التزوير في التقرير الطبي
أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
ثقافة المغالطة
والفساد تحتاج إلى تغيير والتغيير لا يكون راشداً وفاعلاً إلا إذا تم كشف مكامن
الفساد والمغالطة ومظاهر ذلك وبواعثه حتى يكون
متخذ القرار على بينة من أمره، لأن المجتمع اليمني يحتاج حاجة ماسة إلى بعث
الوعي الإجتماعي المكافح للفساد والنابذ لسلوك المغالطة والتذاكي والشطارة التي
تحفز وتشجع المغالطين والمتهبشين والساعين لأكل الأموال بالباطل، ومن مظاهر الفساد
والمغالطة الكذب والتزوير للحصول على أموال الدولة والناس بالباطل ، وعلى هذا
الأساس اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في
جلستها المنعقدة بتاريخ 29/1/2011م في الطعن الجزائي رقم (40130) لسنة 1431ه
وتتلخص وقائع القضية التي تناولها
هذا الحكم ان عراكا وقع بين شخصين فقام
احدهما بضرب الاخر في يده فتم ضبطهما واحالتهما
إلى النيابة التي احالت المصاب إلى المستشفى الحكومي للكشف على الإصابة
التي بيده وعند الكشف على المذكور في المستشفى اتضح أن يد المذكور سليمة فاصدر
المستشفى تقريرا مفاده ان يد المصاب سليمة وتم تسليم التقرير الطبي الى المصاب نفسه فقام المذكور بتعديل كلمة
(سليمة ) إلى؛( مكسورة ) وبعد الانتهاء من التحقيق قامت النيابة بإحالة القضية إلى
المحكمة الإبتدائية التي حكمت للمجني عليه بأرش الناقلة على اساس ان يده مكسورة
بفعل الجاني عليه بموجب التقرير الطبي المزور دون أن تعلم المحكمة بالتزوير، ولأن
الجاني والمجني عليه أقارب فقد تأكد للجاني أن يد المجني عليه سليمة فقد قام بالرجوع إلى المستشفى الحكومي لمعرفة حقيقة اصابة يد ابن عمه فتأكد له أن إفادة المستشفى في
التقرير الطبي كانت أن يد المجني عليه (سليمة) وليست (مكسورة) فقام الجاني
بإستئناف الحكم الإبتدائي على أساس أنه حكم للمجني عليه بأرش بحسب ما ورد في
التقرير المزور فقبلت محكمة الإستئناف طعن الجاني وحكمت بتعديل الأرش وإنقاصه إلى
أرش الجناية الفعلية في يد المجني عليه بالإضافة إلى إحالة المتهم بتزوير التقرير إلى النيابة العامة
للتحقيق معه في واقعة التزوير ، وقد جاء ضمن أسباب الحكم الإستئنافي ( يتضح جلياً
أن المجني عليه قام بتعديل كلمة سليمة بالكمبيوتر إلى كلمة (مكسورة) وذلك لإيهام
المحكمة بأن هناك كسراً في يده حسبما جاء في أقواله في محضر جمع الإستدلالات وكذا
في النيابة والمحكمة مع العلم أن التعديل او التزوير واضح ويدل علپه ما جاء في إفادة المستشفى
أخيراً، وحيث أن المجني عليه لا يستحق سوى ما جاء في الفقرتين الأولى والثانية من
التقرير الطبي ولا يستحق أي أغرام كون الإصابات لا تستحق ذلك) فقام المجني عليه
بالطعن بالنقض في الحكم الإستئنافي، وقد تضمن طعنه أن الحكم الإستئنافي قضى بتزوير
التقرير الطبي من غير ان تتم إحالة
التقرير الطبي المدعى بتزويره إلى المعمل
الجنائي لمعرفة ما اذا إن كان هنالك تزوير من عدمه، إلا أن المحكمة العليا رفضت
طعنه وأقرت الحكم الإستئنافي ، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا ( أما في
الموضوع: فإن ما نعى به الطاعن على الحكم الإستئنافي الخطأ في تطبيق القانون حينما
قضى بتزوير القرار الطبي دون الرجوع إلى الجهة المختصة...الخ، والدائرة تجد أن ما
أثاره الطاعن لا يعدو عن كونه جدلاً في الموضوع ؛ فنقاش الأدلة تختص به محكمة
الموضوع فلا معقب عليها طالما وكان لها أساسها الثابت في الأوراق ولها سند من
القانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب
ما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: القرارات الطبية والتلاعب في تحديد الجنايات والإصابات الموجبة للأرش:
أروش الجنايات
والإصابات التي تلحق بالمصابين اوالمجني عليهم وتقدير تكاليف العلاج تصل في أحيان
كثيرة إلى أضعاف دية العمد ؛ولذلك يعمد بعض الأشخاص إلى التلاعب في تحديد الإصابات
في التقارير التي يتم الإعتماد عليها في تقدير مبالغ الأرش وتكاليف العلاج والتويض
؛ وهذا التلاعب يؤدي إلى تفاوت أروش الجنايات بين شخص وآخر بحسب شطارة المجني عليه
في التلاعب، علماً بأن علما الشريعة
والقانون يقررون أن الأرش عقوبة يجب أن
تكون متساوية بين الأشخاص بحسب تساوي الجنايات الموجبة للأرش، إضافة إلى أن هذا
التلاعب يثير نزاعات بين الجاني والمجني عليه مثلما حصل في القضية التي تناولها
الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثاني: أسباب التلاعب في نتائج التقارير الطبية وتوصياتنا في هذا الشأن:
من خلال مطالعة الحكم
محل تعليقنا نجد أن المجني عليه المصاب قد تلاعب في نتيجة التقرير الطبي عن طريق
التزوير المادي ، حيث قام بتعديل كلمة (سليمة) إلى( مكسورة) عن طريق
الكمبيوتر(الإسكنار) وهذا يعني أن المجني عليه قد قام بنفسه بمتابعة الإجراءات
اللازمة لإستخراج التقرير الطبي وقام بنفسه بتسليم التقرير إلى النيابة بعد أن قام
بتزويره، وعلى هذا فإن تسليم الأشخاص أنفسهم مذكرات طلب التقارير الطبية والسماح
لهم بمتابعة اجراءات اعداد التقارير بأنفسهم وتسليمهم التقارير حيث يقوم بعضهم
بالتزوير في التقارير بعد استلامهم لها وبعض الأشخاص يقوم بالتلاعب بالنتائج عن
طريق الإتصال والتفاهم مع المعنيين بإعداد تلك التقارير، ولذلك نوصي بعدم السماح
للأشخاص بمتابعة إجراءات اعداد واستخراج التقارير الطبية وأن تتولى النيابة العامة
ذلك بذاتها. كما أن هناك سبباً آخراً للتلاعب بنتائج التقارير وهو استخراج التقارير
الطبية من المستشفيات والمستوصفات الخاصة والأهلية حيث يسهل الإتصال والتفاهم مع
المعنيين فيها الذين يتولون إعداد تلك التقارير إضافة إلى أن تلك التقارير غير
رسمية ، ولذلك نلاحظ في الحكم محل تعليقنا أنه تم إحالة المجني عليه للفحص عليه
وإعداد التقرير من قبل المستشفى الحكومي ، وفي هذا الشأن نوصي بعدم إحالة اعداد
التقارير الطبية إلى المستشفيات والمستوصفات الأهلية.
وهناك سبب آخر
للتلاعب في نتائج التقارير الطبية وهو إعدادها والتوقيع عليها من قبل شخص واحد
يكون تقريره بمثابة شهادة شاهد واحد في جنايات الدية والأرش التي يجب تحديدها عن طريق لجنة طبية
تتكون من ثلاثة مختصين على الأقل حتى يؤمن عدم التلاعب في نتائج التقارير
الطبية؛ كم اننا نوصي بسرعة انشاء هيئة الطب العدلي التابعة لوزارة العدل.
الوجه الثالث : قضاء الحكم الإستئنافي بتزوير التقرير الطبي من غير تحقيق أو دعوى جزائية :
من خلال مطالعة الحكم
الإستئنافي في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد بأنه قد حكم بأن التقرير
الطبي مزور لأن التزوير المادي فيه كان
ظاهراً في التقرير .وحسبمإ ورد في افادة المستشفى الحكومي، ومن وجهة نظرنا فإن
الحكم الإستئنافي لم يكن موفقا في هذه
المسالة ً حيث كان ينبغي عند اكتشاف واقعة التزوير المادي في التقرير أن يتم إحالة
المحرر والمتهم بالتزوير إلى النيابة العامة للتحقيق في الواقعة والتصرف فيها
بموجب القانون وإحالة المتهم إلى المحكمة الجزائية للحكم أولاً في واقعة التزوير
وفي ضوء ذلك يتم الحكم بالأرش، والله ااعلم.