جريمة مطل الغني في التطبيق القضائي
أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
تناول قانون الجرائم والعقوبات أحكام جريمة مطل
الغني في نص وحيد مجمل وعام ومجرد؛ ونتيجة لذلك تباينت الاتجاهات في تطبيق وفهم هذا النص وتفسيره كل
بحسب هواه ووجهته ومصلحته ؛ ولذلك يعمد بعض التجار والأشخاص الاخرين إلى الاستقواء
بالنيابة العامة وتكييف علاقته التجارية اوالمدنية على انها من قبيل افعال جريمة
مطل الغني ، ولا ريب ان اختلاف الاتجاهات والتفسيرات لهذه الجريمة خارج نطاق
القضاء له أهميته العلمية ، ولكن الاجتهاد القضائي في ذلك هو الأكثر أهمية حيث
يتناول قضايا حقيقية واقعية فضلاً عن ان هذا الاجتهاد بالحكم القضائي يتحول الى
قضاء واجب النفاذ بحكم القانون ، ولأهمية فهم القضاء لهذه الجريمة اخترنا التعليق
على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
8/1/2011م في الطعن الجزائي رقم (43379) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم ان احد التجار قام باستلام اقمشة من تاجر أخر وقام المستلم للاقمشة بتحرير
مستند بمبلغ اثني عشر مليون ريال قيمة تلك الاقمشة ثم ادعى مستلم الاقمشة ان تصريف
وبيع الاقمشة قد تعثر فتطور الخلاف بين الطرفين حتى قام صاحب الاقمشة بتقديم شكوى
الى النيابة العامة مدعياً ان المستلم للاقمشة يماطل في تسديد المبلغ الذي بذمته
بموجب السند وانه غني يملك محلات تجارية فقامت النيابة بالتحقيق حتى خلصت الى
تحرير قرار الاتهام بحق المستلم للاقمشة اتهمته النيابة العامة بانه لم يقم بسداد
المبلغ الذي بذمته بموجب السند الذي حرره وانه ظل يماطل في تسديد المبلغ وطلبت
النيابة من المحكمة معاقبة المتهم بموجب احكام المادتين (17 ، 316) عقوبات ، وبعد
ما سارت المحكمة في الإجراءات توصلت إلى الحكم (بإدانة المتهم بارتكاب جريمة مطل
الغني بحق المجني عليه لثبوت تلك الجريمة بحقه والحكم على المدان بالحبس مدة خمسة
أشهر مع وقف التنفيذ والزام المدان بان يدفع للمجني عليه مبلغ اثني عشر مليون
ًريالا وهو المبلغ الذي التزم المدان.بدفعه الى المجني عليه بموجب السند المشار
اليه) وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي (بالرجوع الى المحرر سند الدين المشهود
عليه والمصادق عليه من قبل المحكمة المختصة وهو السند الذي قدم المجني عليه أصله
والذي اقر بصحته المتهم الذي تضمن اقراره بانه
مدين للمجني عليه بالمبلغ المذكور في السند والمتضمن ان المتهم قد تعهد والتزم
بسداد ذلك المبلغ حين يطلب منه ذلك المجني
عليه؛ ومن خلال ذلك يتضح ان العلاقة بين الطرفين قد توفرت فيها خصائص وشروط عقد
القرض فيكون ذلك المبلغ قرضاً في ذمة المتهم التزم بدفعه حينما يطلب ذلك
المقرض وحيث ان المجني عليه قد طالب
المتهم بسداد ذلك المبلغ حسبما هو ثابت في المذكرات الدالة على المطالبة واخرها
الاشعار الموجه من المجني عليه الى المتهم
بسداد المبلغ خلال فتره اقصاها اسبوع وحيث ان المتهم قد استلم ذلك الاشعار وحيث ان
الثابت ان المتهم مقتدر ولديه القدرة على
سداد المبلغ للمجني عليه لان المتهم لم يدع عدم قدرته على سداد المبلغ اضافة الى
ان المتهم يعمل تاجراً في السوق منذ اكثر من اربع سنوات بحسب اقراره امام المحكمة
بانه يعمل في توزيع وتسويق الاقمشة وحيث ثبت قدرته على السداد الا انه لم يقم
بالسداد للمبلغ الذي بذمته للمجني عليه وبذلك فقد تحققت في امتناعه جريمة مطل
الغني المنصوص عليها في المادة (316) عقوبات اما ما دفع به المتهم من عدم انطباق
جريمة مطل الغني على امتناعه لان تطبيقها يستوجب
المطالبة بإعادة ما يماثل عين القرض وهي الاقمشة اي المطالبة بالاقمشة لا
ان تتم المطالبة بثمن تلك البضاعة لان التصرف في هذه الحالة يكون بيعاً لا قرضاً
فذلك الدفع مردود عليه بان النيابة وان كانت قد استخدمت في قرار الاتهام عبارة
قيمة البضاعة الا ان الثابت ان المقصود بتلك العبارة عدم وفاء المتهم بالمبلغ الذي
بذمته بموجب السند الذي حرره على نفسه والتزم بموجبه بسداد المبلغ حين الطلب ؛
فالعبرة بما ثبت واقعاً وبما تتجه اليه المقاصد لا بما تستخدمه النيابة أو غيرها
من الفاظ : واما ما دفع به المتهم من ان العلاقة فيما بين المتهم والمجني عليه هي
علاقة بيع وشراء فمردود عليه بان تلك العلاقة سوى سند الدين ويمثل علاقة مستقلة
بذاتها منفصلة عن العلاقة السابقة التي كانت قائمة بينهما ومن ثم يكون ما اثاره
محامي المتهم في غير محله) فلم يقبل المتهم بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه الا
ان محكمة الاستئناف رفضت استئنافه وأقرت الحكم ، وقد ورد في اسباب الحكم
الاستئنافي (ان القضية منحصرة حول السند واعتراف المدين بعدم القدرة على السداد
للمبلغ لا يجتمع مع الزعم بعدم استحقاق المستانف ضده للمبلغ لتعارضهما وثبوت خلافهما وحيث ان المحكمة قد
اتاحت الفرصة للمتهم لتقديم ما لديه فقدم شهوده التي أكدت شهاداتهم في مجملها صحة
ما ورد في السند المذكور وانه تحرر بخط الشاهد الأول بناءً على طلب المتهم وبرضاه
واختياره وكان ذلك بعد تصفية الحساب بينهما...الخ فمطالبة المتهم بعد ذلك
بالمحاسبة واختيار محاسب لا موجب له) فلم يقبل المتهم بالحكم الاستئنافي حيث قام
بالطعن فيه بالنقض فقبلت المحكمة العليا الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي ، وقد ورد
ضمن اسباب حكم المحكمة العيا (من حيث الموضوع ينعي الطاعن على الحكم الاستئنافي
المطعون فيه مخالفته للقانون لصدوره عن محكمة غير مختصة لان الموضوع تجاري وان
المحرر الذي حرره الطاعن يعتبر غير صحيح لانطوائه على الإكراه في تحريره والتوقيع
عليه وعدم مطابقته مع واقع الحال وعدم اجراء حساب ينتج عنه استحقاق المبلغ لان
المطعون ضده لم يقدم كشف حساب موقع من الطرفين وان المبلغ المذكور في السند مقابل
بضاعة وان الطاعن شريك مع المطعون ضده ، والدائرة تجد ان ما نعاه الطاعن في محله
ذلك ان سبب السند قائم على علاقة تجارية بين الطاعن والمطعون ضده وهي تسليم قيمة
البضاعة المسلمة من المطعون ضده إلى الطاعن ليقوم ببيعها بحسب شهادة الشهود الذين
أكدوا في إفاداتهم ان المبلغ قيمة اقمشة وهذا ما اكده قرار الاتهام وان الخلاف
الذي حصل بين الطرفين كان بسبب عجز الطرفان عن استيفاء الديون التي عند الزبائن في
السوق وقد دلت الشهادات ان الطاعن كان شريكاً للمطعون ضده ومما سبق يتضح ان الشعبة
قد اولت الشهادة تأويلاً غير سائغ مخالف لما ورد في الأوراق حيث يستفاد في الحقيقة
من تلك الشهادات ان العلاقة بين الطرفين علاقة تجارية وان السند الذي حرره الطاعن
يتعلق بقيمة اقمشة قام الطاعن ببيعها للتجار وان هناك مبالغ لم يتم تحصيلها من قبل
أولئك التجار وانه لم يتم تصفية الحسابات بين الطرفين ولو كانت تصفية الحساب قد
تمت لتم تقديم مايدل على ذلك الى محكمة
الموضوع ، لذلك فان ما ذهبت اليه النيابة في قرار الاتهام وما قضت به محكمة
الموضوع من تكييف الواقعة بأنها جريمة مطل غني وان العلاقة بين الطرفين علاقة قرض
قد جانبت الصواب وإنما العلاقة تجارية بحتة وكان على المطعون ضده ان يلجا الى
المحكمة التجارية المختصة ؛ ولما كان الامر كذلك فان ما نعاه الطاعن على الحكم
الاستئنافي المؤيد للحكم الابتدائي من مخالفته للقانون في محله الامر الذي يتعين
معه نقض الحكم المطعون فيه وإحالة الطرفين الى المحكمة التجارية المختصة للنظر في
النزاع والحكم فيه طبقاً للشرع والقانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو
مبين في الأوجه الاتية:
الوجه الأول : وجهة القانون من جريمة مطل الغني :
قرر قانون الجرائم والعقوبات هذه الجريمة
بمسمى (مطل الغني) وذلك في المادة (316) التي نصت على ان (يعاقب بالحبس مدة لا
تزيد على سنة أو بالغرامة كل من اقترض
مالاً لاجل ولم يقم بسداده عند المطالبة
بعد انقضاء الاجل مع قدرته على السداد ) ومن خلال استقراء هذا النص يظهر الاتي :
1- هذه الجريمة غير جسيمة لان عقوبتها
الحبس تلذي لا تزيد مدته عن سنه.
2- عقوبة هذه الجريمة اختيارية ما
بين الحبس والغرامة.
3- هدف هذه العقوبة حماية القروض
من المقترضين المماطلين، لان القروض من أهم وسائل التنمية والنهضة الاقتصادية
بالمجتمع إضافة الى انها فضيلة من أهم الفضائل التي ندبت اليها الشريعة الإسلامية
كما سنرى ، ولذلك فان هذه العقوبة لا يتم تطبيقها الا اذا كان الدين الذي ترتب بذمة المدين هو قرض ، وهذا
اساس النزاع وجوهره في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا.
4-
تتلخص شروط تطبيق هذه العقوبة
في الاتي :
أ- ان يكون المال قرضاً لاجل محدد ، فاذا لم
يكن كذلك فان آجله حين يطلبه الدائن.
ب- امتناع المقترض عن سداد القرض عند مطالبة
المقرض بعد انقضاء الاجل.
ج- قدرة المقترض على السداد ، وهذا هو أهم
شرط لان المقترض اذا كان معسراً فلا وجود لهذه الجريمة لقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولتطبيق هذه الجريمة وتوقيع العقاب عليها
يجب تحقق هذه الشروط.
الوجه الثاني : وجهة الشريعة الإسلامية من جريمة مطل الغني :
أصل هذه العقوبة حديث النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ( مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته؛) فمعنى العرض في هذا الحديث : هو التحقيق
والاستفصال مع الغني المماطل، كما ورد في الحديث ان مطل الغني يجيز معاقبته بالعقوبة
التي تراها السلطة التشريعية مناسبة لردع المدينين الاغنياء المماطلين فلم تحدد
الشريعة الاسلامية قدر العقوبة التي يستحقها المدين الغني المماطل وتركت ذلك
للسلطة التشريعية التي تقررها بحسب احتياج المجتمع والحياة الاقتصادية ، ويذهب
الفقهاء الى ان الغاية من التجريم والعقاب لمطل الغني هو حماية الاموال المقرضة
التي امرت الشريعة الاسلامية وحثت على اقراضها للناس لاستثمارها وقضاء حوائجهم حتى
ان الله سبحانه وتعالى يصف نفسه بانه المقترض لتلك الاموال في قوله سبحانه {مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهذه
الاية الكريمة مرددة في القران الكريم في اكثر من سورة ، ويقرر الفقهاء ان المدين
المماطل اثم يستحق العقوبة لانه يجعل الناس يحجمون عن اقراض غيرهم خشية المطل وينجم عن ذلك
تعطيل توظيف الاموال التي نهى الله تبارك
وتعالى عن اكتنازها ، ولذلك فان المدين المماطل يستحق تعجيل عقوبته في الحياة
الدنيا.
الوجه الثالث : وجهة النيابة العامة ومحكمة الموضوع في تطبيق جريمة مطل الغني:
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان
النيابة العامة والمحكمة الابتدائية والاستئنافية قد ذهبت الى تحقق أركان وشروط
جريمة مطل الغني في القضية المعروضة عليها ، لان السند تضمن اقرار المدين بان
المبلغ دين في ذمته أي انه قرض كما ان اجله محدد لوقت مطالبة الدائن له وان المدين
قد امتنع على سداد ذلك مع قدرته على ذلك لانه تاجر معروف ومشهور في السوق،
فالنيابة ومحكمة الموضوع قد وقفت عند ظاهر السند وحكمت بموجب هذا الظاهر طالما ان
المدين مقر بصحته السند وكذا كاتب السند وشاهديه وتمت المصادقة على هذا السند من
المحكمة المختصة فصار محررا رسميا له حجيته في الاثبات طبقا للقانون ، فلم تعتمد
محكمة الموضوع على الشهادات المناهضة لما ورد في السند لان ما ثبت كتابة لا يدحض
الا كتابة.
الوجه الرابع : وجهة المحكمة العليا في تطبيق جريمة مطل الغني :
نجد ان المحكمة العليا استظهرت الارادة الحقيقة للطرفين من خلال شهادات الشهود طالما والطرفين من التجار المعروفين وانهم والشهود احياء يرزقون فانه ينبغي استظهار ارادة الطرفين وعدم الوقوف عند السند فقط ، وانا شخصياً اميل الى وجهة محكمة الموضوع في هذه القضية لان السند واضح ومحدد من حيث الدائن والمدين والاجل والمبلغ فقد توفرت فيه إركان وشروط عقد القرض بصرف النظر عن سبب العلاقة ولان هذا الفهم يتناسب مع المقاصد الشرعية والقانونية من التجريم والعقاب لمطل الغني؛ والله اعلم.