رجوع الشهود عند تنفيذ الحكم

 

رجوع الشهود عند تنفيذ الحكم

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين               

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

في بعض الاحيان يتراجع الشهود الذين بني الحكم واستند الى شهاداتهم حيث يتراجعون عن شهاداتهم عند مباشرة إجراءات تنفيذ الحكم، ويكون في الاحيان الباعث على تراجعهم الخوف من الله وصحوة الضمير وفي أحيان كثيرة يكون الباعث على التراجع الضغوط والاغراءات، وتراجع الشهود اثناء تنفيذ الحكم يثير اشكاليات عدة حيث تتداخل في هذه الحالة مفاهيم وإجراءات التماس إعادة النظر بإشكالات ومنازعات التنفيذ وإجراءات التحقيق والنظر والفصل في واقعة التراجع، ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر من الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 30/3/2011م في الطعن المدني رقم (41404) لسنة 1431هـ ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن المحكوم له  تقدم أمام المحكمة الابتدائية بطلب تنفيذ الحكم الابتدائي الصادر منها والمؤيد من محكمة الاستئناف والمقر من قبل المحكمة العليا الذي قضى برفع يد المدعى عليه عن الموضع الزراعي الذي تحت يده تنفيذا للحكم المشار اليه ، ، فقام المنفذ ضده بتقديم إستشكال مفاده عدم جواز مباشرة إجراءات تنفيذ الحكم المشار اليه سند التنفيذ لرجوع الشاهدين اللذين استند الحكم سند التنفيذ على شهادتيهما، وقد أصدرت المحكمة الابتدائية قراراً برفض الاستشكال والسير في إجراءات التنفيذ الجبري للحكم، وقد تضمنت أسباب القرار الصادر عن المحكمة الابتدائية (أن المحكمة سبق لها أن قررت وقف إجراءات التنفيذ مدة شهر حتى يتمكن المطلوب ضده من تقديم التماس إعادة النظر في الحكم سند التنفيذ وتقديم ما يفيد الالتماس بشأن واقعة رجوع الشهود، ولما كان الرجوع عن الشهادة بعد الحكم بها يعتبر سبباً من أسباب الطعن بالتماس إعادة النظر وفقاً للمادة (52) إثبات والمادة (304) مرافعات وحيث أن الاستشكال متعلق برجوع الشهود وأن هذه المسألة متعلقة بأصل الحق الذي قرره الحكم سند التنفيذ، وبناءً على ذلك فأنه لا يجوز المنازعة في تنفيذ الحكم سند التنفيذ على أساس رجوع الشهود عن شهاداتهم التي بني عليها ذلك الحكم، لان هذا يعني استخدام التنفيذ وسيلة للطعن في الحكم ،وهذا غير جائز) فلم يقبل المطلوب التنفيذ ضده بقرار المحكمة الابتدائية فقام باستئنافه إلا أن محكمة الاستئناف رفضت الاستئناف وقضت بتأييد القرار التنفيذي الصادر عن المحكمة الابتدائية، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الاستئنافي (أن المطلوب التنفيذ ضده قد جانب الصواب حينما بني استشكاله على رجوع الشهود في الحكم سند التنفيذ وذلك غير جائز حيث يجب عليه أولاً إثبات رجوع الشهود أمام المحكمة التي استمعت الى شهاداتهم وحكمت بموجب تلك الشهادات حيث تحكم تلك المحكمة بزورية الشهادات ثم يتقدم المشهود عليه إلى المحكمة العليا بطلب التماس إعادة النظر، لان الحكم سند التنفيذ قد أصبح باتاً بعد قرار المحكمة العليا له وفقاً لقانون المرافعات) فلم يقبل طالب التنفيذ بالحكم الاستئنافي، فقام بالطعن فيه بالنقض ،وقد قبلت الدائرة المدنية الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (أن القانون هو الذي يحدد اختصاص المحاكم، وعليه فان المحكمة المختصة بنظر الرجوع عن الشهادة هي المحكمة التي سمعت الشهادة واصدرت الحكم السند التنفيذي استناداً إلى تلك الشهادات، فاذا كان الرجوع عن شهادة قد تمت اثارته أمام محكمة التنفيذ وكانت هي التي سمعت الشهادة واصدرت الحكم السند التنفيذي فانها المحكمة المختصة بنظر الاستشكال أما اذا كانت المحكمة التي تباشر إجراءات التنفيذ هي محكمة غير المحكمة التي سمعت الشهادة واصدرت الحكم فانها لا تكون مختصة بنظر الاستشكال المتعلق بالرجوع عن الشهادة، فالمحكمة المختصة بنظر الاستشكال برجوع شهود الحكم السند التنفيذي هي المحكمة التي سمعت الشهادة عملاً بالمادة (50) إثبات وليست محكمة التنفيذ، وهذا استثناء من حكم المادة (318) مرافعات، وبذلك ظهر عدم صحة ما قررته محكمة التنفيذ بعدم اختصاصها وايدتها فيه محكمة الاستئناف) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : تحقيق واقعة رجوع الشهود عند تنفيذ الحكم :

رجوع الشهود عند تنفيذ الحكم واقعة تحتاج الى تحقيق وإثبات حتى ترتب اثارها على الحكم سند التنفيذ وعلى إجراءات التنفيذ وعلى الشهود انفسهم، لذلك فالواجب أولاً تحقيق وإثبات هذه الواقعة بالطرق المحددة قانوناً، وقد حددت المادة (50) إثبات المحكمة المختصة بذلك وكيفية الرجوع حيث نصت هذه المادة على أنه (يصح الرجوع عن الشهادة قبل الحكم وبعده بشرط أن يكون الرجوع أمام المحكمة التي سمعت الشهادة وأن يقول الشاهد رجعت عن شهادتي أو أن يكذب نفسه) لان المحكمة التي استمعت الشهادة هي الاجدر بالوقوف على حقيقة التراجع عن الشهادة وبواعثه فضل عن توفر معلومات ومستندات القضية لديها حيث تتولى النيابة التحقيق في الموضوع للوقوف على الحقيقة وتحريك الدعوى الجزائية وبعدئذ تصدر المحكمة حكمها بزورية الشهادة ومعاقبة الشاهد بعقوبة شاهد الزور وفقا لقانون الجرائم والعقوبات وبناء على ذلك يستطيع المشهود عليه تقديم طلب التماس اعادة النظر في الحكم الذي زورية الشهادة التي بني عليها  ، وقد تكون هذه المحكمة في الغالب هي محكمة التنفيذ وقد لا تكون كذلك، وقيام المحكمة التي استمعت الشهادة بصدور حكمها بزورية الشهادة لرجوع الشهود هو الاجراء الأول لترتيب الاثار على الرجوع.

الوجه الثاني : تأثير رجوع الشهود على الحكم سند التنفيذ :

بينت المادة (52) إثبات تأثير رجوع الشهود على الحكم سند التنفيذ وعلى إجراءات التنفيذ وعلى الشهود الراجعين حيث نصت الفقرة (ب) من المادة المشار اليها على أنه (اذا كان الرجوع بعد الحكم جاز للمشهود عليه طلب إعادة النظر في الحكم واذا الغى القاضي الحكم فيضمن الراجع ما نفذ وتعذر إرجاعه ويعاقب بعقوبة شاهد الزور) ومن خلال مطالعة النص يظهر أن الحكم سند التنفيذ المستند الى شهادة الشاهد الراجع  يظل قائماً حتى يتم الحكم بإلغائه بالتماس إعادة النظر في الحكم الذي استند إلى الشهادة التي رجع عنها الشهود، وقد قرر قانون المرافعات أن رجوع الشهود حالة من حالات التماس إعادة النظر حيث نصت المادة (304) على أن (التماس إعادة النظر في الأحكام طريق استثنائي للطعن فيها لا يجوز للخصوم اتباعه إلا عند تحقق الحالات الأتية :-3- اذا كان الحكم قد بني على شهادة أو يمين قضي بعد صدوره بأن الشهادة زور أو بأن اليمين كاذبة ) ومن خلال مطالعة النصين القانونيين السابق ذكرهما نجد أن رجوع الشهود حالة من حالات التماس إعادة النظر في الحكم سند التنفيذ شريطة أن يتم الرجوع أمام المحكمة التي سبق لها أن استمعت إلى شهادات الشهود واصدرت حكمها استناداً إلى تلك الشهادات وشريطة أن تقوم هذه المحكمة باصدار حكم اخر بزورية الشهادات لرجوع الشهود عن شهاداتهم السابقة وأن تحكم بأن الشهادات التي تم التراجع عنها شهادات زور حيث يكون ذلك الحكم مستنداً لطلب التماس اعادة النظر في الحكم سند التنفيذ، فلا يقبل طلب الالتماس إلا إذا ارفق به الحكم بزورية الشهادات وتراجع الشهود عنها، لان المادة (304) مرافعات قد اشترطت بأن يكون  التراجع قد ثبت وتم القضاء به بحكم، وتبعاً لذلك لا يقبل مجرد التراجع من غير حكم حتى لو تم ذلك التراجع أمام الامين الشرعي او قلم التوثيق  كما يحدث في اليمن غالباً حيث يرفق بعض الخصوم وثيقة تراجع الشهود أمام الأمين الشرعي أو قلم التوثيق المختص فلا تقبل هذه الوثائق، لان القانون اشترط أن يكون القضاء برجوع الشهود بموجب حكم فلا تغني هذه الوثائق عن الحكم.

الوجه الثالث : تأثير رجوع الشهود على إجراءات التنفيذ :

تتم إجراءات التنفيذ بموجب الحكم سند التنفيذ الذي بني على شهادات الشهود المتراجعين عنها، فلا يتم وقف إجراءات التنفيذ لمجرد الادعاء برجوع الشهود حيث لا تقف الإجراءات إلا بعد صدور الحكم برجوع الشهود وزورية شهاداتهم، وبعد صدور الحكم بقبول التماس إعادة النظر لثبوت تراجع الشهود، لان الحكم في التماس إعادة النظر هو الحكم الذي يلغي الحكم سند التنفيذ المبني على شهادات الشهود المتراجعين، حيث يظل الحكم سند التنفيذ موجوداً وقائماً حتى يتم الغاؤه بالحكم بقبول التماس إعادة النظر، ولكن في الواقع العملي يقوم الخصوم بمطالبة المحكمة التي تستمع إلى رجوع الشهود عن شهاداتهم وهي محكمة التنفيذ غالباً يطلب فيها الخصوم وقف إجراءات التنفيذ وهي تستجيب لهذا الطلب اذا كان قد ظهر لها وجاهة الطلب وثبوت التراجع حتى  قبل ان تصدر حكمها بالرجوع.

الوجه الرابع : تأثير الرجوع عن الشهادة على الشهود وتوصيتنا :

رجوع الشاهد عن شهادته يعني أن شهادته غير صحيحة أي انها شهادة زور، ومعلوم أن شهادة الزور جريمة وفقاً لقانون الجرائم والعقوبات، ولذلك فان الأمر يستدعي قيام النيابة العامة بالتحقيق ومباشرة الدعوى الجزائية، علماً بان المادة (52) قد قررت صراحة بأن الراجع عن الشهادة يعد شاهد زور حسبما تقدم بيانه، إضافة إلى أن المادة (52) إثبات ذاتها قد قررت أحقية المشهود عليه بمطالبة الشاهد الراجع بدفع أية مبالغ يكون المشهود عليه قد دفعها بسبب الشهادة كما يحق للمشهود عليه مطالبة الشاهد الراجع بتعويضه عن أية اضرار لحقت بها جراء  شهادة الزور، وعند التامل في الاثار المترتبة على الشاهد عند رجوعه عن شهادته نجد انها بالغة القسوة يستحقها الشاهد المتراجع نتيجة الضغوط والاغراءات لكن لايستحقها الشاهد المتراجع توبة وانابة وخوفا من الله الذي يريد اعادة الحق الى نصابه فقد اغلق عليه الباب قانون الاثبات ولذلك نوصي المقنن اليمني: بان يستثني الشاهد الراجع توبة اذا ثبت ذلك من خلال التحقيق مع الشهود المتراجعين لمعرفة دوافع وبواعث الرجوع، والله اعلم.