جريمة إنكار العارية

 

جريمة إنكار العارية

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

العارية عقد من عقود الامانة ولذلك فقد أدرج قانون الجرائم والعقوبات جريمة إنكار العارية أو جحد العارية ضمن جرائم خيانة الأمانة، فالعارية من أكثر التصرفات التي تتم في الواقع العملي لكثرة احتياج الناس لها ،وتطبيق جريمة خيانة الأمانة في نطاق العارية يحتاج إلى توعية ولفت الانظار اليه، ولذلك اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/5/2010م في الطعن الجزائي رقم (37214) لسنة 1430هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن النيابة قدمت احد الاشخاص إلى المحكمة الابتدائية بتهمة استلامه لهاتف المجني عليه على سبيل العارية لإجراء مكالمة به وإعادته إلا أن المتهم  بعد ذلك قام بضم الهاتف إلى ملكه ورفض إعادته إلى مالكه الأمر المعاقب عليه بمقتضى المادتين (17 و 318) عقوبات وأمام المحكمة الابتدائية أقر المتهم بأن الهاتف لا زال بعهدته ولكنه قال أنه موجود لديه على سبيل الرهن، وبعد إجراءات المحاكمة توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم (بمعاقبة المتهم بالحبس مدة ثلاثة أشهر تأديباً له وتعزيرًا بالحق العام والزامه بإعادة هاتف المجني عليه ودفع خمسين الف ريال للمجني عليه مصاريف تقاضي)، فلم يقبل المتهم بالحكم الاستئنافي فقام باستئنافه إلا أن الشعبة الجزائية رفضت الاستئناف وقضت بتأييد الحكم الابتدائي، فلم يقنع المتهم بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض، فرفضت الدائرة الجزائية الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا ( اما في الموضوع فقد تضمن الطعن المجادلة لمحكمتي الموضوع في حقيقة الوقائع التي اقتنعتا بثبوتها بعد منقاشاتهما لتلك الوقائع وادلة الاثبات وفقا  لما تم ذكره أمام محكمتي الموضوع، وذلك من ضمن السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع وفقا للقانون، أما  ما ذكره الطاعن في عريضة طعنه بأن كل الحقائق والوقائع والادلة توضح وتؤكد أن الهاتف المملوك للمطعون ضده كان مودعا لدى الطاعن كرهن بالنقود التي بذمة المطعون ضده للطاعن وأن الطاعن لم يكن مؤتمنا على الهاتف ، فأن الدائرة تجد أن الطاعن لم يقدم الادلة على ذلك ،وقد ناقشت محكمة الموضوع ذلك في أسباب حكمها وذكرت أن الطاعن لم يقدم الدليل المؤيد لما أدعى به من رهن وأن كل ما قدمه الطاعن هو عبارة عن محررات لا صلة للمطعون ضده بها) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : جحد العارية أو إنكارها في الفقه الاسلامي :

يذهب غالبية الفقه الاسلامي إلى أن جحد العارية وخيانة الأمانة تكون من قبيل السرقة التعزيرية لان السرقة الحدية لا تقع إلا خفية وبغير رضاء وموافقة مالك المال أما العارية وما في حكمها من جرائم خيانة الامانة فلاتتم خفية فتتم بتسليم من مالك المال وبرضاه وموافقته ولذلك فان هذه الجرائم من قبيل السرقة التعزيرية  لتخلف ركن الخفية ، أما إبن حزم وجماعة من الفقهاء فيذهبون إلى أن إنكار العارية وما شابهها من جرائم خيانة الامانة لاتكون سرقة تعزيرية  وانما تكون حداً مستقلاً يعاقب فاعله بقطع يده اليمنى باعتبار جحد العارية حدا مستقلاً عن السرقة وإن كانت عقوبته هي القطع مثل السرقة، وحجة هؤلاء حديث المخزومية ( وايم والله لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها) فالثابت أن المخزومية كانت قد استلمت عارية فلم تسرق، وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن  جحد العارية حد وان عقوبته هي قطع اليد، واستدل هؤلاء بادلة اخرى مفادها أن جاحد العارية اخطر من السارق  وجرمه أعظم ، فالسارق يقوم بفعله خفية وعلى خوف واستحياء بخلاف جاحد العارية وما في حكمه الذي يقوم بفعله مجاهرة ومن دون خوف أو خجل ويزيد على السارق بانه يترتب على فعله تعطيل فضائل ندبت اليها الشريعة مثل منع العارية التي بقوله تعالى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) } [سورة الماعون] ، ومثل ذلك القرض الحسن في قوله تعالى(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [245 سورة البقرة] فجحد العارية وغيره سبب في امتناع الناس عن القيام بتلك  الفضائل خشية أن ان يتم جحدها ، ولذلك اضاف إبن حزم  جحد العارية إلى الحدود بدلاً عن البغي لان البغي من وجهة نظر حزم  ليس حداً وإنما أمر من الله بمدافعة البغاة حتى ينتهوا عن البغي بقوله تعالى { حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [(9) سورة الحجرات] ، (المحلى 9/137).

الوجه الثاني : إنكار العارية في القانون وتوصيتنا:

تنص المادة (318) عقوبات التي استند اليها الحكم محل تعليقنا تنص على أن (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات من ضم إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم اليه بأي وجه من الوجوه) ومن خلال مطالعة هذا النص وتحديداً عبارة (سلم اليه بأي وجه من الوجوه) نجد أن إنكار العارية أو جحدها يندرج ضمن أفعال جريمة خيانة الأمانة، لان المال المعار يتم تسليمه من قبل مالكه المعير إلى المستعير بناءً على طلب المستعير وبموافقة المالك المعير، وبعد التسليم ينكر المستعير أو يرفض إعادة المال المعار الى مالكه ، ولذلك نجد الحكم محل تعليقنا قد استند إلى المادة (318) عقوبات معتبراً إنكار العارية من افعال خيانة أمانة، وبناء على ذلك قضى الحكم بمعاقبة المتهم بالسجن ثلاثة أشهر لان الحد الاقصى للعقوبة هو الحبس ثلاث سنوات باعتبار جريمة خيانة الأمانة من الجرائم غير الجسيمة التي يعاقب عليها  القانون بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات او الغرامة حسبما ورد في المادة (17) عقوبات، لذلك نلاحظ ان هذه العقوبة رادعة،ولذلك نلاحظ كثرة وقوع جرائم خيانة الامانة في الواقع العملي اذا اردنا ان نحدث نهضة اقثصادية في البلاد فلابد من حماية الاموال،لان النشاط الاقتصادي والاستثماري  يتم غالبا عن طريق عقود الامانة كيف اهتم الفقه الاسلامي وتشدد في عقوبة خائن الامانة لانه كان يدرك اهميتها ودورها في النشاط الاقتصادي، ولذلك فاننا نوصي المقنن اليمني باعادة النظر ف عقوبة جرائم خيانة الامانة.

الوجه الثالث : المقصود بالضم إلى ملك المتهم :

نصت المادة (318) عقوبات السابق ذكرها على أن الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة بما فيها إنكار العارية يتحقق بضم الجاني للمال الذي استلمه بأي وجه إلى ملك الجاني، ويتحقق الضم بظهور الجاني بمظهر المالك للمال المعار كأن يدعي ملكيته صراحة أو ضمناً او يرفض اعادة المال المعار إلى مالكه رغم تكرار مطالبة المالك بماله، ولكن اذا ادعى المتهم  ملكيته للمال المعار فان الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة لا يتحقق اذا قام المتهم بخيانة الامانة بتقديم الادلة القاطعة بان المال المعار أو مافي حكمه هو ملكه ، ويدخل في معنى ضم المال الى ملك الجاني اذا قام الجاني بتبديد المال أو تصرف به إلى الغير بيعًا وتأجيراً وغيره، لان هذه التصرفات لا يباشرها أصلاً الا المالك للمال المعار أو مافي حكمه فيكون تصرف المتهم في المال المعار إلى الغير دليل على أنه قد ضم المال إلى ملكه وتصرف فيه تصرف المالك للمال.

الوجه الرابع : جريمة خيانة الأمانة وتأثيرها على النشاط الاستثماري والاقتصادي في البلاد  :

من خلال استقراء نص المادة (318) عقوبات السابق ذكرها التي بينت جريمة وعقوبة خيانة الأمانة والتي قررت أن من قام بضم المال المسلم اليه بأي وجه من الوجوه يعد مرتكباً لجريمة خيانة الأمانة ،فمن خلال ذلك يظهر أن هدف عقوبة خيانة الامانة هي حماية الأموال المسلمة الى الافراد بأي وجه من أوجه التسليم سواء تم تسليمها للجاني أمانة يحفظها أو لاستثمار المال أو على سبيل الشراكة أو العارية أو الاجارة أو غيرها طالما وان الاموال قد انتقلت الى الافراد عن طريق  التسليم  فقام المستلم بضم المال الى ملكه، ومع أهمية تسليم الاموال وعقود الامانة التي تحميها هذه العقوبة في النشاط الاقتصادي والاستثماري في البلاد إلا أن جريمة وعقوبة خيانة الأمانة عاجزة عن حماية الأموال التي يتم تسليمها الى الافراد لا سيما وقد ذكرنا أن قانون الجرائم والعقوبات قد قرر أن جريمة خيانة الأمانة غير جسيمة، ولذلك نجد غالبية الاشخاص يحجمون عن تسليم أموالهم للغير لاستثمارها أو للمشاركة فيها أو حتى على سبيل العارية والاجارة، ولذلك فقد سبقت التوصية من قبلنا للمقنن اليمني بإعادة النظر في المادة (318) لتقرير العقوبة المناسبة التي تكفل بث الاطمئنان في نفوس اصحاب الأموال المستثمرين حتى يسلموها إلى من يقوم بتشغيلها وادارتها ويستفيد منها ملاكها والمجتمع، والله اعلم.