دعوى إبطال الوقف

 

دعوى إبطال الوقف

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

الزهد والتقوى وحب الأخرة كان سمة المتقدمين والطمع والجشع والهلع صفة تلازم غالبية المتأخرين؛ فغالب الأبناء لا يكون حالهم كحال أبيهم، ولذلك يصف الله سبحانه تعالى  حال بعض الاولاد والاحفاد فيقول (فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) وهذا يفسر سعي بعض الأولاد لنقض اعمال ابائهم الصالحة والمبرات والقرب لإبائهم طمعاً في حطام الدنيا؛ فغالبية ذرية الواقفين يسعون سعياً حثيثاً لإبطال الاوقاف الصادرة من ابائهم واسلافهم بذرائع ووسائل مختلفة؛ فلا يمر يوم الا ويردني سؤال من هؤلاء افهم منه انهم يريدون الحصول على فتاوى او ارشادات لنقض الاوقاف التي قررها اباؤهم او اجدادهم، ولخطورة هذا الموضوع واهميته فقد اخترت التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/2/2011م في الطعن رقم (36978) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد الاشخاص الصالحين الزاهدين في الدنيا اوقف ثلاثة دكاكين والطابق الواقع فوقها لله سبحانه وتعالى  على احد المساجد الذي يصلي فيه ويمكث فيه غالب وقته حيث قام بتحرير وثيقة الوقف ؛ ولزهد الواقف فقد كان يلبس الثياب الرثة ويأكل اليسير من الطعام ويتجنب كافة المظاهر الزائفة التي تدل على حبه للدنيا ومباهجها؛ فتم الوقف في اثناء حياة الواقف الزاهد العابد ولم تكن هناك ادنى اشكالية في حياة الواقف الا انه بعد وفاة الواقف صارت الدكاكين والطابق الذي فوقها في موقع استثماري فصارت قيمتها وايجاراتها عالية؛ وحينئذ دب الطمع والجشع الى قلوب اولاد الواقف فقاموا بتقديم دعوى امام المحكمة الابتدائية المختصة طلبوا فيها ابطال الوقفية الصادرة من ابيهم لأنه كان مجنوناً حينما اوقف الطابق والدكاكين المشار اليها واحضروا الشهود الذين شهدوا ان والدهم كان في اثناء حياته يلبس الملابس المبهذلة ويمكث في الشوارع ويتجول فيها وهو على تلك الهيئة وانه كان لا يهتم بمظهره الخارجي وانه كان يعاني من امراض عصبية ونفسية وان قصده من الوقفية حرمانهم من تركته ...الخ حيث استدل اولاده بتلك الشهادات على ان والدهم الواقف كان مجنوناً والجنون مبطل التصرفات ومنها الوقف، وفي مواجهة هذه الدعوى تمسك مكتب الاوقاف بان الواقف كان عاقلاً ورشيداً وانه كان يباشر بنفسه كافة التصرفات الشرعية والقانونية طوال حياته ولم يعترض اولاده او يطعنوا في قدراته العقلية والذهنية وان المظاهر التي كان يظهر بها الواقف لم تكن تدل على جنونه وانما على زهده في الحياة الدنيا حيث كان يلازم المسجد الذي اوقف عليه الدكاكين والطابق الذي فوق الدكاكين، وقد احضر المدعون شهود أخرين ذكروا في شهاداتهم ان الواقف قام بوقف الدكاكين والطابق الذي فوقهن نكاية بأولاده حتى يحرمهم منها، وبعد ان سارت المحكمة الابتدائية في اجراءات نظر القضية توصلت الى الحكم (بصحة الدعوى المرفوعة ضد مكتب الأوقاف وابطال الوقفية الصادرة من الواقف واعادة الدكاكين والطابق الذي فوقهن الى الورثة لتقسيمها بينهم  بحسب الفرائض الشرعية، وقد جاء في اسباب الحكم الابتدائي (بانه قد ثبت بالأدلة والقرائن ان والد المدعين الواقف كان ناقص الاهلية يعاني من امراض نفسية وعصبية وكان شخصاً غير طبيعي وكانت تصرفاته غير طبيعية وغير شرعية) فلم يقبل مكتب الاوقاف بالحكم الاستئنافي فبادر الى استئناف الحكم الابتدائي، وتضمنت عريضة الاستئناف ان الحكم الابتدائي قد تجاهل الحجة الشرعية والقانونية وهي المحرر الرسمي المتضمن الوقفية الصادرة من الواقف العاقل الراشد الزاهد العابد والتي لا تقبل اثبات العكس وان الواقف قد توفرت فيه الشروط المعتبرة شرعاً وقانوناً في الواقف، فالواقف سلك بهذه الوقفية طريقاً من طرق البر والخير للتقرب الى الله سبحانه وتعالى كما تدل على ان الواقف كان صحيح العقل والبدن، وبعد ان نظرت الشعبة الاستئنافية الشخصية في القضية خلصت الى الحكم بقبول استئناف مكتب الأوقاف وبطلان الحكم الابتدائي وصحة الوقفية، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (فقد تبين ان الحكم الابتدائي لم يوافق الصواب عندما قضى بإبطال وقفية مورث المدعين ؛لان ما ورد من ادلة المدعين ليس فيها ما يدل على ان الواقف كان يعاني من جنون مطبق وفقدان دائم او مؤقت للوعي والادراك اثناء حياته بل دلت اقوال الشهود الخمسة الذين احضرهم المدعون انه كان يمارس حياته ويقوم بالتصرفات ويبرم العقود مع الناس كأي شخص عادي كما ان وقائع المحاكمة قد دلت على انه لم يقصد حرمان اولاده العصاة من التركة حيث ترك للمدعين اموالاً كثيرة ارضاً ومعموراً) فلم يقنع اولاد الواقف بالحكم الاستئنافي فقاموا بالطعن فيه بالنقض، إلا ان الدائرة الشخصية قضت برفض الطعن واقرار الحكم الاستئنافي؛ وقد ورد في اسباب حكم المحكمة العليا (وبتأمل اوراق القضية فقد ظهر ان الطاعنين يعيبون على الحكم الاستئنافي المطعون فيه بأنه قد بني على مخالفة الشرع والقانون والخطأ في تطبيقهما وتأويلهما وفساد الاستدلال وانعدام التسبيب، ومن خلال رجوع الدائرة الى الحكم المطعون فيه والاوراق فقد وجدت ان الطاعنين قد تعمدوا إثارة الاسباب ذاتها التي سبق لهم اثارتها امام محكمة الموضوع التي ناقشتها وفصلت فيها كما ان الحكم الاستئنافي قد بني على ادلة المدعين الطاعنين انفسهم وتضمن الحكم تسبيباً كافياً وسائغاً، ولذلك فان الطعن لا يستند الى أي مسوغ قانوني) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول :ماهية دعوى ابطال الوقف ودعوى ابطال وثيقة الوقف وتوصيتنافي هذا الشان:

دعوى ابطال الوقف : هي تلك الدعوى التي يدعي فيها المدعي بان الوقف لم يصدر من الواقف او لم تتوفر في الواقف او المال الموقوف او الموقوف عليه الشروط القانونية؛ فالمدعي في دعوى بطلان الوقف يطعن في وجود التصرف او الوقف او صحة التصرف او الوقف ذاته؛ فالمدعي في هذه الحالة يستهدف من دعواه ابطال التصرف او ابطال الوقف ذاته ؛وهذه الدعوى من اخطر الدعاوي التي تهدد وجود الوقف ولذلك تقرر القوانين في الدول المختلفة وجوب تدخل النيابة العامة في دعاوي الوقف للحفاظ عليه وحمايته من الادعياء والطامعين ؛ولهذه الغاية فقد قضت محكمة النقض المصرية بان تدخل النيابة العامة من النظام العام حيث يترتب على عدم تدخلها بطلان الحكم ؛ اما دعوى بطلان وثيقة الوقف (الوقفية) فالمدعي في هذه الحالة لايطعن في التصرف ذاته وانما يطعن في الوثيقة المثبتة للتصرف حيث يدعي بان الوثيقة مزورة او انها لم تصدر من كاتبها او انها غير موثقة اوغير معمدة او غير مسجلة او انها غير مطابقة للعين الموقوفة؛ ومن خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد ان الدعوى كانت دعوى بطلان التصرف ذاته حيث ادعى المدعون ان الواقف كان مجنونا اي غير اهلا لابرام التصرف فلم تتوفر فيه شروط الواقف المحددة في القانون؛وفي هذا الشان فاننا نوصي : بان يتم تضمين قانون الاوقاف نصا يقرر وجوب تدخل النيابة العامة في دعاوي الاوقاف مثلما هو مقرر في قوانين غالبية الدول.

الوجه الثاني : شروط الوقف وعلاقتها بدعوى ابطال الوقف :

  استند الحكم محل تعليقنا الى ان شروط الواقف كانت متوفرة حينما صدر الوقف من الواقف، كما ان المدعين يبطلان الوقف قد ادعوا بعدم توفر شروط الوقف في الواقف وانه كان مجنوناً ؛وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي ان الواقف كان يعاني من امراض نفسية وعصبية، وهذا الامر يستدعي الاشارة بإيجاز الى شروط الواقف لاسيما ما يتعلق بجنون الواقف من عدمه، فقد حدد قانون الوقف في المادة (12) شروط الواقف حيث نصت هذه المادة على انه (يشترط في الواقف ان يكون مكلفاً ومختاراً ومطلق التصرف وان يكون مالكاً للمال المراد وقفه وان لا يكون مديناً بدين سابق على الوقف مستغرق لجميع ماله أولا يفي ما تبقى من ماله بعد الوقف لسداده) ومن خلال استقراء هذا النص نجد انه قد اشترط في الواقف ان يكون مكلفاً والمقصود بذلك التكليف الشرعي والقانوني ومعنى ذلك ان يكون بالغاً عاقلاً رشيداً فلا يكون مجنوناً او سفيها او معتوهاً أو مغفلاً وعند مطالعة القضية التي تناولها الحكم لم يتحقق في الواقف أي وصف من تلك الاوصاف التي تتنافى مع شرط التكليف، كما ان النص القانوني السابق قد اشترط ان يكون الواقف مطلق التصرف أي غير محجور من التصرف لجنون او سفه أو عته او غفلة، وعند النظر في الحكم محل تعليقنا يظهر لنا ان الواقف كان مطلق التصرف فلم يكن هناك أي حجر عليه أو منع من التصرف فلو كان الواقف مجنوناً او معتوهاً حسبما زعم اولاد المدعون لقاموا بالحجر عليه ومنعه من التصرف في اثناء حياته وفقاً لاحكام الحجر على فاقد الأهلية أو ناقصها المقررة في القانون المدني.

الوجه الثالث : الاصل صحة وسلامة الوقفية وتوصيتنا لوزارة الأوقاف :

قرر قانون الوقف هذه القاعدة وهي ( الاصل صحة الوقف) وذلك في المادة (31) وقف التي نصت على انه (اذا تم الوقف مستوفياً اركانه وشروطه على النحو المبين في الفصلين المتقدمين فهو صحيح وتترتب عليه جميع اثاره المبينة في القانون مع مراعاة ماهو منصوص عليه في المواد الاتية) ومع ان هذا النص قد قرر هذه القاعدة إلا ان اضعفها وعطلها حسبما ورد في صيغة النص السابق ذكره ؛فبموجب صيغة النص فان هذه القاعدة قاصرة وضعيفة حيث جعلها النص السابق اقل شمولية من قاعدة (الاصل في العقود الصحة) المقررة في القانون المدني ، ولذلك نوصي وزارة الاوقاف بإعادة صياغة المادة بما يكفل تحقيق قاعدة (الاصل في الوقف الصحة) بما يتناسب مع خصوصية الوقف باعتبار الوقف عند غالبية الفقهاء تصرف بإرادة منفردة وليس عقداً، وإضافة الى اعادة صياغة النص القانوني السالف ذكره فانا نوصي وزارة الاوقاف باستحداث مادة تلي المادة السابقة (31) وقف تنص على عدم جواز الادعاء ببطلان الوقفية بعد مضي مدة معينة على صدور او تحرير الوقفية على ان تتناسب هذه المدة مع طبيعة الوقف وخصوصيته حتى لا يظل الباب مشرعاً أمام خصوم الوقف للادعاء ببطلان الوقفيات مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل.تعليقنا خاصة ان القانون المدني قد نص في المادة (200) على انه لا يجوز سماع الدعوى بطلب ابطال عقد بسبب البطلان بعد مضي ثلاث سنوات وكذا قررت المادة (202) مدني على انه اذا ام  يتمسك احد ببطلان العقد الباطل اصلاً لمدة خمسة عشرين سنة فلا تسمع الدعوى ببطلانه؛ حيث قرر القانون المدني  ذلك حماية للعقود والمراكز القانونية وتحقيقاً لقاعدة (الاصل في العقود الصحة) في حين لم يحقق قانون الوقف الحماية اللازمة للوقفيات عن طريق قاعدة (الاصل في الوقف الصحة) على النحو السابق بيانه.

الوجه الرابع : وثيقة الوقف (الوقفية) المعاصرة وحجيتها وتوصيتناللأوقاف:

مربع نص: الأسعدي للطباعة عن بعد / ت 772877717يقرر قانون الوقف في المادة (87) ان العبرة بما هو ثابت في دفتر حصر الاوقاف (المسودة) وهذا النص يعالج الوقفيات القديمة؛اما الوقفيات التي تتم في العصر الحاضر فهي عرضة لدعاوى البطلان مثل حصل في الحكم محل تعليقنا، ولذلك نوصي بان يتم تضمين قانون الوقف نص قانوني يقرر ان لهذه الوقفيات حجيتها المطلقة، كما نوصي بان يتم توثيق الوقفيات المعاصرة حتى تكون محررات رسمية لها حجيتها المطلقة في مواجهة الكافة، حيث انه من الملاحظ ان قانون الوقف قد اشار في المواد (5 و 6 و 7 و 8) الى كيفية انشاء الوقف في العصر الحاضر حيث اشترط القانون صدور الايجاب من الواقف ولكنه لا يشترط القبول من الوقف واشترط القانون الاشهاد على الوقف اذا لم يكن بخط الواقف؛ ولكن هذه النصوص المنقولة من كتب الفقه الاسلامي لم تتناول صيغة الوقف (الوقفية) في العصر الحاضر واجراءاتها وغير ذلك ؛ وهذا ما يؤخذ على قانون الوقف، والله اعلم.