درجة أدنى) فالمتمعن في عبارة النص يجد ان الامتناع الوجوبي للقاضي عن نظر القضية
مقصور على ما سبق له نظره في درجة أدنى
وهي المرحلة الابتدائية بالنسبة للقاضي في الشعبة الاستئنافية اما سبق نظر القضية
في الدرجة ذاتها فانه لا يحول دون صلاحية القاضي في نظرها، وهذا ما قصده المشرع
بوضوح في عبارة (او كان قد سبق له نظرها قاضياً وحكم فيها في درجة أدنى) فلا
اجتهاد مع وضوح النص وصراحته، وحيث ان الدائرة وجدت ان القاضي الموجود ضمن هيئة
الشعبة الأولى لم يسبق له نظر القضية والحكم فيها في المرحلة الابتدائية فانه
يتعين رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : ماهية امتناع القاضي عن نظر القضية :
امتناع القاضي عن نظر الدعوى التي سبق له ان نظرها أو حكم فيها هي
حالة من حالات الامتناع القانونية المحددة في القانون على سبيل الحصر، وتتحقق هذه
الحالة اذا كان قد سبق للقاضي النظر في الدعوى بمعنى عرض عليه موضوع الدعوى فقام
بدراستها وفهم محتوياتها وموضوعها وسببها واسانيدها الواقعية والقانونية وطلباتها
أو سار في اجراءات نظرها واستمع وطالع اقوال الخصوم ومذكراتهم وردودهم ودفوعهم حتى
وان لم يكن قد نطق بحكمه في القضية وكذلك
الحال اذا انتهى من اجراءات نظر الدعوى واصدر الحكم فيها ففي هذه الاحوال تمنع على
القاضي إعادة النظر في الدعوى ذاتها كقاض طعن أو احالة؛غير ان قضاء محكمة النقض
المصرية قد استقر على ان سبق قيام القاضي باصدار الاوامر الولائية او القرارات
الاجراءئية التي لاتمس موضوع الدعوى لايعد سبق نظر في القضية فلايمنع القاضي من
نظر القضية .
الوجه الثاني : الوضعية القانونية لامتناع القاضي عن نظر الدعوى التي سبق له النظر أو الحكم فيها :
من الموكد ان هذا الامتناع مقرر في قانون المرافعات اليمني حيث ان هذا المنع قد ورد في القانون صراحة
حسبما هو ظاهر في المادة (128) مرافعات حيث نصت هذه المادة على ان (يكون القاضي
ممنوعاً) فمنع القاضي في هذه الحالة منع قانوني مقرر بموجب أحكام القانون، فيجب
على القاضي الالتزام بهذا المنع والوقوف عنده
والالتزام به ولو لم يطلب الخصوم ذلك.
الوجه الثالث : الاعتبارات والاسانيد التي يتأسس عليها منع القاضي من نظر القضية التي سبق له ان نظرها :
يستند هذا المنع إلى اعتبارات كثيرة اهمها المحافظة على حياد القاضي
واستقلاليته وعدالته فعندما يسبق للقاضي النظر في قضية معينة تتولد لديه قناعات
ومواقف وأفكار مسبقة كما تتوفر لديه بيانات ومعلومات عن موضوع تلك القضية والخصوم
فيها، ولذلك فعندما يقوم بالنظر في القضية ذاتها والحكم فأن تلك القناعات والافكار
والمعلومات والمواقف المسبقة عن القضية تؤثر على القاضي فينظر في القضية من جديد
وهو تحت طائلة تلك المواقف والقناعات المسبقة الامر الذي يجعل نظره فيه من جديد
نوعاً من اللغو والعبث، في حين انه من الواجب على القاضي ان يبني قناعاته بشأن القضية على المذكرات
والمرافعات التي يتم تقديمها اليه في
اثناء نظره القضية وليس قبل ذلك ، ولاريب ان المواقف والقناعات المسبقة للقاضي
تؤثر سلباً في الحكم الذي يصدره القاضي في القضية لان القاضي في هذه الحالة بحكم
بعلمه ومعلوماته السابقة عن القضية فلا يخرج في حكمه عما سبق له الحكم به في حكمه
السابق، علاوة على ان الخصوم تنتابهم المخاوف والشكوك من ان القاضي في حكمه الجديد
لن يخرج عن حكمه السابق ولذلك فلا جدوى ولا فائدة من قيام القاضي بنظر القضية من
جديد وبناءً على ذلك فلا فائدة ولا جدوى من اجراءات التقاضي؛(موانع القضاء ؛د.حامد
الشريف؛ص262 ؛).
الوجه الرابع : نطاق امتناع القاضي من نظر القضية التي سبق له النظر أو الحكم فيها:
قرر الحكم محل تعليقنا ان هذا النطاق قاصر على القضايا التي سبق
للقاضي النظر أو الحكم فيها فبالنسبة لقاضي الاستئناف اذا كان قد سبق له النظر
فيها في المرحلة الابتدائية وبالنسبة
لقاضي المحكمة العليا اذا كان قد سبق له النظر أو الحكم حينما كان قاضياً في مرحلة
الاستئناف؛ اما اذا لم يكن قد نظرها أو حكم فيها في مرحلة أدنى فلا يمتنع عليه
نظرها أو الحكم فيها مجدداً مثل القضايا التي تعيدها المحكمة العليا الى الشعبة
التي اصدرت الحكم السابق لمعاودة نظرها مجدداً ومثل الطعن بالنقض الذي تقوم
الدائرة ذاتها بالمحكمة بالنظر والحكم فيه للمرة الثانية واحياناً الثالثة طالما
والشعبة أو الدائرة أو احد اعضائها لم ينظر القضية في المرحلة الادنى.
الوجه الخامس : امتناع القاضي عن نظر الدعوى التي سبق له النظر فيها والحكم فيها من النظام العام:
من خلال مطالعة النص القانوني السابق ذكره المادة(128) مرافعات ومن
خلال ما سبق ذكره في الوجه الثاني من هذا التعليق نجد ان امتناع القاضي عن نظر
الدعوى التي سبق له النظر فيها أو الحكم من النظام العام الذي لا يجوز للقاضي ان
يخالفه حتى لو قبل الخصوم ذلك أو لم
يعترضوا عليه ويترتب على ذلك اثار كثيرة بالإضافة الى عدم جواز مخالفته ومن ذلك
يجوز للمحكمة ان تتعرض له من تلقاء ذاتها ولو لم يطلب منها الخصوم ذلك كما انه
يجوز اثارته في أي مرحلة تكون فيها القضية ولو أمام المحكمة العليا، كما انه يترتب
على مخالفة هذا المنع بطلان الحكم، وفي هذا المعنى قضت محكمة النقض
المصريةبان (النص في المادتين (146 ، 147)
مرافعات وما جرى عليه قضاء هذه المحكمة ان القاضي لا يكون صالحاً لنظر الدعوى اذا
كان قد سبق له نظرها قاضياً وإلا كان حكمه فيها باطلاً ولما كانت اسباب عدم صلاحية
القاضي لنظر الدعوى متعلقة بالنظام العام ويجوز التمسك بها لأول مرة أمام محكمة
النقض وحيث انه من الثابت ان السيد المستشار..... عضو اليمين في دائرة الاستئناف
التي اصدرت الحكم المطعون فيه كان رئيس محكمة الدرجة الأولى التي نظرت القضية
امامها ولما كان الامر كذلك فان السيد المستشار وقد سبق له نظر الدعوى أمام محكمة
أول درجة قد اضحى غير صالح لنظر القضية امام محكمة الاستئناف ويكون الحكم الصادر
فيها باطلاً)، والله اعلم.