جريمة الوساطة في القانون اليمني

 

جريمة الوساطة في القانون اليمني

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعا 

من اخطر الجرائم التي تهدد  العدالة والوظيفة العامة بل وتهدد وجود السلطة العامة كعنصر من عناصر الدولة جريمة  الوساطة التي اطلق عليها القانون مسمى استغلال النفوذ ؛فهذه الجريمة استفحلت في المجتمع اليمني واوجدت طائفة من المتاجرين بالنفوذ سواء اكان هذا النفوذ حقيقيا او مزعوما و مزيفا, وللهروب من عقوبة هذه الجريمة الخطيرة  وعدم تطبيقها على غالبية افعال الوساطة واخطرها تمت تسميتها بغير اسمها الحقيقي حتى تتكسب من ورائها طائفة انتهازية كل همها اشباع رغباتها في المتاجرة بالوظيفة العامة وحقوق ومصالح الشعب, ولان الوساطة ظاهرة ضاربة اطنابها في المجتمع اليمني فهي تحتاج الى دراسة من نواحيها المختلفة الاجتماعية والوظيفية والاقتصادية ....الخ, ولاشك ان بيان الموقف الشرعي والقانوني والقضائي من هذه الجريمة هو الجانب المهم والاسرع للمعالجة, وحتى نلفت عناية من يريد اصلاح الحال ومحاربة ظاهرة الوساطة في المجتمع اليمني اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 17/1/2011م في الطعن الجزائي رقم (40010) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان موظفا اخذ مبلغا من شخص مقابل ان يقوم هذا الموظف بالوساطة لدى عضو النيابة كي يتصرف عضو النيابة في التحقيق لصالح الشخص الذي دفع المبلغ, وعندما اخفقت وساطة الموظف قام الشخص الذي دفع المبلغ الى الموظف بتقديم الشكوى  بالموظف الى النيابة العامة التي اصدرت قرار اتهام الموظف بتهمة ارتكابه جريمة استغلال النفوذ بموجب المادة (159) عقوبات فقام الموظف بالدفع امام المحكمة بعدم صدور الاذن من النائب العام بالتحقيق معه ومحاكمته الا ان المحكمة الابتدائية حكمت برفض الدفع لان النائب العام قد اصدر تعميما اذن بموجبه لروساء النيابة العامة بمنح الاذن بالتحقيق مع الموظفين مادون المدير العام فٱعلى  كما قضت المحكمة الابتدائيةبادانة المتهم بالتهمة المنسوبة له ومعاقبته بالحبس لمدة سنة من تاريخ القبض عليه مع النفاذ , فقام الموظف باستئناف الحكم الابتدائي امام محكمة الاستئناف وذكر في استئنافه ان محكمة اول درجة قد رفضت الدفع  المقدم منه مخالفة بذلك للقانون الذي قيد النيابة والمحكمة من نظر القضية الا بعد صدور الاذن من النائب العام وقال في طعنه ان العقوبة المحكوم بها عليه وهي الحبس طويلة !!! فما كان من محكمة الاستئناف الا ان حكمت بتعديل عقوبة حبس المتهم الى (الاكتفاء بما امضاه المتهم في الحبس على ذمة القضية والتزامه بعدم العودة الى مثل هذا السلوك المشين حفظا على نزاهة القضاء وسمعته !!), فلم يقنع الموظف المتهم بالحكم الاستئنافي حيث قام بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا التي رفضت الطعن وايدت الحكم الابتدائي وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (ومن حيث الموضوع فان نعي الطاعن على الحكم الاستئنافي الخطأ في تطبيق القانون عندما اكتفى بتكييف النيابة للواقعة وان الوصف الصحيح لها انه راشي او وسيط وليس مستغل نفوذ وفقا لأحكام المادة (155), والدائرة تجد ان ما ذكره الطاعن ما هو الا جدل في مسألة موضوعية فلا يجديه نفعا لان عقوبة الرشوة واستغلال النفوذ واحدة اضافة الى ان محكمة الموضوع قد حكمت عليه بعقوبة اقل من الحد الادنى المقرر للجريمة التي ارتكبها حيث قضى الحكم الاستئنافي بالاكتفاء بالمدة التي قضاها الطاعن في الحبس في حين ان عقوبة الجريمة المدان بها هي جريمة جسيمة الحد الادنى لعقوبتها هو ثلاث سنوات) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : مصادر النفوذ او الوساطة في المجتمع اليمني :

من المسلم به ان جريمة الوساطة او استغلال النفوذ في القانون اليمني  منقولة حرفيا من القانون المصري الذي نقلها بوره  من القانون الفرنسي ؛ومصدر النفوذ في مصر وفرنسا يكمن في الوظيفة العامة, ولذلك فان هذه الجريمة تقع من الموظف وهذا الموقف لا غبار عليه في مصر او فرنسا, اما في اليمن فان الحال يختلف؛ فمثلا المشايخ في اليمن لهم نفوذ يفوق بملايين المرات نفوذ الموظفين فمثلا المشايخ هم اكثر الناس استغلالا لنفوذهم او لوساطتهم ومع ذلك فان مسئوليتهم الجنائية وعقوبتهم في القانون اليمني يسيرة كما سنرى؛ اما الموظف ولو كان مراسلا فان وساطته تكون جريمة جسيمة وعقوبتها جسيمة, طبعا انا ضربت مثلا فقط بنفوذ المشايخ في حين ان هناك مصادر اخرى للنفوذ في المجتمع اليمني منها النفوذ المناطقي والنفوذ الحزبي والنفوذ المالي فلا شك ان لكبار التجار ورجال الاعمال نفوذ وللحزبيين نفوذ ولمشايخ الدين نفوذ....الخ, ونفوذ هؤلاء وغيرهم اكبر من نفوذ الموظفين فلماذا جعل القانون اليمني استغلال نفوذ الموظفين جريمة جسيمة وتساهل مع غيرهم وجعل عقوبتهم غير جسيمة وتخييرية في ان واحد ولذلك اوصي  كل من له ارادة بإصلاح الحال بان يتجه الى تجريم الوساطة او استغلال النفوذ أيا كان نفوذه فالمسألة واضحة لا تحتاج الى تنظير او تخريج .

الوجه الثاني : تجريم الوساطة في القانون اليمني :

من الطريف ان القانون اليمني جرم الوساطة بمسمى (استغلال النفوذ) وجعلها من الجرائم الجسيمة والحقها بجريمة الرشوة حتى يذر الرماد في العيون, حيث نصت المادة (159) عقوبات على انه (يعد في حكم المرتشي ويعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة (151) كل موظف عمومي طلب لنفسه او لغيره او قبل او اخذ وعدا او عطية  لاستعمال نفوذ حقيقي او مزعوم للحصول او لمحاولة الحصول من اية سلطة عامة على اعمال او اوامر او احكام او قرارات او نياشين او التزام او ترخيص او اتفاق توريد او مقاولة او على وظيفة او خدمة او اية مزية من أي نوع فان لم تتوفر صفة الموظف العام في الجاني كانت عقوبته الحبس الذي لا يتجاوز ثلاث سنوات او الغرامة التي لا تزيد عن عشرة الاف ريال ويعتبر في حكم السلطة العامة كل جهة خاضعة لإشرافها) ومن خلال مطالعة النص السابق نلاحظ عليه ماياتي :

1؛-انه منقول من القانون المصري حتى انه استعمل مصطلح (موظف عمومي) المستعمل في القوانين المصرية في حين ان المصطلح السائد في اليمن هو(الموظف العام)

 2؛-كما يلاحظ ان النص السابق ليس متوازنا وعادلا علاوة على انه غير واقعي فهو لا يلائم الواقع اليمني.

3؛-النفوذ الحقيقي والقوي في اليمن ليس للموظفين وانما هو للمشايخ ورجال الاعمال وقادة            الاحزاب والنقابات ....الخ, اما الموظفين فلهم نفوذ ولكن نفوذهم اقل من نفوذ السالف ذكرهم, ومع ذلك فان الموظف اذا قام بالوساطة كان الفعل الصادر منه جريمة جسيمة أي لا تقل عقوبتها عن ثلاث سنوات في حين تكون عقوبة اصحاب النفوذ القوي الحبس الذي لا يزيد على ثلاث سنوات او الغرامة عشرة الف ريال !!! أي عقوبة تخييرية؛ طبعا ستكون الغرامة وليس الحبس.

4؛-القانون لا يجرم الوساطة الا اذا كانت استغلالا للنفوذ بمعنى اذا كان الهدف منها الحصول على المال مقابل استثمار او استغلال صاحب النفوذ لنفوذه, اما اذا كانت الوساطة بدون مال أي لا يقصد الوسيط منها الحصول على مال فليس هناك جريمة ولا عقوبة – فمثلا اذا قام الوزير او الشيخ او رجل الاعمال بالوساطة لاحد اقربائه او زملائه للحصول على وسام او نيشان او وظيفة او عمل او احكام او قرارات فليس هناك جريمة !!  لاشك ان هذا لهو الفساد المبين.

الوجه الثالث : الاثار المدمرة للوساطة على الوظيفة العامة والمصالح العامة في اليمن:

الوساطة بكل صورها واشكالها وبصرف النظر عن الاشخاص الذين قاموا بها وسواء تقاضوا اجرا نظير وساطتهم ام لا, هذه الوساطة سبب من اسباب الفساد الاداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي, ولذلك فهي جريمة متعدية لا يكون  فيها المجني عليه فردا او افرادا وانما هي جريمة بحق المجتمع باسره, حيث انها سبب من اهم اسباب تأخر المجتمع اليمني وتخلفه, ولذلك ينبغي على المشرع ان ينظر الى الوساطة من هذا المنظار ؛وينبغي عليه ان يجرمها على هذا الاساس وليس على اساس استغلال النفوذ كما هو الحال في فرنسا او مصر, فلكل دولة ظروفها ؛ ولذلك ينبغي ان يكون القانون  البمني ملائما لظروف المجتمع واحتياجاته وان يدفع عنه المفاسد والاضرار المحدقة به ؛والله اعلم.