الوصية الواجبة لزواج الاولاد

 

الوصية الواجبة لزواج الاولاد

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

الاصل في الشريعة والقانون ان الوصية للوارث لا تصح عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث) ولكن هذه القاعدة ترد عليها استثناءات منها صحة الوصية من الوالد للأولاد بمال معين مقابل تكاليف زواج من لم يتزوج من اولاده اذا كان قد قام بتزويج بعضهم  في اثناء حياته بل انه اذا لم يقم بالوصية اختيارا  فتقع  تلك الوصية وجوبا بحكم القانون  ؛ ولكن الاشكالية العملية تظهر حينما تكون قيمة المال الموصي به اكثر او اقل من تكاليف الزواج او عندما تكون تكاليف الاولاد الذين قام الاب بتزويجهم في اثناء حياته اقل او اكثر من المال الموصي به لزواج الاولاد الذين لم يتزوجوا بعد ؛ علاوة على ان تكاليف زواج الموصي لهم تختلف فيما بينهم لان مهور زوجاتهم وشروط اهلهن ستكون متفاوتة بحسب اختلاف اعراف ومطالب اولياء الزوجات, وهذا يعني ان هناك اشكاليات عدة تحيط بهذا الموضوع على بساطته حسبما يتصور المطالع, ومن هذا المنطلق جاءت فكرة التعليق على الحكم الصادر من الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 7/2/2011م في الطعن الشخصي رقم (40937) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد المواطنين قام بتحرير وصية مفادها بانه قد اوصى بأرض زراعية كبيرة وخصبة وذلك مقابل زواج ابنائه الستة الذين لم يتزوجوا وان يتم تقسيم الارض بين الابناء الستة  حسبما ورد في الوصية, وبعد وفاة الاب شعر الورثة الاخرون ان هذه الوصية تنطوي على حيلة لتقليص الفرائض والانصبة المقررة لهم شرعا فقاموا برفع دعوى امام المحكمة الابتدائية المختصة طلبوا فيها ابطال تلك الوصية وقسمة الارض الموصي بها ضمن تركة الاب المتوفي لان تلك الوصية تنطوي على حيلة حرمانهم من الارث الشرعي المقرر لهم  ؛ وقد قضت المحكمة الابتدائية (ببطلان الوصية المؤرخة في 8 جمادى الاولى 1429هـ الصادرة من المورث لحصول الحيلة لحرمان بقية الورثة ولزوم قسمة تركة المتوفي بين ورثته المذكورين في حكم انحصار الوراثة ووفقا لكشف حصر التركة المتصادق عليه المرفوع من العدل المختار بعد اخراج ما يجب اخراجه لزواج الاولاد وعددهم ستة بما يقدره عدلان خبيران وما بقى تتم قسمته بحسب الفرائض الشرعية وتمكين المدعين من ميراثهم الشرعي) وقد جاء في اسباب هذا الحكم (فتعتبر الوصية غير نافذة لثبوت حصول الحيلة وحرمان بقية الورثة من نصيبهم الشرعي) فلم يقبل الابناء الموصي لهم بالحكم الابتدائي فقاموا  باستئنافه امام المحكمة الاستئنافية التي قبلت استئنافهم وحكمت  (بان ينزع المال الموصى به من راس التركة وتتم قسمته بين ابنائه الموصى لهم المذكورين  بالتساوي لمواجهة نفقات تزويج كل واحد منهم) وقد جاء في اسباب الحكم الاستئنافي (ولمشروعية الوصية ومشروعية السبب في تخصيص مال معين لمواجهة نفقات تزويج من لم يقم الاب بتزويجه  وقد حصل ما نحن بصدده من المورث لأبنائه الستة وانما يعاب على ذلك عدم التسوية بينهم فاللازم وجوب التسوية بينهم في الموصى به) فقام المدعون المستأنف ضدهم بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا التي قررت رفض الطعن واقرار الحكم الاستئنافي ؛ وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا انه  (وحيث ان الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد جاء موافقا من حيث النتيجة للشرع والقانون بحسبما ورد في اسبابه وتأييده للحكم الابتدائي لمشروعية الوصية  والموصى به  لتزويج الابناء الموصى لهم  ونزع المال الموصى به  من راس التركة وقسمته بين الابناء الستة الموصى لهم  بالتساوي لمواجهة نفقات تزويج كل واحد منهم؛ ومن خلال ذلك فقد تبين للدائرة مشروعية السبب في تخصيص مال معين لمواجهة تزويج من لم يتزوج من الابناء) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : الاصل عدم جواز الوصية للأولاد باعتبارهم من الورثة :

الاولاد من الورثة ولذلك فالأصل عدم الوصية لهم عملا بقول النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم (لا وصية لوارث) وقد قرر قانون الاحوال الشخصية هذا الاصل حيث نصت المادة (231) احوال شخصية على انه (يشترط في الموصى له ان لا يكون وارثا عند موت الموصي) وفي هذا السياق نصت المادة ؛(234) احوال شخصية على انه (لاتصح الوصية للوارث الا باجازة الورثة)  ومن خلال استقراء  النصين السابقين نجد ان القانون قد قرر بان الاصل عدم جواز الوصية للوارث الا بإجازة الورثة الاخرين.

الوجه الثاني : الوضعية القانونية للوصية الواجبة للأولاد بمال لتزويجهم :

الوصية للأولاد بمال لتزويجهم مقررة على وجه الاستثناء على النحو السابق بيانه ؛ فهذه الوصية الاستثنائية تستند الى المادة (260) احوال شخصية التي نصت على انه (تجب التسوية بين الاولاد في الزواج والتعليم فاذا كان الوالد  قد صرف اموالا في تزويج وتعليم البعض فعليه تسوية الاخرين بهم فان لم يفعل حتى مات ولم يوص بها سوى القاضي بينهم بإخراج القدر المساوي لهم مع وجوب التسوية ايضا بين الاولاد وبقية الورثة ان كانوا طبق طريقة الورث) وعند مطالعة فصول قانون الاحوال الشخصية  نجد ان هذه المادة قد وردت  ضمن الفصل الخامس من قانون الاحوال الشخصية وعنوانه  ؛(أحكام الوصية الواجبة) , ولذلك نجد القانون قد اطلق على هذه الوصية مسمى الواجبة وانه ادرجها ضمن الوصية الواجبة؛وعلى هذا الاساس فان النص القانوني السابق يصرح بوجوب التسوية بين الاولاد في الزواج  وهذا يعني انه اذا كان الاب قد قام بتزويج بعض ابنائه في اثناء حياته  فعندئذ يتوجب عليه ان يوصي للأولاد الذين لم  يقم بتزويجهم بمال لتزويجهم فان لم يوص يتم تطبيق حكم الوصية الواجبة بقوة القانون حيث يقوم القاضي بتقدير تكاليف زواج هولاء وفقا لمعيار المساواة الذي حدده النص القانوني السابق ذكره وهو المعيار  الاساسي بالاضافة الى ذلك فهناك معايير اخرى للتقدير ومن اهمها متوسط ما تعارف  عليه الناس في وقت استخراج التكاليف وكذا ينبغي مراعاة معيار مقدار التركة  فقد يكون متوسط تكاليف الزواج اكثر من التركة ذاتها؛ولذا اختلف الورثة في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا لان المتزوجين كانوا يرون ان المال الموصى به لزواج غير المتزوجين يمثل نسبة لاباس بها من اجمالي مقدار التركة؛ ولذلك ايضا نجد القاضي الابتدائي ابطل وصية الاب وحاول بدلا من ذلك تطبيق الوصية الواجبة فلم يكن موفقا في ذلك لان الوصية الواجبة لاتنطبق الا عند انعدام الوصية الاختيارية بحسب ماورد في النص القانوني السابق ذكره.

الوجه الثالث : الوصية الاختيارية بمال لزواج عير المتزوجين من الاولاد :

بحسب ماورد في المادة(260 )احوال شخصية السابق ذكرها فان  هذه الوصية الاختيارية  جائز ة لان الباعث عليها والغرض منها هو التسوية بين الاولاد السابق زواجهم على نفقة الاب وبين غير المتزوجين؛ فاذا كان الاب قد قام بتزويج بعضهم فالواجب عليه ان يقوم بتزويج الاخرين على نفقته في اثناء حياته فان تعذر ذلك لصغر السن او مرض او سفر فله ان يقوم بالوصية الاختيارية بمال يخصصه لسداد تكاليف زواجهم, فان لم يفعل ذلك يقوم القاضي بتطبيق احكام الوصية الواجبة التي يتم تطبيقها بموجب حكم القانون وليس بارادة الموصيحسبما سبق بيانه في الوجه السابق, وبناء على هذا لا تصح الوصية من الاب بتزويج بعض ابنائه الذين لم يتزوجوا وعدم الوصية للبعض الاخر الذين لم يتزوجوا كما لا تصح هذه الوصية اذا كان الاب لم يقم اصلا بتزويج بعضهم فلا يحق لغير المتزوج من الاولاد ان يطلب بمساواته بأخيه الذي قام بتزويج نفسه, ولذلك نجد الحكم محل تعليقنا  قد قرر تزويج الستة الابناء لان اخوانهم الاكبر سنا منهم قد قام ابوهم بتزويجهم في اثناء حياته.

وصفوة القول: ان الوصية الاختيارية من الاب بتزويج من لم يتزوج من اولاده جائزة ؛ فهي لا تندرج ضمن قاعدة (لا وصية لوارث) ولا تحتاج  هذه الوصية الى اجازة الورثة بل انها صحيحة حتى ولم يجزها الورثة.

الوجه الرابع : هل يشترط التناسب التام بين المال الموصى به وبين تكاليف الزواجفي الوصية الاختيارية :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم الابتدائي ابطل وصية الاب بالمال الذي عينه الاب لتزويجهم عندما وجد القاضي ان قيمة ذلك المال كبيرة قياسا بالتكاليف المتعارف عليها لزواج الستة الاولاد في تاريخ الحكم الابتدائي وبدلا من ذلك قضى الحكم الابتدائي بابطال الوصية الاختيارية وتطبيق احكام الوصية الواجبة حيث قضي  بان يقوم خبيران عدلان بتحديد تكاليف الزواج ونزعها من راس التركة كاملة بالغة ما بلغت حتى تتم المساواة بين الاخوة الذين زوجهم الاب والاخوة الذين اوصى لهم الاب بمقابل الزواج وحتى يكون الامر زواج يساوي زواج ومع ذلك فان القاضي الابتدائي قد خالف النص حسسبما سبق بيانه, اما الحكم الاستئنافي الذي اقره حكم المحكمة العليا فقد قضى باستخراج عين المال الموصى به  من راس التركة وقسمته بين الستة الابناء الموصي لهم بالسوية مقابل زواجهم مهما بلغت تكاليف الزواج فلم يقم الحكم بتقدير تكاليف الزواج لان الحكم التزم بوصية الاب فالأب اوصى بمال معين مقابل زواج اولئك الابناء فينبغي الوقوف عند تلك الوصية واحترام ارادة الموصي الا ان الحكم الاستئنافي قرر ان تتم قسمة ذلك الموضع الموصى به بالتساوي بين الابناء الستة لان وصية الاب كانت قد فاضلت بينهم بحسب احتياج كل منهم وقدراته التي راها الاب حين الوصية, والحكم الاستئنافي من وجهة نظرنا موافق للشرع والقانون والواقع لان الاب الموصي ما كان بوسعه حين الوصية ان يقدر بالضبط تكاليف زواج قد يتم بعد فترة تزيد فيها تكاليف الزواج وتتغير فيها   الاحوال وتتبدل اعراف الزواج وعاداته؛ ولذلك وبراءة لذمة الاب فقد اوصى لهم بمال محدد ومعين يتم تقسيمه  بينهم ؛ فقد يبيعونه لدفع تكاليف الزواج وقد لا يبيعونه حيث قد تتوفر لبعضهم تكاليف الزواج, فلم يقم الحكم الاستئنافي بتقدير او تعيين خبراء لهذا الغرض اضافة لان تقدير تكاليف الزواج من قبل خبيرين عدليين لايكون الا في حالة الوصية الواجبة التي يقوم فيها بالتقدير لانه لم يسبقه بتقدير تلك النكاليف كما ان معايير هذا التقدير تكون خارج نطاق ادارة الاب الموصي والابناء الموصى لهم الذي ينبغي ان تكون اراداتهم معتبرة عند التقدير, ولذلك فان الحكم  الاستئنافي قد اكتفى بالتأكد من توفر السبب الشرعي للموصي عندما اوصى بذلك مقابل زواج اولئك الابناء فذهب الحكم الاستينافي الى انه طالما والشريعة والقانون يجيز الوصية للأبناء الذين لم يتزوجوا مقابل تكاليف الزواج فان هذا التصرف جائز ينبغي الوقوف عليه والعمل بموجبه, ولهذا المقتضى ايضا اقر حكم المحكمة العليا الحكم الاستئنافي, وصفوة القول انه من المتعذر تقرير التناسب التام بين تكاليف الزواج  والمال الموصى به مقابل هذه التكاليف لان هذا التناسب تحكمه اعتبارات عدة يتعذر ضبطها او الوقوف عليها لاختلاف اذواق الابناء ولاختلاف الزوجات واختلاف المهور ولاختلاف الشرط واختلاف الولائم والتوابع الاخرى للزواج فمن المتعذر الاحاطة والتحكم بهذه الاعتبارات عند تقدير تكاليف الزواج.

الوجه الخامس: الوصية الاختيارية بمال لتزويج الاولاد بين الحيلة على الورثة وبراءة ذمة الاب :

في البداية ينبغي التقرير ان التشريع لغالب الناس وغالب الوقائع, فالغالب في الاباء حب الابناء جمعيا وعدم المفاضلة بينهم وعدم التفاوت بينهم لفرط شفقة الاب وفطرة حبه لأولاده وهذا هو الامر الغالب لدى الاباء الذي ينبغي اعتماده والتعامل معه في هذه المسألة, فاذا ظهر  لنا من الاب خلاف ذلك أي عدم المساواة والمفاضلة فان ذلك يكون لعلة وحكمة لدى الاب الاعلم بأبنائه من القاضي وغيره؛ فقد يكون من  بين هولاء الابناء فاسقا وقد يكون الاخر صالحا وقد يكون هذا الابن محتاجا ولا قدرة له او امكانية للحصول على المال وهكذا, هذا الامر بالطبع يكون لدى غالب الابناء ولكن قد يكون الاب معروفا بالحمق وقلة التدبر والتدبير وعدم وضع الاشياء في مواضعها فعندئذ لا مناص من حمل وصيته بمال لا بنائه مقابل زواجهم على محمل غالب تصرفاته فعندئذ لا يخلو تصرفه من الحيلة على الورثة الاخرين, وهناك قرائن يسترشد بها القاضي الرصين منها معرفة الاخوة هل هم جميعا اشقاء ام ان بعضهم لأب والتثبت مما اذا كانت الزوجة ام الاولاد الموصى لهم كان له تأثير على فطرة الاب وارادته حين الوصية، والله اعلم.