سرقة الموظف للأموال العامة
أ.د عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
من الإشكاليات العملية التساهل مع جرائم
الاعتداء على المال العام ورعاية الفساد والاهتمام به ويظهر ذلك جلياً من العقوبات
المقررة على جرائم الاعتداء على المال العام إضافة الى أن هناك تداخل بين مفهوم
جريمة السرقة وجريمة الاختلاس والاستيلاء على المال العام؛فلاريب ان هذه المسائل
تحتاج إلى تسليط الضوء عليها والتوعية بشانها
، ولذلك اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة
العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 10/5/2011م في الطعن الجزائي رقم (42117) وتتلخص
وقائع القضية ان موظفا قام
ببيع أربع عجلات أسلاك كهرباء كبيرة حيث قام بتحميل العجلات البكرات
بالشيول إلى ناقلة حملت العجلات المسروقة إلى جهة مجهولة وقد كانت تلك العجلات
مخصصة لتنفيذ مشروع كهرباء منطقة ريفية ، وقد تم ضبط الموظف المتهم الذي افاد بان
مدير فرع المؤسسة قد امره بان يحمل
البكرات الى الناقلة وقد تم احالة الموظف مع المدير إلى النيابة للتحقيق والتصرف
بحسب القانون حيث كانت الواقعة ثابتة ولذلك قامت نيابة الأموال العامة بتقديم
المذكورين إلى المحكمة بتهمة سرقة مال منقول بالغ النصاب مملوك لمؤسسة الكهربا وهو
عبارة عن أربع بكرات أسلاك قيمتها خمسة عشر ألف دولار حيث قاما ببيعها لأشخاص
مجهولين وتحميلها لهم بالشيول إلى سيارة ديانا غير معروفة وأخذا ثمنها وتصرفا به
تصرف المالك في ملكه ولم تتوفر في فعلهما شروط إقامة الحد الشرعي لوجود شبهة الملك
كون المال مالاً عاماً !!! حسبما ورد في قرار الاتهام ، وقد حكمت المحكمة الابتدائيةبإدانة الموظف بسرقة البكرات
الأربع وحبسه لمدة ستة أشهر من تاريخ القبض عليه عقوبة في الحق العام وفي الحق
الخاص إلزامه بإعادة المسروقات عيناً أو ثمنها بما يقدره عدلان عند التثمين وتسليم
خمسين ألف ريال أتعاب المحاماة للشؤون القانونية ، وقضى الحكم الابتدائي ببراءة المتهم الثاني وهو
المدير) وقد ورد في أسباب الحكم الابتدائي ( بالنسبة للمتهم الثاني(المدير) فقد
قامت النيابة العامة بتقديمه للمحكمة بالتهمة ذاتها بموجب شهادة الشهود إلا أن
النيابة عجزت عن إحضار الشهود متعللة بأنهما غيروا عنوانيهما ولم يتم الاهتداء الى
عنوانيهما الجديد كما انه لم يتم تقديم دعوى مدنية بحقه وحيث إن التهمة ثابتة قبل
المتهم الأول بشهادة شهادتين بما فيها شهادة المتهم الثاني المقبولة شهادته بموجب
المادة (33) إثبات وحيث لم تثبت الواقعة بحق المتهم الثاني حسبما أشير إليه أنفاً
وحيث طالب ممثل الشؤون القانونية بإعادة المسروقات أو قيمتها وحيث لم يستطع المتهم
الأول دفع التهمة عن نفسه )فلم يقبل
المتهم الأول بالحكم الابتدائي فقام باستئناف الحكم إلا أن محكمة الاستئناف
رفضت استئنافه وقضت بتأييد الحكم الابتدائي ، وقد ورد في أسباب الحكم ألاستئنافي (
أن أقوال المتهم وإن تناقضت إلا أنها متفقة في حصيلتها مع ما ورد في شهادة الشاهدين
من قيامه بسرقة البكرات وتحميلها إلى السيارة الديانا اما قول المتهم الاول امره
بذلك فلم يتم إثباته ) فقام المتهم الاول
بالطعن بالنقض في الحكم ألاستئنافي إلا أن المحكمة العليا رفضت الطعن وأقرت
الحكم ألاستئنافي ، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا ( أن ما ورد في
الطعن تكرارً لما سبق للطاعن إثارته لدى
محكمة الموضوع التي قامت بمناقشته والفصل فيه كما انه مجادلة في حقيقة الواقعة
التي اقتنعت بثبوتها في حقه المحكمة مصدرة الحكم محل الطعن بعد مناقشتها لقيمة
الأدلة التي عولت عليها في الإثبات وجعلتها أسباباً لحكمها وسنداً لقضائها وهاتان
المسألتان من ضمن المسائل الموضوعية التي تستقل بنظرها والفصل فيها محكمة الموضوع
وقد فصلت في ذلك فلا تمتد رقابة المحكمة
العليا إليها وفقاً للقانون طالما ولها أصلها في الأوراق) وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الآتية :
الوجه الأول : تصوٌر الواقعة التي تناولها الحكم محل تعليقنا:
تصور الواقعة هو بيان كيفية وقوعها ، لان
الحكم على الشيء فرع من تصوره ، فمن خلال مطالعة وقائع القضية التي تناولها الحكم
محل تعليقنا نجد إن البكرات الأربع لأسلاك الكهرباء كانت في حوش فرع المؤسسة أي
أنها كانت محرزة ونجد أن المتهمين ليسوا من خارج فرع المؤسسة وإنما من مسئولي
الفرع مدير ومدير مشروع الكهربا ، فالمتهم الأول هو المسئول عن تنفيذ مشروع
الكهربا الريفي الذي تم تخصيص البكرات لتنفيذه في حين ان المتهم الثاني هو مدير
فرع المؤسسة نفسه ، ونجد أيضاً ان المتهم الأول مسئول المشروع هو الذي قام بجلب
الشيول والسيارة التي أخرجت البكرات من حرزها وان الذي كان حاضراً في مسرح الجريمة
هو مسئول المشروع اما المتهم الثاني (مدير الفرع) فلم يكن حاضراً وإنما ذكر المتهم
الأول ان المدير اتصل به وأمره بان يقوم بتحميل
البكرات إلى السيارة المشار اليها وان هناك شهود على إن المدير قد أمر بذلك إلا إن
المتهم الأول والنيابة العامة عجزوا عن إحضار أولئك الشهود الذين سمعوا امر المدير
للمتهم الأول مسئول المشروع ، ومن خلال ذلك نجد أيضاً ان المتهم الأول مقر بأنه قد
قام بجلب السيارة والشيول وتحميل البكرات وان ذلك قد ثبت ايضا بشهادة الحارس
وشهادة المتهم الثاني (المدير).
الوجه الثاني : التكييف الشرعي والقانوني للواقعة :
تكييف هذه الواقعة يدور بين السرقة والاختلاس والاستيلاء
، وبيان ذلك كما سيأتي:
1- السرقة : هي اخذ مال منقول مملوك للغير اواخذ
مال الغير خفية ، وهذا التعريف متفق عليه في الفقه الإسلامي والقانون فقد نصت
المادة (294) عقوبات على ان (السرقة هي اخذ مال منقول مملوك للغير خفية) وعند
تطبيق هذا المفهوم على الواقعة التي أشار إليها الحكم محل تعليقنا نجد ان غالبية
أركان السرقة قد تحققت في الواقعة باستثناء ركن الخفية لان اخذ أربع بكرات من حوش
المؤسسة وتحميلها بالشيول الى ظهر ناقلة يسوقها شخص آخر وفي وجود حارس وأشخاص
آخرين ينافي الخفية.
2- الاختلاس والاستيلاء : الاختلاس هو أخذ مال الغير خلسة ولذلك فالاختلاس في
القوانين الوضعية مرادف للسرقة في الفقه الإسلامي الا ان السرقة يكون محلها
الاموال الخاصة في حين ان الاختلاس يكون محله الاموال العامة ، فمن أهم خصائص
وأركان السرقة في الفقه الإسلامي انها تتم خفية فإذا انتفى وصف الخفية فلا يكون
الفعل سرقة ، وكذلك بالنسبة للاختلاس اذا لم يتم خلسة أي خفية فلا يكون الفعل
اختلاساً ولذلك عرف القانون المصري جريمة السرقة في المادة (311) عقوبات بأنها (
اختلاس مال منقول مملوك للغير بقصد تملكه ) اما قانون الجرائم اليمني فلم يعرف
الاختلاس وان تناول صوره ومن خلال هذا التناول يظهر ان هناك فرق بين الاختلاس والسرقة
فالسرقة يكون محلها أموال الأفراد غير الدولة في حين يكون محل الاختلاس هو المال
العام كما الفاعل في الاختلاس يكون موظفا عاما بخلاف السرقة فالمادة (162)عقوبات
التي بينت عقوبة الاختلاس صرحت بان الفاعل في الاختلاس موظف عام حيث نصت على ان
(يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سبع سنوات كل موظف عام اختلس مالاً وجد في حيازته
بسبب وظيفته أو استغل وظيفته فاستولى بغير حق على مال الدولة أو إحدى الهيئات
والمؤسسات) فالاختلاس يقع من الموظف العام
على مال موجود في حيازة الموظف
الجاني وكذلك الحال بالنسبة
للاستيلاء الا ان الاستيلاء يختلف عن الاختلاس في انه لايشترط فيه ان يكون المال
المستولى عليه في حيازة الموظف الجاني؛ ومن خلال ما تقدم يظهر ان الوصف القانوني
الذي كان ينطبق على الواقعة التي تناولها الحكم محل تعليقنا هو الاستيلاء على
المال العام أو تسهيل ذلك للغير.
الوجه الثالث : مظاهر التساهل القانوني في مواجهة جرائم الاختلاس والاستيلاء على المال العام :
ذكرنا في الوجه السابق ان السرقة يكون محلها المال الخاص
وتقع من غير الموظف العام في حين ان جريمة الاختلاس والاستيلاء تقع من موظف عام
ويكون محلها المال العام ، وعند إمعان النظر في النص العقابي المجرم لجريمة
الاختلاس والاستيلاء على المال العام نجد ان النص قد اكتفى بذكر الحد الاعلى
للعقوبة حيث نصت (162) عقوبات على ان ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سبع سنوات كل
موظف عام اختلس مالاً وجد في حيازته بسبب وظيفته أو استغل وظيفته بغير حق للاستيلاء
على مال للدولة أو إحدى الهيئات أو المؤسسات) ومن خلال استقراء هذا النص نلاحظ انه
قد حدد الحد الأقصى للعقوبة وأحجم عن تحديد الحد الأدنى للعقوبة ، وتبعاً لذلك يتم
تطبيق القواعد العامة فيما يتعلق بالحد
الأدنى للعقوبة في هذه الحالة حسبما ورد في المادتين (16 و 39) عقوبات باعتبار
جريمتي الاختلاس والاستيلاء من الجرائم الجسيمة التي تكون عقوبتهما الحبس مدة تزيد
على ثلاث سنوات ، وباعتبار ان عقوبة الحبس قد عرفتها المادة (39) بأنها لا
تقل مدة الحبس عن أربع وعشرين ساعة ولا تزيد
عن عشر سنوات مالم ينص القانون على خلاف ذلك ؛ كما انه من الملاحظ ان النيابة قامت بتكييف الواقعة على انها سرقة
تعزيرية لان عقوبة السرقة التعزيري تقل كثيراً عن عقوبة الاختلاس وذلك ظاهر عند
المقارنة بين عقوبة الاختلاس وعقوبة السرقة التعزيرية حيث حددت المادة (300)
عقوبات عقوبة السرقة التعزير حيث نصت على انه ( اذا ارتكب الفاعل جريمة سرقة ولا
تتوفر في فعله شروط الحد او سقط الحد لأي سبب من أسباب السقوط اذا صاحب الجريمة
أكراه او تهديد يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات) من خلال المقارنة بين
هذا النص ونص المادة (262) المحدد لعقوبة الاختلاس السابق ذكره نجد ان عقوبة
الاختلاس الحبس الذي لا تزيد مدته على سبع سنوات في حين ان عقوبة السرقة التعزيرية
الحبس الذي لا تزيد مدته على ثلاث سنوات) لان اختلاس الأموال العامة أو الاستيلاء
عليها اخطر من سرقة الأموال الخاصة.
الوجه الرابع : شبهة المال العام المسقطة لحد السرقة :
من خلال مطالعة قرار الاتهام المشار إليه في الحكم محل
تعليقنا نجد انه قد قرر بأن شبهة المال العام المسروق مسقطة لحد السرقة أي أن سرقة
المال لا تعد سرقة لمال الغير لان في المال العام نصيب مشاع للسارق في المال العام
ولذلك فأنه في هذه الحالة لا يكون سارقاً لمال الغير وإنما هو سرق مالا له فيه
نصيب مشاع وفي ذلك شبهة يدرأ بها حد السرقة حسبما أشار قرا الاتهام ، وهذا هو
القول الضعيف جداً في الفقه الإسلامي وهو قول فقهاء الفساد قديماً وحديثاً الذين
أوجدوا المخارج والحيل لسراق المال العام ، علماً بان القانون اليمني لم يأخذ بهذا
الرأي الضعيف وانما اخذ بقول الجمهور حيث يكون الموظف العام أو غيره سارقاً للمال
اذا أخذه خفية ولم يكن هذا المال بحوزته أو ام يتم تسليمه له بمناسبة او لسبب
وظيفته ، فما ورد في قرار الاتهام في هذه المسألة يخالف القانون فضلاً عن مخالفته للقول المعتبر في فقه الشريعة الإسلامية، والله
اعلم.