النصب عن طريق التوظيف الوهمي
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
الحق في الحصول على الوظيفة والعمل حق دستوري وقانوني لا يجوز ان يكون محلاً للمتاجرة أو الوساطة سواء اكانت المتاجرة حقيقية بقيام الساعي أو المتاجر بالتوظيف للطالبين حقيقة. وكذا لاتجوز المتاجرة اذا كان الغرض هو النصب للاستيلاء على اموال الضعفاء طالبي التوظيف فيكون الجرم في هذه الحالة اعظم والعقوبة اشد، فقد كشف الحكم محل تعليقنا قيام عصابات باستغلال حاجة المواطنين للحصول على وظيفة أو عمل حيث تمتهن هذه العصابات النصب والاحتيال للحصول على اموال من طالبي التوظيف دون ان تكون هناك وظائف فهذه العصابات تبيع الوهم للبسطاء، فقد اظهر هذا الحكم ان ،(129)امرأة كن ضحايا لعصابة اوهمتهن بانها سوف تقوم بتوظيفهن في منظمة .... الوهمية، فهذا الحكم صدر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/3/2012 في الطعن رقم (44901)، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان النيابة العامة احالت إلى المحكمة أربعة اشخاص بتهمة قيامهم بأفعال النصب والاحتيال على (129) امرأة ورجل واحد حيث اخذ المتهمون من كل واحدة اربعين الف ريالاً من اجل توظيفهن وانضمامهن إلى المنظمة.... الوهمية حيث قام المتهمون بطباعة نماذج ووثائق باسم المنظمة الوهمية ووثائق استلام الطلبات، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة المتهمين ومعاقبة المتهم الأول بالحبس سنة ونصف ومعاقبة بقية المتهمين بالحبس لمدة سنة والزامهم جميعا بإعادة المبالغ التي اخذوها من المجني عليهن واتلاف الوثائق والأوراق التي قام المتهمون بطباعتها واصطناعها باسم المنظمة الوهمية وإعادة الوثائق الخاصة بالمجني عليهن ، فلم يقبل المتهمون بالحكم فقاموا باستئنافه إلا أن الشعبة الجزائية قضت بتأييد الحكم الابتدائي بكل فقراته، فقام المحكوم عليهم بالطعن بالنقض في الحكم غير ان الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فانه لما كان الحكم الابتدائي المؤيد بالحكم الاستئنافي المطعون فيه قد اقام قضاءه على سند من اقرار الطاعنين امام النيابة والمحكمة الابتدائية فلم يقام الحكم على المحاضر التي اجراها مأمور الضبط القضائي التي يشكك المتهمون فيها، ولذلك فان النعي على الحكم بانه قد استند إلى محاضر جمع الاستدلالات التي تمت في ظل الحالة النفسية التي كان يعيشها المتهمون عند حبسهم من قبل جهة الضبط القضائي فان هذا النعي غير مؤثر لان الحكم لم يستند على اقوال المتهمين المثبتة في محاضر جمع الاستدلال مما يتعين رفض الطعن موضوعاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : مكاتب خدمات التوظيف وعصابات التوظيف :
ذكرنا في بداية التعليق ان الوظيفة العامة تختلف عن الاعمال والوظائف في القطاع الخاص او الوظائف في الدول والمنظمات الأجنبية، ولذلك فمن غير الجائز المتاجرة بالوظائف العامة لان القانون قد حدد الجهة المختصة بتنظيم طلبات التوظيف وإجراءات استقبال الطلبات وإجراءات البت فيها فليس هناك مجال لمكاتب خدمات التوظيف في مباشرة استقبال طلبات التوظيف لدى الجهات الحكومية لان ذلك محظور بحكم القانون حتى لو افلح مكتب خدمات التوظيف في إنجاز معاملات التوظيف، ويختلف الحكم بالنسبة للأعمال والوظائف لدى القطاع الخاص ولدى الدول والمنظمات الأجنبية حيث تتولى مكاتب خدمات التوظيف وتشغيل الايدي العاملة دور الوسيط ما بين رجال الأعمال والشركات والمنظمات التي تحتاج إلى موظفين وعمال وبين طالبي التوظيف حيث تقوم وزارة العمل بالترخيص لهذه المكاتب للعمل، وقد كانت وزارة العمل ذاتها تقوم في الماضي بتنظيم هذه المسألة، وبناءً على ذلك فان العصابة التي اشار اليها الحكم محل تعليقنا لم تكن تعمل من خلال مكتب خدمات التوظيف ولذلك كان عملها مخالف من هذه الناحية كما انه كان من ناحية أخرى عمل غير مشروع أي جريمة احتيال أو نصب وفقاً لقانون الجرائم والعقوبات حسبما سنرى، ونخلص من هذا إلى القول: بانه لا يجوز تقديم خدمات التوظيف والتشغيل في مجال الوظيفة العامة ويجوز ذلك بالنسبة للوظائف والاعمال في القطاع الخاص والمنظمات والدول الأجنبية شريطة ان يتم ذلك عن طريق المكاتب المرخص لها بهذا النشاط، ويكون هذا النشاط غير مشروع اذا قام به افراد أو جماعات خارج المكاتب المرخص لها.
الوجه الثاني : استئجار اشخاص لمتابعة إجراءات التوظيف وغيرها وتوصيتنا للجهات المعنية :
هناك إجراءات ومتابعات لا تستدعي حضور أو مثول صاحب المعاملة نفسه ،ففي هذه الحالة يجوز لصاحب المعاملة استئجار أو توكيل غيره ليتولى متابعة الإجراءات، فهذا العمل يكون بمثابة وكالة بأجر أو اجارة لان بعض الإجراءات ان لم يكن اغلبها تحتاج إلى جهد ووقت ومال يجعل بعض الأشخاص لا يستطيعون القيام بها بأنفسهم، مع التأكيد على انه على الجهات المختصة في الدولة ان تقوم بتنميط ونمذجة وحوسبة هذه الإجراءات الكترونيا حتى يتمكن الناس من إنجاز معاملاتهم بيسر وسهولة،كما نوصي بإعادة النظر في الخدمات التي تقدمها ادارات خدمات الجمهور وتطويرها بالاستفادة من وسائل التواصل الحديثة سداً لذريعة الوساطة والوسطاء.
الوجه الثالث : توفر اركان جريمة النصب في فعل المتهمين في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا:
قضى الحكم محل تعليقنا بانه قد توفرت كافة اركان جريمة النصب في الفعل المنسوب للمتهمين وفقاً للمادة (310) عقوبات التي نصت على ان (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات او بالغرامة من توصل بغير حق إلى الحصول على فائدة مادية لنفسه أو لغيره وذلك بالاستعانة بطرق احتيالية (نصب) او اتخذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة) فالمتهمون قد استعانوا بطرق احتيالية واتخذوا صفات غير صحيحة حيث اختلقوا اسم منظمة وهمية لا وجود لها واصطنعوا محررات ووثائق باسمها لتلقي طلبات التوظيف لديها ونماذج لاستلام وثائق طالبي التوظيف فهذه طرق احتيالية محكمة تمكنوا من خلالها من الايقاع بأكثر من (130) ضحية كما ان المتهمين اخذوا فوائد مالية لأنفسهم حينما تحصلوا بواسطة الطرق الاحتيالية على مبالغ مالية من المجني عليهن بواقع مبلغ اربعين الف ريالاً من كل ضحية، كما ان القصد الجنائي كان متوفرا وظاهراً من خلال اصرار المتهمين وحرصهم على ارتكاب الفعل لمرات عدة عن علم وارادة واختيار، والله اعلم.