دورالاختصاص القيمي في إطالة إجراءات التقاضي
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
إطالة إجراءات
التقاضي في اليمن سلوك وممارسة يتبعها الجميع المتقاضون والقضاة والإدارة القضائية
والقانون ذاته. حيث يتم تجاوز قواعد الطعون والاختصاص القيمي كما ان قانون حدد
مبالغ تافهة وهي التي قرر القانون عدم جواز استئناف الاحكام التي تحكم بها فصار
باب الاستئناف مفتوحا على مصراعيه فتراكمت القضايا لدى محاكم الاستئناف وطالت اجراءات التقاضي، واضافة الى تساهل
القانون في هذا الشان فانه في حالات كثيرة يتم تجاوز الاختصاص القيمي. ولا ريب أن
الباعث على تجاوز الاختصاص القيمي واستئناف الأحكام التي لايجوز استئنافها هو
اللدد في الخصومة ولكن في الغالب ان سبب ذلك يرجع إلى قلة الوعي بهذا الموضوع كما
انه من المناسب تقديم التوصية للمعنين
باعادة النظر في المبالغ المحكوم بها التي لايجوز
استئناف احكامها ، ولذلك اخترنا
التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 12/1/2010 في الطعن المدني رقم (37891) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم في ان رجلاً قام بشراء موضع زراعي بمبلغ ثمانين الف ريال
فقام الجار المجاور للأرض المشتراة بطلب الشفعة في الميعاد المحدد ثم قام برفع
دعوى الشفعة امام المحكمة المختصة طلب فيها الشفعة من المشتري لذلك الموضع على
أساس ان أرضه تجاور الأرض المشتراة وان ارضه تشترك مع تلك الأرض بالمسقى والطريق
وأنه مستأجر للأرض المشتراه هو ووالده من قبله .وقد قامت المحكمة الابتدائية
بمعاينة الأرض المشتراه المشفوعة حيث وجدت المحكمة أن الأرض المشفوعة مجاورة لأرض
الشفيع وأن مسقاهما واحد حيث ينزل السيل اليهما من المنحدر الجبلي المطل عليهما،
فحكمت المحكمة الابتدائية بقبول دعوى الشفعة وإلزام المدعى عليه بتسليم أصل بصيرة
شرائه للموضع محل الشفعة إلى الشفيع بعد تعطيلها بما يفيد انتقالها إلى الشفيع
وعلى الشفيع تسليم مثل الثمن قدراً وجنسا بحسب ما هو ثابت في بصيرة المشتري وهو
ثمانون الف ريال، فلم يقبل المحكوم عليه بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه حيث قام
المدعي المحكوم عليه بالدفع أمام الشعبة الاستئنافية بعدم قبول الاستئناف لان قيمة
المحكوم به اقل من النصاب القيمي المحدد في القانون لان قيمة الارض ثمانون الف
ريال وهذا المبلغ يقل عن النصاب القيمي وهو ما يزيد عن مبلغ مائتين الف ريال .وتبعاً لذلك فلا يجوز قبول الاستئناف
إلا أن محكمة الاستئناف قضت بقبول الاستئناف والغاء الحكم الابتدائي وإلزام الشفيع
المدعي بدفع مصاريف التقاضي مبلغ خمسين الف ريال وقنوعه عن طلب الشفعة، وقد ورد في
أسباب الحكم الاستئنافي أنه من خلال الرجوع إلى محضر المعاينة الذي اجرتها المحكمة
الابتدائية فقد ظهر عدم وجود سبب الشفعة لا في المال ولا في الطريق ولا في المسقى،
فقام المدعي الشفيع بالطعن في الحكم الاستئنافي بالنقض، فقبلت الدائرة المدنية
الطعن بالنقض ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد في اسباب حكم المحكمة العليا (وحيث
ان الطاعن يعيب على الحكم المطعون فيه عدم مناقشة الدفع المقدم من قبله بعدم جواز
استئناف الحكم الابتدائي لعدم بلوغ قيمة المحكوم فيه النصاب القانوني للاستئناف
المحدد في المادة (86) مرافعات لان قيمة محل الشفعة هو ثمانون الف ريال حسبما
تحكيه بصيرة شراء المطعون ضده المدعى عليه المحررة بتاريخ ... الا ان الحكم
المطعون فيه لم يناقش هذا الدفع او برد عليه. وحيث أن الدفع بالاختصاص القيمي من
الدفوع المتعلقةبالنظام العام التي يجوز ابداؤه في اية مرحلة من مراحل الخصومة ولو
أمام المحكمة العليا وعلى المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها بحكم مستقل قبل الفصل
في الموضوع حسبما ورد في المادة (185) مرافعات، وحيث ان عدم مناقشة وسائل الدفاع
الجوهرية والرد عليها يعد قصورا في التسبيب يجعل الحكم باطلاً وفقاً للمادة (231)
مرافعات)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب الأوجه الأتية :
الوجه الأول : الاختصاص القيمي في قانون المرافعات :
الاختصاص القيمي هو
جعل قيمة الدعوى اساس اختصاص المحكمة وفي هذا الشان حددت المادة (86) مرافعات
الاختصاص القيمي حيث نصت المادة (86) مرافعات على ان (يكون
الحكم الابتدائي غير قابل للاستئناف في الاحوال الأتية : 1- اذا كان المحكوم به لا
يتجاوز مائتي الف ريال في المسائل المدنية -2- اذا كان المحكوم به لا يتجاوز
خمسمائة الف ريال في المسائل التجارية -3- اذا كان المحكوم به نفقة للزوجة لا
يتجاوز عشرة الاف ريال -4- اذا كان المحكوم به نفقة للصغير لا يتجاوز ستة الآف
ريال مالم يكن النزاع بشأن النفقة متعلقاً بسبب استحقاقها فيجوز استئناف الحكم
الصادر فيه).ومن خلال استقراء هذا النص نجد ان المبالغ التي تضمنها هذا النص تافهة
جدا لاتساوي شيئا فلاتتناسب مع القوة الشرائية للريال لاسيما في الوقت الحاضر.
الوجه الثاني : الغرض من تحديد مبالغ الاختصاص القيمي :
الغرض من تحديد
الاختصاص القيمي وعدم جواز استئناف بعض الاحكام اذا كان قيمة الشيء المحكوم به تقل
عن مبلغ معين الهدف من ذلك هو قطع الطريق على مدمني المشارعة واطالة النزاع واللدد
في الخصومة لأن الباعث على استئناف هذه الاحكام لايكون الوصول او الحصول على حق
ولكن باعثهم على ذلك اللدد والخصومة والكيد وإطالة إجراءات التقاضي وزيادة اعداد
القضايا المنظورة أمام محاكم الاستئناف لان محاكم الاستئناف أقل عدداً من المحاكم
الابتدائية واللجان والهيئات ذات الطابع القضائي (لجان حكمية/ مراكز تحكيم/ لجان
ضريبية ...الخ) فضلاً عن ان عدد قضاة محاكم الاستئناف أقل عددا من قضاة المحاكم
الابتدائية وما في حكمها، فلو جاز استئناف أي حكم ابتدائي أمام محكمة الاستئناف
لتعطلت اعمال محاكم الاستئناف ولأدى ذلك إلى تعطيل العدالة وإطالة إجراءات
التقاضي، ولذلك تم تقرير الاختصاص القيمي بالنسبة للأحكام التي تقضي بمبالغ اقل من
النصاب لان هذه المبالغ زهيدة ولان الجهد والوقت والمال الذي يستهلك للنظر في هذه
القضايا أمام المحاكم الاستئنافية والمحكمة العليا أكثر بكثير من المبالغ المحكوم
بها في هذه القضايا، فحتى لو تضمنت الاحكام
في هذه الحالة بعض الاخطاء فضرر النظر فيها أمام محاكم الاستئناف والمحكمة
العليا أكبر من ضرر الاخطاء التي قد تتضمنها تلك الاحكام.
الوجه الثالث : دور الاختصاص القيمي في اصلاح القضاء :
حد قانون الرسوم
القضائية الى حد ما من التدفق الهائل
للدعاوى على المحاكم الابتدائية لكنه عاجز عن الحد من تدفق القضايا إلى المحاكم
الاستئنافية ومن ثم المحكمة العليا، فالمتبع في اليمن أن كل حكم لا بد من استئنافه
أو الطعن فيه .وهذه حقيقة لا نستطيع إنكارها وتبعاً لذلك فكل دعوى تدخل الى القضاء
من باب المحكمة الابتدائية تمر بكافة المراحل بما في ذلك مرحلة النقض أمام المحكمة
العليا مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا والتي قيمتها ثمانون
الف ريال تكبد المدعي فيها أكثر من مائتين وخمسين الف ريال ومثلها تكبدها المدعى
عليه وربما أن كلفة القضاء في هذه القضية أي تلك التي تكبدها مرفق القضاء قد وصلت
إلى مليون ونصف ريال لان الجهد والإجراءات التي يبذلها القضاء في الفصل في أية
قضية لا يختلف باختلاف قيمتها فالقضية التي قيمتها ريال أو مليار اجراءات نظرهما
اوالفصل فيهما وأحدة، كما أن العرف السائد في اليمن أنه لابد من أن تقطع القضية
كافة مراحل التقاضي حتى لو كان الحق قد ظهر لدى المحكمة الابتدائية، كما أن الباعث
على استئناف الأحكام في اليمن لا يكون معالجة أوجه القصور في الأحكام أو احقاق
الحقوق وانما الكيد واللدد وحب المشارعة .فقد وقفت شخصياً على قضايا كثيرة كانت
قيمتها المالية تافهةجدا وتكبد اطرافها ملايين الريالات لاجل تلك القضايا التافهة
القيمة، ولذلك فان ترشيد وتطوير وتسريع اعمال محاكم الاستئناف يستدعي التفكير
الجدي في رفع سقف المبالغ المحكوم بها
التي لا يجوز الطعن فيها، فالمتبع في العالم ان يتم تقدير مبالغ الاختصاص
القيمي على أساس متوسط الاتعاب المتوقع دفعها + مصاريف التقاضي + كلفة الجهد الذي
يبذله القضاء للفصل في القضية، فلم يعد من المقبول والمجدي القول بان النصاب في
القضايا المدنية مائتين الف ريال أو القضايا التجارية خمسمائة الف ريال!!! لان
الطعون الاستئنافية تصب الى الاستئناف من كل حدب وصوب وسوف تصبح محاكم الاستئناف
عاجزة عن اداء الوظيفة المناطة بها في تصويب اخطاء الاحكام الابتدائية واستدراك
أوجه القصور أو العيب فيها فلن يكون هناك وقتاً أمام محاكم الاستئناف ليس بسبب قلة
خبرة القضاة وانما بسبب كثرة القضايا المنظورة، والله اعلم.