الأصل في العقود الصحة
أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين
الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
قاعدة الأصل في العقود الصحة قاعدة شرعية قانونية معتبرة مقررة لحماية العقود والتصرفات والأموال من الدعاوي الكيدية ومحاولات المتهبشين الذين ينتحلون المبررات والأعذار غير الشرعية للاعتداء على الأموال والابتزاز، وهذه ظاهرة شائعة في اليمن تهدد السلم الاجتماعي لاسيما في مجال الأراضي والعقارات حيث تتسبب في مفاسد وفتن عظيمة، حيث يقوم بعض الأشخاص بإثارة الشكوك في عقود قد تمت قبل عشرات السنين، وقد شاعت هذه الظاهرة مستغلة ثقافة الفساد والمغالطة الدخيلة على القيم الدينية والاجتماعية الساميةللمجتمع اليمني ؛ ولاشك ان التوعية بقاعدة الأصل في العقود الصحة وسيلة مهمة في مواجهة ومحاربة ثقافة الفساد والمغالطة وأكل أموال الناس بالباطل لاسيما بعد أن ارتفعت اسعار الأراضي والعقارات، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة التعليق على الحكم الصادر من الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/3/2011م في الطعن المدني رقم (41144) لسنة 1431ه ؛ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن امرأة كانت قد باعت الأراضي الزراعية التي ألت إليها من مؤرثها والدها باعتها إلى أحد الأشخاص الذي اشترى تلك الأرض والأراضي المجاورة لها وأقام عليها مزرعة حديثة وبعد مضي أكثر من خمس وأربعين سنة من ذلك البيع وبعد أن ماتت البائعة قامت ابتها برفع دعوى امام المحكمة ذكرت فيها أن امها لم تقم ببيع تلك الأرض وأن كاتب البصيرة قد قام مع المشتري بافتعال عقد بيع امها لتلك الارض فالكاتب لا يعرف البائعة ولاتعرفه البائعة فليس من أهل المنطقة وإنما كان يعمل كاتب في المحكمة وأن الشهود المذكورين في البصيرة الى عند الكاتب وانهم لايعرفون الكاتب وان البيع لم يتم فعلا، وقامت المدعية بإحضار أحد الشهود المذكوربن في البصيرة الذي شهد بأنه لا يعرف البائعة ولم يحضر تحرير البصيرة، وقد رد المشتري بأنه اشتري بعقد صحبح في حينه وقام بحيازة المبيع في حينه فلم يعترض عليه معترض منذ ذلك الحين حتى وقت تقديم الدعوى من المدعية، وقد خلصت محكمة أول درجة إلى الحكم بقبول الدعوى وإبطال بصيرة الشراء التي بيد المدعى عليه المؤرخة 1378ه وتحميل المدعى عليه الأتعاب والمخاسير؛ وقد جاء ضمن أسباب الحكم الابتدائي أن أقوال الشهود قاطعة في دلالتها على أن البيع لم يكن صحيحا إضافة إلى أن المدعى عليه قد رفض إجراء المسح للأرض لمعرفة المساحة والمساحة الزائدة، فلم يقبل المدعى عليه بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه أمام محكمة الاستئناف التي قبلت الطعن وقضت بإلغاء الحكم الابتدائي، وقد جاء ضمن أسباب الحكم الاستئنافي (فقد تبين أن الحكم الابتدائي غير سديد حيث أنه من الثابت أن البائعة قد تصرفت بما هو لها وهو الربع بموجب البصيرة المؤرخة 1378ه الثابتة بشهادة كاتبها كاتب المحكمة في ذلك الوقت والمؤيدة بثبوت المشتري على المبيع في حينه كما أنه قد ثبت أن الشاهد الذي حضر أمام محكمة أول درجة ليس هو الشاهد المذكور في البصيرة لان المذكور في البصيرة كان قد مات منذ مدة وانما اسمه مشابه لذلك المذكور في البصيرة كما من غير المعقول والمقبول القول بان المشتري قد قام بالاتيان بامرأة انتحلت شخصية البائعة ؛ فلم تقبل بنت البائعة بالحكم الاستئنافي فقامت بالطعن فيه بالنقض أمام المحكمة العليا التي رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي ؛ وقد جاء ضمن أسباب حكم المحكمة العليا أنه (من حيث الموضوع فقد وجدت الدائرة أن ما نعت به الطاعنة على الحكم الاستئنافي غير سديد لأن تسبيب ذلك الحكم في محله، إذ أنه من الثابت تمام التصرف من البائعة مؤرثة الطاعنة الى المطعون ضده بموجب بصيرة المشتري منها المؤرخة 1378ه مما لا سبيل معه للقول ببقاء ما كان على ما كان فالأصل في العقود الصحة) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية قاعدة الأصل في العقود الصحة:
لهذه القاعدة مسميات عدة أهمها الأصل في العقود الصحة والأصل في
الشروط الصحة واللزوم، ومعنى هذه القاعدة أن العقود تكون صحيحة وتكون نافذة ولازمة وتترتب عليها آثارها
بمجرد انعقادها ؛ وفي هذا المعنى قال القرافي (الأصل في العقود الصحة واللزوم لإن
العقد أنما شرع لتحصيل المقصود من المعقود عليه وتلبية الحاجات وتحصيل المقصود)
(الفروق 4/13) فالعقود لا يتم إبرامها ولا تستقر ولا يتم تنفيذها إلا إذا كانت
صحيحة؛ فالعقود تسبقها مفاوضات ومراجعات ودراسات واستعلامات فلا يتم تبرام العقد
والتعاقد إلا بعد استيفاء كافة أركان وشروط العقد والتأكد من سلامتها حيث يتم ذلك بنظر جماعة يؤمن تواطؤها أو تدليسها
لان العقود تبرم بحضور أطراف العقد وكاتبه وشهوده
بعد ان يتأكد هولاء جمبعا من صحة العقد وسلامته وتوفر أركانه وشروطه، ولذلك
يكون العقد صحيحا وسليما ولازما وملزما للمتعاقدين وخلفهم من بعدهم، وعند تطبيق
هذا المفهوم في الحكم محل تعليقنا نجد أنه لم يقبل دعوى المدعية بعدم صحة البيع الصادر
من امها قبل أكثر من خمس وأربعين سنة.
الوجه الثاني: أسانيد قاعدة الأصل في العقود الصحة:
تستند هذه القاعدة إلى أسانيد شرعية وقانونية كثيرة أهمها ما يأتي:
1- كراهة نقض العقود والتصرفات، فالنصوص الشرعية في هذا الباب
كثيرة منها قوله تعالى: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا).
2-التشكيك في العقود والتصرفات له مخاطر وآثار واسعة يمتد اثره إلى
التشكيك في قدرات ونزاهة المتعاقدين والكاتب والشهود مثلما حصل في القضية التي
تناولها الحكم ؛ فتجد بعض الابناء يشكك في ابيه او جده البائع الذي مات منذ مدة
فيقول عنه : انه عند البيع سكرانا او مجنونا او مغفلا اوسفيها او معتوها او على
يكذل على ابيه او جده عياذا بالله بدلا من يذكرهم بخير او يدعوا لهم ؛ فلا شك ان
هذه الامور محظورة شرعا وقانونا.
3-المحافظة على استقرار العقود يعني المحافظة على استقرار المجتمع
لأن العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع كله تقوم على اساس العقود من بيع وشراء
وهبة ووقف...... ألخ فغالب العلاقات الاجتماعية عبارة عن عقود تنظم التزامات وحقوق
وواجبات أفراد المجتمع فاذا استقرت استقر المجمتع واذا اختلت اختل المجتمع.
الوجه الثالث: موقف القانون اليمني من قاعدة الأصل في العقود الصحة:
اعتنق القانون اليمني هذه القاعدة وقررها في نصوص كثيرة سواء في
القانون المدني أو غيره، لعل من أهم هذه النصوص هو النص على هذه القاعدة في بداية القانون المدني ضمن
القواعد والأحكام العامة التي تحكم القانون المدني وغيره باعتبار القانون المدني
هو القانون الأساسي للعقود والتصرفات حيث نصت المادة (13) مدني على أن (العقد ملزم
للمتعاقدين والأصل في العقود والشروط الصحة حتى يثبت ما يقتضي بطلانها) ومن خلال
استقراء هذا النص نجد أنه قد جمع بين الصياغات المختلفة لهذه القاعدة حيث تضمن هذا
النص صيغة (الأصل في العقود الصحة وصيغة الأصل في الشروط الصحة وصيغة الأصل في
العقود الصحة واللزوم) واهتمام القانون المدني على هذا النحو بقاعدة الأصل في
العقود الصحة يدل على أنه قد جعلها حاكمة لكافة العقود والتصرفات، ولأنها كذلك فقد
استند إليها الحكم محل تعليقنا.
الوجه الرابع: تقادم دعوى بطلان العقد وصلتها بقاعدة (الأصل في العقود الصحة):
من التطبيقات ذات الصلة بقاعدة (الأصل في العقود الصحة) تقادم دعوى بطلان العقد، حيث أن الشرع والقانون قد افترضا ان كل العقود التي يتم إبرامها صحيحة عند إبرامها عملا بقاعدة (الأصل في العقود الصحة) وعلى المدعي خلاف هذا الأصل أن يقوم بإثبات أن العقد ليس صحيحا، وحتى تستقر العقود وترتب آثارها وتستقر المعاملات في المجتمع وتستقر المراكز القانونية قرر القانون قاعدة (تقادم طلب إبطال العقد) حيث نصت المادة (٢٠٠) مدني على أنه (لا تسمع الدعوى بطلب إبطال العقد أو نقضه بعد مضي ثلاث سنوات) مع عدم وجود مانع أو جهل بسبب البطلان) فعند التأمل في هذا النص نجد أنه قد صرح بعدم سماع دعوى ابطال العقد أي أنه منع القاضي من سماع الدعوى أو قبولها بداية إذا ما تمسك بهذا النص المدعى عليه وبحسب أحكام قانون المرافعات يتحتم على القاضي الفصل في الدفع بعد سماع الدعوى بداية وبحكم مستقل، ومن الغريب أن المدعى عليه في القضية التي فصل فيها الحكم محل تعليقنا لم يتنبه إلى هذا النص فهو لم يتمسك بتقادم دعوى ابطال العقد مع أنه ذكر في رده على الدعوى بأنه قد تعاقد مع البائعة قبل أكثر من خمسة وأربعين عاما، وهذا يؤكد الحاجة الماسة لنشر الوعي القانوني والحقوقي لان كثيرا من الاشخاص لا يعرفون حقوقهم القانونية، والله اعلم.