جريمة خيانة الامانة والنزاع التجاري


جريمة خيانة الامانة والنزاع التجاري

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء 

تثير التطبيقات المختلفة لجريمة خيانة الامانة جدلا واسعا في اليمن لسوء صياغة النص القانوني الذي حدد التجريم والعقاب في فعل خيانة الامانة الذي ادى الى تداخل مفهوم هذه الجريمة بتطبيقاتها المختلفة مع جرائم اخرى مشابهة  او مقاربة لها, بل ان فكرة عقود الامانة وهي عقود مدنية اصلية واصيلة تعد مسرحا واسعا لأفعال جريمة خيانة الامانة,كما انه لاتخفى العلاقة الوثيقة بين جريمة خيانة الامانة وجرائم الفساد؛ وقد لاحظت عندما نشرت تعليقا على حكم قضى بإدانة المزارع المؤتمن على المحصول كيف التبس الامر عند بعض الاخوة الاعزاء الذين تصوروا عدم امكانية قيام جريمة خيانة الامانة في بعض العقود المدنية؛ ولذلك فقد وجدت ان هذا الموضوع ما زال يحتاج  الى دراسة وبحث ؛ كما ان الواقع العملي وتساهل الكثير  وتفريطهم  بالأموال المعهود بها اليهم تحتاج الى نوع من التوسع في فهم هذه الجريمة اذا ارادت الدولة حماية الاموال المستثمرة وبسط الحماية الكافية  لهذه الاموال, وعلينا جميعا ان لا ننسي ان المفهوم الحديث لجريمة خيانة الامانة كان توأما للاستثمار وسياجا لحماية الاستثمارات ؛ فلا يمكن تشجيع الاستثمارات والفقه القانوني والتطبيق القضائي متحجر في فهمه وتعامله مع مفهوم جريمة خيانة الامانة, وانا اجزم ان القطاع الخاص اكثر فهما لهدف جريمة خيانة الامانة وغايتها وان اساء او اخطا في تطبيقها اوفهمها في بعض الحالات؛ حيث تقوم بعض الشركات والمؤسسات الخاصة بقصد حماية اموالها المستثمرة من الاختلاس والاستيلاء والتبديد تقوم قبل تسليم المال الى الموظف او الموزع او تاجر الجملة تقوم بتكييف التصرف فيما بينها وبين هولاء على ان هذا التصرف  من عقود الامانة , الا ان الواقع يشهد ان  التجار ايضا يسيؤون فهم تطبيق جريمة خيانة الامانةحينما   يحاولون مد نطاق هذه الجريمة الى اعمالهم وانشطتهم التجارية للضغط على الشركاء والاستقواء بسلطات النيابة العامة الواسعة والجبرية حيث يعمد بعض الشركاء عند خلافاتهم التجارية المحضة الى محاولة إلباس هذه الخلافات التجارية بلباس جريمة خيانة الامانة, ولذلك فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/3/2011م في الطعن المدني رقم (40227) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان شراكة نشأت بين تاجرين وكان لهذه الشراكة حساب مصرفي لدى احد البنوك المعتمدة في اليمن, وكانت كافة المبالغ الواردة والمنصرفة في هذه الشراكة تتم عن طريق هذا الحساب المصرفي ؛ فقام احد الشريكين بتحويل مبلغ كبير الى شريكه الاخر عن طريق شركة صرافة  وطلب الشريك الذي قام بإرسال ذلك المبلغ طلب من شريكه الاخر ان لا يدخل ذلك المبلغ في الحساب المصرفي الخاص بالشراكة وان يتم استعمال ذلك المبلغ في زيادة راس مال الشراكة ثم قام الشريكان لاحقا باجراء الحساب بشان هذا المبلغ وتصفيته وتحرير مخالصة نهائية بشانه ؛ الا ان الخلاف بعد ذلك  تجدد فيما بين الشريكين  فحاول الشريك الذي ارسل المبلغ الاستقواء بالنيابة العامة فقام بتقديم شكوى الى النيابة العامة اتهم فيها شريكه الذي ارسل اليه المبلغ بانه قد ارتكب جريمة خيانة الامانةحيث قام  بضم المبلغ المرسل اليه الى ملكه ولم يقم بادخاله الى حساب الشراكة والدليل ان المبلغ المرسل لم يدخل في حساب الشراكة وان شريكه قد ضم ذلك المبلغ الى ملكه, وبالفعل قامت النيابة بإحالة القضية الى المحكمة متهمة الشريك الاخر بارتكاب جريمة خيانة الامانة, وامام المحكمة رد الشريك المتهم بان هذا المبلغ  قد تمت تسويته وتمت المخالصة بين الطرفين وان هذا المبلغ المدعى به كان قبل المخالصة, وقد خلصت المحكمة الابتدائية الى الحكم (بإدانة المتهم بجريمة خيانة الامانة وحبسه مدة ستة اشهر ينفذ منها المدة التي قضاها في الحبس مع وقت التنفيذ للمدة المتبقية واعادة المبلغ الى المجني عليه مع المصاريف والمخاسير) لثبوت الواقعة واقرار المتهم باستلام المبلغ وعدم ادخاله في الحساب, فقام المحكوم عليه بالطعن في الحكم الابتدائي امام محكمة الاستئناف التي قبلت استئنافه وقضت بإلغاء الحكم الابتدائي, وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (وبرجوع الشعبة الى محرر المخالصة الموقع عليه من الطرفين فقد وجدت الشعبة بانه قد تضمن : انه وبعد حصول خلافات بين الشركاء على حسابات بينهما حصل الاتفاق على زيادة  راس مال الشراكة بان يقوم الشريك بدفعه مبلغ بالعملة الاجنبية وهو المبلغ محل الخلاف وتسوية ذلك المبلغ بان  يقوم الشريك الذي استلم المبلغ بدفع المبلغ بالطريقة المحددة بالمخالصة) وتضمنت المخالصة في نهايتها بانه لم يعد لأي احد أي دعوى او طلب, وزيادة من الشعبة  في الاستيثاق فقد استوضحت المتهم عن مصير ذلك المبلغ فكان رده بانه قد رد ذلك المبلغ  بعضه الى المدعي وبعض المبلغ قام  بدفعه الى اشخاص وجهات بحسب طلب المدعي نفسه) فلم يقبل  الشريك المستأنف ضده بالحكم الاستئنافي فقام   بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا الا ان المحكمة العليا رفضت الطعن واقرت الحكم الاستئنافي, وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وبعد مراجعتنا لأوراق القضية تبين بوضوح ان التعامل بين اطراف هذه القضية هو من بدايته تعامل تجاري محضا بموجب عقد الشراكة, وبما ان للمحكمة العليا حق رقابة المحاكم في تطبيقها للقانون التطبيق الصحيح فإنها تقرر انعقاد الاختصاص في نظر هذه القضية للقضاء التجاري للفصل فيها وفقا لأحكام القانون التجاري وهو ما كان يجب ان يكون منذ البداية مما يقتضي الغاء الحكم الاستئنافي واعادة القضية الى المحكمة التجارية المختصة لنظر القضية والفصل فيها بمقتضى احكام القانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : مفهوم جريمة خيانة الامانة في القانون اليمني والمصري وتوصيتنا للمشرع اليمني :

تضمن قانون الجرائم والعقوبات اليمني  جريمة خيانة الامانة وعقوبتها حيث نصت المادة (318) على ان (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من ضم الى ملكه مالا منقولا مملوكا للغير سلم اليه بأي وجه) ويناظر هذا النص في القانون المصري ما ورد في المادة (341) عقوبات مصري التي نصت على انه (يعتبر مرتكبا لجريمة خيانة الامانة كل من اختلس او استعمل او بدد مبالغ او امتعة او بضائع او نقود او غير ذلك اضرار بمالكيها او اصحابها او واضعي اليد عليها وكانت الاشياء المذكورة لم تسلم اليه الا على وجه الوديعة او الاجارة او على سبيل عاربة الاستعمال او الرهن او كانت سلمت له بصفة كونه وكيلا باجره او مجانا بقصد عرضها للبيع او بيعها او استعمالها في امر معين لمنفعة المالك لها او غيره) ومن خلال المقارنة بين النصين اليمني والمصري نلاحظ الاتي :

1-  اغراق النص اليمني في العمومية والتجريد والإجمال حتى صار النص غامضا وهذا الغموض له خطورته في مسائل التجريم والعقاب ؛ لان ذلك يعني ترك التجريم والعقاب للتقديرات والتفسيرات والاجتهادات المختلفة والمتباينة, وهذا هو سبب الجدل وسوء تطبيق النص وتفسيره في اليمن  ؛ ولهذا السبب فقد جاء النص اليمني قاصرا مقارنة بنظيره  المصري ؛ واغراق النص القانوني في العمومية والتجريد يخالف الاتجاهات الحديثة في التقنين والتشريع حيث ظهرت عام 2007م مدرسة قانونية حقوقية معاصرة تسعى الى ضرورة تضمين النصوص الدستورية والقانونية بعض التفاصيل والتفسيرات للحيلولة دون الاغراق في العمومية والتجريد التي تجعل الجرائم والعقوبات مختلفة بين الاشخاص والوقائع الواحدة, لان الاغراق في العمومية والتجريد يجعل الجهات التي تتولى تطبيق النص القانوني هي التي تقوم بالتشريع ايضا طالما وهي طليقة في تفسيرها النص وتطبيقه وقصره وتعميمهفهذا يهدر مبدأ الفصل بين السلطات , وقد ظهر هذا الاتجاه جليا في الدساتير والقوانين الصادرة بعد 2007م حيث نجد مادة في الدستور الفرنسي او المصري تتكون من ثلاث صفحات  في حين كانت قبل ذلك  عبارة عن ثلاثة اسطر .

2-  اشكالية الركن المادي لجريمة خيانة الامانة في النص اليمني (ضم الى ملكه) فهذه العبارة التي ما انزل القانون بها من سلطان تثير اشكاليات في الواقع العملي حيث يلجأ البعض وهم على حق  الى القانون المصري  لفهم وتفسير هذه العبارة الغريبة العجيبة حيث يفسرها هولاء بان المقصود (بالضم) هو اختلاس المال او استعماله او تبديده, وهذا هو الصحيح من وجهة نظرنا لان مفهوم الضم لايشمل التبديد , في حين يذهب البعض الاخر الى تفسير (الضم) بأنه خلط الجاني مال الغير بماله حتى يظهر كما لو انه المالك للمال الذي اختلسه وبعضهم يذهب الى تفسير ذلك بقيام الجاني بالتصرف في المال وظهوره بمظهر المالك للمال؛ فلو استعمل القانون اليمني مصطلح ( اختلس او استعمل او بدد) لتحدد الركن المادي للجريمة بوضوح.

3-  اشكالية مالك الاموال  التي يقع عليها  الركن المادي لجريمة خيانة الامانة(الضم) فمن خلال المقارنة بين النصين اليمني والمصري نجد ان النص المصري قد بسط حمايته على الاموال المعهود بها الجاني سواء اكانت مملوكة للشخص الذي سلمها اوكان مجرد مستاجر لها او واضع يد عليها؛فنطاق الحماية اشمل بخلاف النص اليمني.

4-  اشكالية عبارة (سلم اليه باي وجه) الواردة في النص اليمني, فهذه العبارة عامة مجردة تعني ان أي تسليم للمال الى الجاني يجعله خائنا للأمانة في حين ان هذه الجريمة مجالها عقود الامانة  (الاجارة – العارية – الوديعة ....) فليس أي تسليم يجعل الفعل خيانة امانة .

ولذلك نوصي المشرع اليمني بتعديل النص المتضمن جريمة وعقوبة خيانة الامانة للحيلولة دون سوء تفسير وتطبيق هذا النص الهلامي, فأخطاء تطبيق هذا النص وتفسيره كثيرة وما الحكم محل تعليقنا الا واحد من الاحكام الكثيرة التي تدل على سوء  تفسير  تطبيق هذا النص .

الوجه الثاني : تطبيق جريمة خيانة الامانة في مجال الاعمال التجاريةالخاصة :

يتداول بعض العمال والموظفين والموزعين والوكلاء  في القطاع الخاص الاموال والبضائع والمنتجات وحتى يتم بسط الحماية المقررة في جريمة خيانة الامانة للاموال والبضائع فان الشركات والمؤسسات الخاصة تدون في فواتيرها او سنداتها عبارة (البضاعة المبينة في هذه الفاتورة او المبلغ المبين في هذه الوثيقة عهدة وامانة لدى المستلم لا تبرئ ذمته الا بإعادتها او اعادة قيمتها) وذلك حتى يظهر للمستلمين لتلك الاموال والبضائع ان هذه الاموال مسلمة لهم على سبيل الامانة فلا يستطيع المستلم  تحويل جريمة خيانة الامانة الى خلاف تجاري منظور امام المحكمة التجارية او مدني تنظره المحكمة المدنية, فالنيابة العامة اكثر سرعة وحزما في ردع هؤلاء ومنعهم من الاستيلاء على الاموال التي بعهدتهم وكذلك في عقود الاستثمار حيث يسلم المستثمر ماله الى الغير لاستثماره او تشغيله حيث يتم تحرير الاستلام بالمبلغ الذي ينص على ان المبلغ الذي بذمته المستلم له امانة وعهدة عنده وانه يكون مرتكبا لجريمة خيانة الامانة اذا استولى على المال اولم  يردههو وعائداته  وكذلك الحال في عقد المزارعة عندما ترد فيه عبارة (والاجير قليد الله في صحة تحديد حصة المالك من المحصول وانها امانة لدى الاجير) .

الوجه الثالث : علاقة جريمة خيانة الامانةبعقود الاستثمار وجرائم الفساد :

سبق القول بان مجال تطبيق جريمة خيانة الامانة هي عقود الامانة (عقد وديعة – عارية – اجارة – مزارعة – عقد استثمار – عقد مضاربة ....الخ) ومن خلال ذلك يظهر ان هذه العقود اصلا هي عقود الاستثمار في المجالات الاقتصادية المختلفة, وبناء على ذلك لا يمكن ان يخرج راس المال من مخابئه ويتم توظيفه في المجالات الاقتصادية المختلفة الا اذا وجدت الضمانات الكافية لحماية الاموال المستثمرة , ولا شك ان جريمة خيانة الامانة من اهم الوسائل لحماية رؤوس الاموال المستثمرة والتي تكون بعهدة الغير , ولذلك ينبغي الاهتمام بهذه الجريمة ومعرفة مدى تناسبها وجدواها في حماية الاموال المستثمرة.؛ وللعلاقة الوثيقة بين جريمة خيانة الامانة وعقود الاستثمار فقد تم ادراج  جريمة خيانة الامانة ضمن جرا ئم الفساد بل ان المدان فيها لايكون اهلا لشغل اي عمل  او وظيفة لان القوانين كافة تشترط في العامل او الموظف ان لايكون قد صدر بحقه حكم نهائي في جريمة مخلة بالشرف والامانة ولذلك ينبغي ان يتم التعامل مع هذه الجريمة في اية تعديلات مرتقبة على انها وسيلة من اهم وسائل مكافحة الفساد؛ والله اعلم.