الفرق بين النذر والهبة
أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
قرر قانون الاحوال الشخصية صراحة ان النذر من
التصرفات المشتبهة بالهبة لان النذر مع انه في الاصل قربة لله تعالى الا ان اغلب
تطبيقاته في اليمن تؤدي الاغراض والمجالات التي تتناولها الهبة ؛ ومع ان القانون قد قرر ان النذر من التصرفات
المشابهة للهبة الا ان هناك فروق جوهرية بينهما كما سنرى ؛ ولاريب ان التطبيقات المختلفة للنذر والهبة في اليمن تثير إشكاليات عدة لاسيما في مزى لزومهما وقابليتهما للرجوع عنهما أو قابليتهما لتصرف
الناذر او الواهب في المال المنذور او الموهوب بعد تمام الهبة او النذر ، والحكم محل تعليقنا مناقشة هذه المسأئل التي يتكرر حدوثها وتكثر الحاجة لها
ولذلك فقد اخترنا التعليق على هذا الحكم وهو الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة
العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 24/1/2012م في الطعن الشخصي رقم (43832) لسنة
1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان اخت نذرت لشقيقتها مساحة
عشرة امتار كي تبني لها منزلاً خاصاً بها
الا انه بعد وفاة الناذرة منع احد اقارب
الناذرة منع المنذور لها من البناء في تلك الارض
بذريعة ان الناذرة قد باعت له تلك الارض وعندما لم تفلح محاولات المنذور
لها قامت برفع دعوى امام المحكمة
الابتدائية المختصة على الشخص الذي ادعى
بان الناذرة قد باعت له تلك الارض بعد مضي
اكثر من عشرين سنة على النذر؛ وبعد ان
سارت المحكمة في اجراءاتها توصلت الى الحكم (بصحةوثيقة النذر من الناذرة سنة
1401هـ وبطلان الاستثناء منها لما نذرت به والمحرر سنه 1421هـ وبطلان بيع الناذرة
للمدعى عليه وإلزامه باطلاق المساحة المنذور بها للمدعية مع تسليمها عشرين الف
ريال مصاريف تقاضي) ، فلم يقبل المدعى عليه بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه وذكر
في طعنه ان المحكمة الابتدائية لم تفصل في دفوعه بعدم سماع الدعوى وانها حكمت بما
لم يطلبه الخصوم وان القاضي قد حكم بعلمه حينما ذكر في الحكم بان استرجاع الناذرة
للارض المنذورة كان بتحريض من المدعى عليه كما ان المحكمة استندت الى نص المادة
(213) احوال شخصية التي تم تعديلها بالقانون رقم (27) وهذا الاستناد يجعل الحكم
باطلاً إضافة الى ان المدعية تدعي بان التصرف هبة والهبة يجوز الرجوع عنها. ، وبعد
ان سارت الشعبة الاستئنافية في اجراءات نظر القضية خلصت الى الحكم بتأييد الحكم
الابتدائي وتحميل المستأنف المدعى عليه مصاريف التقاضي ، وقد ورد ضمن اسباب الحكم
الاستئنافي (فالمستأنف ينعي على الحكم الابتدائي بأنه قد خالف القانون لان التصرف
من الناذرة الى المدعية المنذور لها كان بصورة الهبة والواهبة قد رجعت عن الهبة
وذلك النعي مردود عليه على فرض ان التصرف
هبة فان الرجوع عن الهبة لا يكون الا في احدى الحالات الثلاث المنصوص عليها في
(196) احوال شخصية فلم يظهر للشعبة تحقق أي من تلك الحالات التي تجيز الرجوع عن
الهبة ولذلك فان بيع الناذرة للمستأنف باطلً مما يجعل نعي
المستأنف في غير محله ولا سند له من القانون فما حكمت به المحكمة الابتدائية من
بطلان البيع يعتبر من لوازم القضاء لا كما توهمه المستأنف بانه حكم بما لم يطلبه
الخصوم) فلم يقبل المستأنف بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض الا ان الدائرة الشخصية رفضت طعنه واقرت
الحكم الاستئنافي ، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا ( اما من حيث الموضوع
فقد ناقشت الدائرة ما اثاره الطاعن في عريضة طعنه فوجدت ان كل الاسباب تتعلق
بوقائع النزاع الداخلة في اختصاص محكمة الموضوع فلا تدخل ضمن الاسباب القانونية
للطعن بالنقض المنصوص عليها في المادة 292مرافعات اما ما اشار اليه الطاعن بشأن مناقشة
المحكمة بشأن الرجوع عن الهبة وفقاً لنص المادة (196) احوال شخصية فان الدائرة قد وجدت ان الحكم المطعون فيه قد
توصل الى نتيجة صحيحة بشأن عدم صحة الرجوع عن الهبة وفقاً لنص المادة المذكورة)
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الاتية :
الوجه الأول : النذر في قانون الأحوال الشخصية :
نظم قانون الأحوال الشخصية احكام النذر في
المواد (من 208 إلى 219) وخلاصة ذلك
ان النذر من تصرفات الإرادة المنفردة حيث يقع بإيجاب من الناذر من غير حاجة الى
قبول من المنذور له ، ويقع النذر بلفظه أو ما يدل عليه ويشترط في الناذر ان يكون
مكلفاً مختاراً مسلماً عند الوفاء بالنذر ؛ ويشترط في المال المنذور ان يكون
مملوكاً للناذر حال النذر ، ولا يجوز الرجوع في النذر وانما يبطل اذا رده المنذور
له ويضمن الناذر العين المنذور بها اذا تلفت بعد النذر بسبب منه مع حلول
الاجل وتحقق الشرط.
الوجه الثاني : الهبة في قانون الاحوال الشخصية :
نظم قانون الاحوال الشخصية الهبة في المواد
(من 168 إلى 202) وخلاصة ذلك ان الهبة عقد شرعي يتم بإيجاب من الواهب وقبول من
الموهوب ويشترط في الواهب ان يكون مكلفاً مختارا ومالكا للشيء الموهوب واذا مات
الموهوب له قبل قبول الهبة بطلت اما اذا مات بعد القبول قام ورثته مقامه في قبض
الموهوب ، وتجب المساواة في الهبة والمشتبهات بها كالهدية والنذر وذلك بين الاولاد
وبين الورثة بحسب الفريضة الشرعية ، واذا تمت الهبة وتوفرت فيها الشروط السابق ذكرها
يملك الموهوب له المال الموهوب ، وتكون الهبة للوارث ووارثه في حياته في حكم
الوصية الا فيما استهلكه الموهوب له في حياة الواهب؛ ووفقاً للمادة (196) احوال شخصية يجوز الرجوع في الهبة
الشرعية في الاحوال الاتية: 1- إن تكون الهبة تبرعية لغرض (مصلحة) ظاهر أو مضمر تدل عليه قرائن الحال وتعذر تحقيق الغرض 2- ان
يكون الواهب اباً أو اماً للموهوب له -3ان يكون للواهب عذر تحقق بعد الهبة بان اصبح
فقيراً او عاجزاً عن الكسب مالم يكن الموهوب له قد قبل).
الوجه الثالث : الفرق بين الهبة والنذر:
النذر من التصرفات المشابهة للهبة الا ان
هناك فروق عدة بينهما ، منها ان الهبة عقد والنذر تصرف بإرادة منفردة ، كما ان
النذر لا يجوز الرجوع فيه في حين يجوز للواهب ان يرجع في الهبة في الحالات السابق
ذكرها ، علاوة على ان النذر يكون فيه طابع القربة أو الصدقة بخلاف الهبة التي لا
يغلب عليها هذا الطابع ، وتنظيم القانون للهبة والنذر كل على حدة يدل على وجود
فروق بين احكامهما.
الوجه الرابع : تكييف القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا :
من خلال مطالعة وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان هناك خلاف بشان تكييف التصرف الذي صدر من الاخت لأختها غير الوارثة حيث ان المدعى عليه المحكوم عليه يدعي ان التصرف من قبيل الهبة التي يجوز للواهبة ان ترجع فيها قبل قبض الموهوب لها لاسيما ان الموهوب لها المحكوم لها لم تقبض الارض الموهوبة في اثناء حياة الواهبة في حين ان الحكم القضائي قد اعتمد على تكييف القضية على انها من قبيل النذر الذي لايشترط للزومه القبض والذي لا يجوز فيه الرجوع بل ان الحكم محل تعلقنا قد ذكر على سبيل الفرض على ان التصرف لو كان حتى هبة فلا يجوز الرجوع فيه لعدم انطباق حالات الرجوع عن الهبة على هذه القضية ، ومن وجهة نظرنا ان تكييف الحكم محل تعليقنا للتصرف على انه من قبيل النذر سديد لموافقته لاحكام النذر السابق ذكرها لان اللفظ والمعنى في النذرية يفيد النذر ، ومن المعلوم في فقه الشريعة والقانون ان الافراد لا يملكون الا احداث التصرف اما ترتيب الاثار الشرعية والقانونية فتتم بقوة الشرع والقانون ، فالناذرة عندما تلفظت بالنذر لشقيقتها وتم إثبات لفظها في وثيقة تصادق الطرفان المختلفان على صحة نسبة التصرف للناذرة في هذه الحالة يكون هذا التصرف نذر تترتب عليه الاثار والاحكام التي يحددها الشرع والقانون ومنها عدم جواز الرجوع فيها ، فلا يجوز العدول عن المصطلح الصريح والاسم للصحيح للتصرف بحجة تفسيره لانه لا يحتاج الى تفسير مثلما فسره المدعى عليه بانه من قبيل الهبة التي يجوز الرجوع فيها.
الوجه الخامس ابطال تصرف الناذرة في المنذور :
ذكرنا فيما سبق ان من الفروق بين النذر
والهبة ان النذر الصحيح لازم وبناءً على ذلك لايجوز للناذر الرجوع عن النذر سواء باستعادة المنذور لنفسه أو التصرف
فيه للغير عن طريق البيع والتأجير أو غيره لان النذر يخرج المال المنذور من ملكية
الناذر الى ملكية المنذور له فلا يجوز للناذر بعد تمام النذر ان يسترجع المنذور أو
يتصرف فيه بأي نوع من انواع التصرف اذ انه لم يعد مالكاً له، ولهذا لاحظنا الحكم
محل تعليقنا قد قضى بابطال بيع الناذرة
للمال المنذور بعد مضي عشرين سنة على النذر.
الوجه السادس : حالات الرجوع عن الهبة :
اشار الحكم الاستئنافي وحكم المحكمة العليا
الى انه على فرض ان التصرف كان من قبيل الهبة حسبما يدعي المحكوم عليه فان أي من
حالات الرجوع عن الهبة لم تتحقق واشار الحكم الى المادة (196) احوال شخصية التي
حددت حالات الرجوع في الهبة التبرعية حيث نصت هذه المادة على انه (لا يجوز الرجوع
في الهبة التبرعية الا في الاحوال الاتية:- 1- ان تكون الهبة التبرعية لغرض ظاهر
أو مضمر تدل عليه قرائن الحال وتعذر تحقيق الغرض 2- ان يكون الواهب اباً أو اماً
للموهوب له 3- ان يكون للواهب عذر تحقق بعد الهبة بان اصبح فقيراً او عاجزاً عن
الكسب مالم يكن الموهوب قد قبض الهبة قبل ذلك) وعند تطبيق هذه الحالات بالنسبة
للقضية التي تناولها الحكم نجد انه لا تنطبق
اية حالة من هذه الحالات على التصرف؛ فالناذرة نذرت مساحة الارض لغرض ان
تبني اختها منزلاً لها على تلك الارض والمنذور لها تريد بناء المنزل ولذلك لم
يتعذر هذا الغرض ، كما ان الناذرة ليست اماً او اباً حتى يجوز لها الرجوع كما ان
الناذرة لم يحدث لها عذر كالفقر أو العجز حتى ترجع عن نذرها وحتى ولو تحقق هذا
العذر فانه لا يجوز لها الرجوع لان المنذور لها كانت قد قبلت النذر، والله اعلم.