عبء إثبات صحة المحرر عند إنكاره
أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
للاسف تسود في مجتمعنا المسلم ثقافة المغالطة
والشطارة والتذاكي؛ ومن مخرجات هذه الثقافة النكدة إنكار المحررات والسندات
الصحيحة ويتبعها إنكار التوقيعات والبصمات الصحيحةالنسبة الى اصحابها؛ وقد شجع هذه
الظاهرة السيئة تساهل القانون في مواجهتها، ولهذه الظاهرة مخاطرها على المتقاضين
وعلى القضاء وعلى المجتمع باسره، فهذه الظاهرة سبب في إطالة إجراءات التقاضي
وتعقيدها حيث توجد للدعوى الأصلية ذيولاً وتفريعات ، كما ان هذه الظاهرة واجهة من
اخطر واقذر واجهات التقاضي الكيدي كما انها دليل فاضح على السقوط الأخلاقي للشخص
الذي ينكر توقيعه او بصمته الصحيحين أو المحرر المتضمن تصرفه أو إقراره أو تصرفات
وإقرارات ابائه واجداده، والاهم من ذلك ان
انكار المحررات والتوقيعات والبصمات الصحيحة اثم عظيم يستعجل بها العبد
العاصي العقوبة في الدنيا قبل الاخرة كما
ذكر الامام المرتضى رحمه الله في البحر الزخار، ومن هذا المنطلق فقد اخترنا
التعليق الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 15/5/2011م في الطعن المدني رقم (43273) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم ان احد الأشخاص
ذهب الى منزل زوج ابنته بعد حدوث خلاف بين ابنته وزوجها فأخذ ابنته واخذ معها سلاح
زوجها بندقية كلاشنكوف ومائة واربعين الف ريال وحزام ابنته وبدلتها الذهبية ، وبعد
ذلك أصلح الله شان الزوجين فعادت الزوجة الى زوجها ولكن السلاح والنقود والذهب لم
يقم ابو الزوجة باعادته ، فاختلف الأب مع زوج ابنته بشان هذا الموضوع فتدخل أهل
الخير للاصلاح بينهما فالتزم الأب بإعادة تلك الاموال حيث قام احد الاشخاص بتحرير
وثيقة التزام الاب باعادة تلك الاموال الى زوج ابنته الا انه لم يف بالتزامه،
فتجدد الخلاف فيما بين الاب وزوج ابنته حتى قام زوج البنت بتقديم دعوى مدنية على
عمه أمام المحكمة المختصة التي واجهت الاب بالمحرر المتضمن التزامه فأنكر صدور ذلك
الالتزام او السند وانكر بصمته المثبتة
في ذيل وثيقة الالتزام فأحضر زوج البنت كاتب المحرر وشهود المحرر حيث شهدوا
بصحة الالتزام وان البصمة التي في ذيل المحرر هي بصمة الأب وحينها اصر الاب على
إحالة المحرر الى المعمل الجنائي لفحص البصمة والتأكد من نسبتها اليه ، فلم تستجب
المحكمة لطلبه بإحالة المحرر الى المعمل؛ صدر
حكم المحكمة الابتدائية الذي قضى (بالزام الاب باعادة المبلغ والآلي والحزام
والبدلة الذهب لزوج ابنته بموجب المحرر المشار اليه بالإضافة الى مبلغ عشرين الف
ريال مصاريف تقاضي) وقد ورد ضمن اسباب الحكم الابتدائي (ان المدعي ابرز أصل المحرر
الذي تضمن التزام المدعى عليه باعادة ما اخذ والمذيل بابهام المدعى عليه وشهود
المحرر حيث جاءت الشهادات مثبتة لصحة بصمة المدعى عليه في المحرر وحيث ثبت صدور المحرر أو السند من
المدعى عليه بالبينة الشرعية فيرفض طلبه إحالة المحرر الى المعمل الجنائي لمضاهاة
البصمة) فلم يقبل الأب المدعى عليه بالحكم الابتدائي، فقام باستئنافه الا ان الشعبة الاستئنافية رفضت استئنافه وقضت
بتأييد الحكم الابتدائي ، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (حيث ان المدعي قد
اثبت دعواه بالمحرر المتضمن التزام المدعى عليه باعادة ما قام باخذه من بيت المدعي فانه لا يسع الشعبة
الا تأييد الحكم الابتدائي)فلم يقتنع المدعى عليه بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن
فيه بالنقض متمسكاً بان المحكمتين الاستئنافية والابتدائية لم تستجيبا لطلبه باحالة المحرر محل النزاع الى المعمل الجنائي ؛
الا ان المحكمة العليا رفضت طعنه وأقرت الحكم الاستئنافي ، وقد ورد في اسباب حكم
المحكمة العليا ( حيث ان لمحكمة الموضوع ان تحكم بصحة المحرر المدعى بتزويره بما
يثبت لديها من البينات الشرعية فليست ملزمة بأخذ رأي الخبير متى اطمأنت الى البينة
الشرعية الدالة على صحة صدور المحرر المدعى بتزويره فالمادة (122) إثبات نصت على
انه اذا انكر الخصم صدور السند منه اوانكر توقيعه عليه كان للخصم المتمسك بالسند ان يثبت صدوره من
خصمه بالبينة الشرعية ويجوز اثبات صدور السند من الخصم عن طريق تحقيق
الخطوط بشهادة خبيرين فنيين عدلين أو اكثر، فمحكمة الموضوع بموجب ذلك النص لم تهمل
الفصل في طلب إحالة المحرر الى المعمل الجنائي وانما فصلت فيه برفضه لثبوت صحة
المحرر بالبينة الشرعية التي اطمأنت اليها محكمة الموضوع مما يجعل الجدل في عدم
صحة المحرر بمقولة عدم الأخذ بأدلة النفي جدلاً في الادلة التي تستقل محكمة
الموضوع بتقديرها دون معقب عليها من المحكمة العيا ما دامت قد اقامت قضاءها على اسباب سائغة تكفي لحمله) وسيكون
تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الاتية :
الوجه الأول : ظاهره إنكار المحررات في اليمن وضعف الحماية القانونية والقضائية :
من المظاهر اللاخلاقية واللاشرعية واللاقانونية
ان ينكر الشخص المحرر الذي يعلم صحته المتضمن اقراره أو تصرفه أو اقرارات أو
تصرفات ابائه واجداده، الا ان ذلك صار في العصر الحاضر شيئاً مألوفاً بسبب شيوع
ثقافة المغالطة والتدليس وتداخلها مع مفاهيم الشطارة والفهلوة وأكل أموال الناس
بالباطل، ففي الدول الكافرة الفاجرة مثل فرنسا من المستحيل ان ينكر الشخص المحرر
المتضمن اقراره او بصمته او توقيعه الا اذا كان مزوراً بالفعل لان المنكر للمحرر
غير المزور يكون عرضة لعقوبة قاسية كما انه يكون عرضة لامتناع المجتمع عن التعامل
معه وعدم وثوق المجتمع بتصرفاته والمحررات الصادرة فيكون منبوذاً في المجتمع، اما
في اليمن فان المنكر لتوقيعه وتصرفه أو تصرف ابيه اوجده فهو شاطر !!! ولو كان هذا
الانكار مخالفة صريحة للدين والقانون والاخلاق والمرؤة ، ولذلك ينبغي اذا توفرت الارادة لاصلاح القضاء فرض
عقوبة رادعة على المنكر للمحرر اذا ثبتت صحة المحرر لان قانون الاثبات جعل العقوبة
في هذه الحالة الف ريال حسبما ورد في المادة (127) إثبات!!!.
الوجه الثاني : ظاهرة إنكار البصمة والتوقيع في اليمن :
من ضمن مخرجات ثقافة المغالطة والشطارة
(علماً بان الشطارة في اللغة قطاع الطرق الشطار والعيارين) اتساع نطاق ظاهرة إنكار البصمة والتوقيع لان البصمة لا
تظهر الا في حدود 10% لاسباب كثيرة كما ان الامضاء لا يتطابق حتى ان الشخص اذا قام
بالتوقيع اكثر من مرة واحدة وفي وقت واحد تكون توقيعاته مختلفة غير متطابقة؛ فمطابقة التوقيعات مسألة نسبية ، ولذلك لاحظنا
ان المدعي الشاطر كان مصراً على انكار بصمته لانه كان متأكد تماماً ان البصمة
ستكون مجهولة اذا تم إحالة المحرر الى المعمل الجنائي.
الوجه الثالث : عبء إثبات المحرر عند إنكاره:
حددت المادة (122) إثبات الاجراءات الواجب
اتباعها عند انكار الشخص لبصمته أو المحرر المنسوب له حيث نصت على انه (اذا انكر
الخصم صدور السند منه وانكر توقيعه عليه أو انكر ذلك وارثه أو خلفه كان للخصم
المتمسك بالسند ان يثبت صدور السند منه بالبينة القانونية ويجوز اثبات صدورالسند من الخصم عن طريق تحقيق الخطوط بواسطة خبير فني أو اكثر)
ومن خلال مطالعة هذا النص نجد انه قد جعل عبء اثبات صحة المحرر ملقاة على عاتق
المتمسك بالسند الذي له ان يثبت صحة المحرر بأي وسيلة من وسائل الاثبات فالمتمسك
بالمستند أو المحرر هو الذي عليه اثبات صحة
المستند عند انكاره ومن حقه اختيار وسيلة الاثبات القانونية منوط بالمتمسك
بالمحرر أو السند وليس بخصمه فيحق للمتمسك بالمحرر ان يثبته بأنه وسيلة من وسائل
الاثبات القانونية فله ان يطلب الشهادة على صحة الخط وان الخط خط فلان وانه ثقة
وعدل وله ان يطالب بمظاهاة الخطوط لاثبات صحة الخط في المحرر لكاتبه وله ايضاً ان
يحضر الكاتب للشهادة على ان الخط هو خط
المنكر كما ان له ان يطلب احالة المحرر الى المعمل الجنائي ، ولذلك لاحظنا ان
الحكم محل تعليقنا قد رفض طلب المدعى عليه
بإحالة المحرر الى المعمل الجنائي لان المتمسك بالمحرر قد اختار اثباته
بالبينة الشرعية وقد تمكن من ذلك فلا سبيل لاحالة المحرر الى الخبرة (المعمل
الجنائي) في هذه الحالة ، علاوة على ان مقام المتمسك بالمحرر مقام المدعي الذي
يكون عليه عبء اثبات صحة ما انكره المدعى
عليه بهذا المستند أو المحرر؛ والله اعام.