عدم جواز التوسع في حق الإنتفاع

عدم جواز التوسع في حق الإنتفاع

أ.د عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون - جامعة صنعاء.
الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلسة 28/8/2006م في الطعن المدني رقم (25805) لسنة 1426هـ ومضمون هذا الحكم أنه (بإطلاع الدائرة على الحكم الإستئنافي المطعون فيه والحكم الإبتدائي نجد أن ماقررته محكمة إستئناف محافظة.... من إلغاء حكم محكمة.... الإبتدائية كان في محله إذ كان يتوجب على محكمة أول درجة إزالة الغموض بشأن حق المرور (الإنتفاع) فلو أجرت المحكمة الإبتدائية المعاينة والنزول إلى موضع النزاع كما طلب المدعي المطعون ضده لأزالت الغموض، وحيث أن محكمة استئناف.... قررت الخروج للمعاينة لإستدراك مافات على محكمة أول درجة وللإلمام بموضوع الدعوى على الواقع حيث ندبت محكمة الإستئناف مدير الشؤون القضائية وأمين السر بالنزول وتكليف طرفي النزاع بإحضار عدلين عنهما عند المعاينة والنزول، بل لم تكتف محكمة الإستئناف بذلك فقد قررت النزول وندبت عضو هيئة الحكم للنزول والمعاينة كما هو مبين في محضر المعاينة، ومن خلال ذلك تبين لهيئة الحكم أن الطريق الأخرى البديلة بعيدة عن مسكن المستأنف وفيها مشقة كبيرة حيث يمر من أعلى الوادي ويعود إلى الجهة العدنية من الوادي ويمر في أملاك أناس آخرين حتى يصل إلى ملكه جربة.... الواقعة في وسط الوادي فهو لا يستطيع الوصول إلى جربته المشار إليها بسهولة إلا بالمرور من (سوم/عبيلة/شرف/جانب) جربة... المملوكة للطاعن بالنقض، وحيث أن الدائرة المدنية ترى بأن محكمة الإستئناف قد أحسنت في معرفة الضرر وإلغاء حكم المحكمة الإبتدائية ولكنها توسعت في حق الإرتفاق حيث منحت المستأنف/ المدعي اكثر مما هو معتاد بحسب ما جاء في تقرير العدول وتقرير المعاينة بعد النزول لهيئة المحكمة وإفادة بعض الشهود مستندة إلى المادتين 1341 و 1358 مدني، وبما أن صاحب ملكية الرقبة المالك هو المستأنف ضده فلا يمكن إلزامه بإعطاء المستأنف حق المرور إلا على سبيل الإستثناء بما يزيل المشقة والضرر فقط، فالضرورة تقدر بقدرها فلا يجوز التوسع فيها، وحيث ان العرف المعتاد جار على السماح للجار في المزرعة أو الحقل بالمرور على (سوم/عبيلة) الجربة بالأقدام أو بالحيوانات فلا يجوز الحكم على مالك الجربة بأن يعطي حق المرور للحراثة أوالسيارة وإلزامه بقلع أشجاره لإفساح الطريق، وبرجوع الدائرة إلى الحكم الإستئنافي وبما أن من حق المحكمة العليا الرقابة والنظر فيما ينبغي إعتباره من المسائل القانونية الخاضعة لرقابتها ومعرفة نوع الخطأ القانوني وفي أي جزء من الحكم، لذلك فإن الدائرة تقرر لزوم الإرجاع إلى محكمة الإستئناف بخصوص هذه الجزئية من الفقرة الثانية من منطوق حكمها مع تأييد الدائرة للفقرة الأولى التي قضت بإلغاء الحكم الإبتدائي، وبناءً على ما سبق وبعد المداولة فإن الدائرة واستناداً إلى المادتين 299 و 300 مرافعات تحكم بقبول الطعن شكلاً وموضوعاً في الفقرة المشار إليها وإرجاع ملف القضية إلى محكمة الإستئناف للنظر فيه مجدداً فيما أشرنا إليه من أسباب وإرجاع كفالة الطعن للطاعن)
"وسيكون تعليقنا على الحكم السابق ذكره بحسب الأوجه الآتية:"

الوجه الأول: نشأة حق الإرتفاق واكتسابه

عرفت المادة (1340) من القانون المدني حق الإرتفاق بأنه: (منفعة مقررة على عقار تحد من انتفاع مالكه به لمصلحة عامة أو مصلحة خاصة) في حين بينت المادة (1341) مدني كيفية اكتساب الإرتفاق حيث نصت على أنه (يكتسب الإرتفاق بإذن المالك أو بالتصرف الشرعي أو بالميراث أو بالعرف) وعند المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أنه قد استند في تقرير حق الإرتفاق أو الإنتفاع إلى العرف السائد، والمقصود بالعرف في موضوع القضية التي فصل فيها الحكم هو العرف السائد بين الفلاحين في المنطقة الزراعية أو الوادي الذي حدث النزاع فيه بشأن الإرتفاق، ومن خلال الإطلاع على الحكم وموضوع النزاع نجد أن الحكم محل تعليقنا قد قرر حق الإنتفاع بالمرور ابتداءً حيث أن المدعي طالب بحق المرور إلى أرضه عن طريق الأرض المملوكة للمدعى عليه، حيث كان المدعي يمر إلى أرضه عن طريق أخرى بعيدة وشاقة حسبما ورد في الحكم، ولأن العرف غير مضطرد فهو يختلف من واد إلى واد ومن منطقة زراعية إلى أخرى، ولأن العرف غير مستقر ولأن العرف غير مكتوب وبحاجة إلى إثبات أمام محكمة الموضوع، ولأن أرض المدعي (الجربة) وموقعها ومكانها ومساحتها وكذا الأرض التي يطالب المدعي بالمرور منها إلى أرضه غير معلومة أيضاً فقد قرر الحكم محل تعليقنا أن هذه المسألة غامضة تحتاج إلى تحقيق موضوعي تجريه محكمة الموضوع المختصة ، فهذا الغموض يعيق مهمة المحكمة العليا في بسط رقابتها القانونية كما سنرى في الوجه الثاني من تعليقنا.

الوجه الثاني: المسائل الموضوعية ذات الصلة بالمسائل القانونية واختصاص المحكمة العليا بالرقابة عليها

من أهم وظائف المحكمة العليا الرقابة على سلامة وصحة تطبيق محاكم الموضوع للقانون وعدم مخالفته أو الخطأ في تطبيقه أو إعماله، ولذلك كانت مخالفة القانون أو الخطأ فيه أو في تطبيقه وإعماله من أسباب الطعن بالنقض أمام المحكمة العليا، وعلى هذا الأساس فإن المحكمة العليا بإعتبارها محكمة قانون تملك الخوض في المسائل الموضوعية بغرض التحقق من عدم مخالفة الحكم المطعون فيه للقانون أو الخطأ في تطبيق القانون أو إعماله على الواقعة أو الموضوع محل النزاع، فلا يتسنى للمحكمة العليا الرقابة القانونية إلا إذا قامت بمناقشة المسائل الموضوعية ذات الصلة بالقانون من حيث مخالفته أوالخطأ في تطبيقه وإعماله، وعلى هذا الأساس فقد قرر الحكم محل تعليقنا أنه كان ينبغي على محكمة الإستئناف التي أصدرت الحكم المطعون فيه أن تجري تحقيقاً موضوعياً وافياً ومناسباً وكافياً بشأن العرف السائد في الوادي أو المنطقة الزراعية وكذا موقع العقارين ومساحتهما والمسافة فيما بين منزل المدعي بحق الإرتفاق والأرض الزراعية المملوكة له في الوادي ونوع المحاصيل المزروعة فيها والأدوات والوسائل اللازمة لزراعتها وكيفية وصولها أو إدخالها إلى الأرض المملوكة والطرق البديلة وغير ذلك ، ولذلك فقد أشار الحكم محل تعليقنا إلى أن هذه المسألة الموضوعية غامضة تحتاج إلى تحقيق موضوعي لإزالة الغموض حتى تكون واضحة وحتى يكون الحكم واضحاً تبعاً لذلك، وهذه المسألة وإن كانت موضوعية إلا ان الغموض الذي أحاط بها حال دون رقابة المحكمة العليا القانونية من حيث تطبيق النصوص القانونية الناظمة لحق الإرتفاق.

الوجه الثالث: المعاينة وتأثيرها على سلامة تطبيق القانون

من أهم أسباب إحالة القضية إلى محكمة الإستئناف بحسب ما ورد في الحكم محل تعليقنا هو عدم كفاية البيانات والمعلومات من خلا ل معاينة محكمة الإستئناف للأرض المملوكة لطالب الإرتفاق بالمرور إليها وموقعها والطرق المؤدية إليها وغير ذلك، فالمعاينة من أهم وسائل الإثبات ومن أصدقها إذ أن المحكمة تستطيع الوقوف على الحقيقة كما هي مشاهدةً ومعاينةً ، كما أن المعاينة توفر لدى المحكمة الإطمئنان والقناعة ، وتبعاً لذلك يستطيع القاضي أن يطبق القانون تطبيقاً سليماً، فقد صرح الحكم محل تعليقنا بأن موضوع النزاع غامض يحتاج إلى تحقيق موضوعي ومعاينة تباشرها محكمة الموضوع حتى تزيل هذه المعاينة وذلك التحقيق ملابسات الموضوع وغموضه ومن ذلك معرفة العرف السائد في الوادي وكيفية انتقال المزارعين من وإلى مزارعهم والطرق التي يسلكونها والوسائل التي ينتقلون بواسطتها ومساحة الأرض المطلوب المرور إليها والمحاصيل المزروعة في المزرعتين مزرعة طالب الإرتفاق والمزرعة المطلوب المرور منها والمسافة فيما بين المزرعتين والمسافة فيما بين منزل طالب الإرتفاق والمزرعة.....إلخ بالإضافة إلى بحث البدائل الأخرى ، لأن هذه البيانات التي تكشفها المعاينة لازمة لتطبيق نصوص القانون تطبيقاً صحيحاً ومؤثرة على ذلك.

الوجه الرابع: نطاق حق الإرتفاق

بينت المادة (1344) مدى نطاق الإرتفاق حيث نصت على أن (يتحدد نطاق الإرتفاق بالسبب الذي أنشأه أو بالعرف السائد في الجهة التي يقع فيها العقار المرتفق به) وبما أن الحكم محل تعليقنا قد صرح بأن الحكم الإستئنافي قد توسع في نطاق الإرتفاق مخالفاً بذلك للعرف، وبما أن السبب المنشئ لحق الإرتفاق في القضية التي فصل فيها الحكم الإستئنافي هو العرف السائد فكان يتوجب على محكمة الإستئناف التوسع في بحث العرف السائد في المنطقة لمعرفة نطاق حق الإرتفاق بالمرور وعدم مخالفة ذلك العرف، حيث ان العرف السائد في اليمن عامة أن حق المرور من وإلى المزارع والحقول يقتصر على مشي الناس والحيوانات بالأقدام وليس السيارات أو الحراثات حسبما أشار الحكم ، ولذلك فإن الحكم الإستئنافي خالف العرف السائد الذي انشأ الحق في الإرتفاق، وتبعاً لذلك خالف الحكم الإستئنافي القانون الذي أحال إلى العرف من حيث نشأة حق الإرتفاق ونطاقه.

الوجه الخامس: حق الإرتفاق بالمرور في أرض الغير مقرر على سبيل الإستثناء فلا يجوز التوسع فيه

الأصل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية والدستور أن الملكية الخاصة محترمة لا يجوز نزعها أو مصادرتها إلا لمنفعة عامة وبتعويض عادل حسبما ورد في الدستور، وعلى سبيل الإستثناء فإن العرف السائد في اليمن جار على أنه مسموح للمزارعين بالمرور من وإلى مزارعهم عن طريق مزارع الغير مشياً على الأقدام مصطحبين معهم الحيوانات التي يحرثون بها أو يحملون عليها محاصيلهم ومستلزمات الزراعة حيث يمرون على حواف مزارع أوحقول الغير،وهذا كله على سبيل الإستثناء ومن المقرر طبقاً لأحكام الشريعة والقانون أن الإستثناء لايجوز التوسع فيه أو القياس عليه ، وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق فقد أبطل الحكم محل تعليقنا الحكم الإستئنافي المطعون فيه الذي توسع في الإستثناء والقياس فأجاز للمرتفق بالمرور على أرض الغير أن يمر بالحراثة لحراثة الأرض التي يملكها في وسط الوادي، ومعلوم أن مرور الحراثة يحتاج إلى أكثر من خمسة أمثال طريق المارة من الناس والدواب، وفي ذلك توسع في الإستثناء يصادر أراضي الغير من غير تعويض وذلك محظور طبقاً لأحكام الشريعة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) لاسيما وأن طريق الحراثة تقتضي جعل الطريق طريقاً عامة سابلة يمر عليها الكافة وتنتزع ملكيتها من مالكها بدون حق ، وجعل الطريق على هذا النحو يقتضي من المالك قلع أشجاره أو هدم جوانب وأسوار حقله وذلك من المفاسد مقابل أن ينتفع المرتفق أو طالب الإرتفاق، ومن القواعد المستقرة في الشريعة الإسلامية أن (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع) كما أن الغالب في الحيازات الزراعية في اليمن أن تكون مساحتها صغيرة فلو اتسع حق الإرتفاق لاستهلك حق المرور أو الإرتفاق منها الكثير وهذا مالم تأذن به الشريعة والدستور والقانون ، فإذا أراد طالب الإرتفاق مرور حراثته أو سيارته من أرض غيره فعليه عندئذ أن يسلك المسالك الأخرى لإكتساب الإرتفاق وهي إذن المالك أو التصرف الشرعي بأن يشتري من المالك مساحة الأرض التي يحتاجها لمرور سيارته أو حراثته، لأن المادة 1341 مدني قد حددت وسائل اكتساب حق الإرتفاق والمرور وهي بالإضافة إلى العرف إذن المالك والتصرف الشرعي والميراث.

الوجه السادس: الفرق بين حق الإنتفاع بالمرور والطريق

من المقرر فقهاً وقانوناً أن حق الإنتفاع بالمرور من الحقوق التبعية وليس الأصلية ، لذلك فهو مقرر لمصلحة المزرعة أو الحقل ، كما أن هذا الحق عيني فهو تابع للعين أي المزرعة أو الحقل وليس حقاً شخصياً، وعلى هذا الأساس فإن حق المرور في أرض الغير مقصور على مالك الأرض (العين الأصلية) أو عماله أو حيواناته التي يريد إدخالها إلى أرضه للحراثة بها أو الحمل عليها أو رعيها ، ولذلك فلا يجوز لغير مالك العين حق المرور في أرض الغير في حين أنه يجوز لكافة الأشخاص المرور في الطريق العامة كذلك الحال بالنسبة للطريق الخاصة التي يخصصها بعض الملاك للمرور إلى أملاكهم أو منازلهم كما تكون الطريق العامة أو الخاصة مفتوحة أمام الكافة ، أما الطريق في حق الإرتفاق فلا تكون مفتوحة إذ الغالب أن تكون مغلقة بباب أو سياج أو زرب (أشواك) قابل للفتح.

الوجه السابع: النقض الجزئي للحكم

تضمن الحكم محل تعليقنا نقضاً جزئياً للحكم الإستئنافي ، فحكم المحكمة العليا لم يقرر النقض الكلي للحكم حيث اقتصر على نقض الفقرة التي كانت تقضي بحق المنتفع بمرور الحراثة من أرض الغير إلى أرضه لحراثتها، وبناءً على ذلك فإن المحكمة العليا قد اقرت بقية الفقرات التي صارت حكماً باتاً استنفذ كافة مراحل الطعن، وتبعاً لذلك يرتب كافة آثارة بما في ذلك تنفيذ الفقرات التي اقرها حكم المحكمة العليا محل تعليقنا.

الوجه الثامن: مدى إلزام توجيه المحكمة لعليا لمحكمة الإحالة

قضى الحكم محل تعليقنا بنقض الفقرة الثانية ممن منطوق الحكم الإستئنافي وأحال هذه الجزئية أو الفقرة إلى محكمة الإستئناف للفصل فيها من جديد في ضوء تحقيق موضوعي تجريه في هذا الشأن، وهناك خلاف بين شراح قانون المرافعات بشأن إلزام توجيه المحكمة العليا لمحكمة الإحالة، ولايتسع المجال هنا لتناول هذا الخلاف وبسط أسبابه وتفاصيله، ولذلك فسوف نكتفي بذكر خلاصة هذا الخلاف وثمرته من وجهة نظرنا وهي إذا كان توجيه المحكمة العليا وإرشادها متعلق بمسألة موضوعية محضة فذلك التوجيه لا يكون ملزماً لمحكمة الإحالة، إذ أن السلطة التقديرية في هذه المسائل الموضوعية مناط بها بإعتبارها محكمة موضوع، أما إذا كان التوجيه متعلق بمسائل قانونية أو مسألة موضوعية تم تطبيق النص القانوني عليها فإن إرشاد المحكمة العليا يكون ملزماً لمحكمة الإحالة، والله أعلم.

عدم جواز التوسع في حق الإنتفاع
عدم جواز التوسع في حق الإنتفاع