ثبوت الأجير غصب
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
كان أهل صنعاء
القديمة من كبار اغنياء اليمن لانهم كانوا تجار أو موظفين فكانت لهم الاملاك
الزراعية الواسعة المناطق المختلفة؛ فكانوا يشترون الأرض من المالك نفسه الذي يقوم
بعد ذلك بتحرير اجارة للمشتري؛ وفي تلك العصور كان البائع والمشتري من أهل الورع
والتقوى فاستمرت العلاقة فيما بين المالك الجديد والمستأجر على خير ما يرام فكان
كل منهما يأخذ حقه الشرعي بحسب الاجارة المبرمة فيما بين الطرفين ولكن منذ أواخر
عقد الثمانينات من القرن الماضي 1986م بدأت هذه العلاقة تختل حينما ظهر الجشع
والطمع والحسد فقام ابناء المستأجرين بجحود
وانكار حقوق الملاك تارة بذريعة القاعدة الجاهلية (حد وبلد) التي بمقتضاها
يتم حرمان اصحاب الحق من المراهق التابعة لأملاكهم شرعاً وعرفاً وتارة اخرى بذريعة
(ليس للمشتري الا ما دفعه في حينه) حيث يتم تقويم المبالغ التي دفعها المشتري بسعر
الزمان والمكان، وفي أحيان اخرى قام المستأجرون بإنكار ملكية الملاك الشرعيين
والتمسك بالثبوت والحيازة في مواجهتهم بذريعة ان اهل صنعاء اشتروا تلك الاراضي
بثمن بخس!!! وهذه الاشكالية لها ابعادها الشرعية والقانونية والاخلاقية :ولذلك من
المناسب تسليط الضوء عليها ولفت الانظار اليها والتوعية بشأنها، ومن هذا المنطلق
اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 15/5/2011م في الطعن
المدني رقم (43516) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان
ورثة قاموا برفع دعواهم امام المحكمة الابتدائية مفادها: ان ورثة المستأجر
لاراضيهم الزراعية قد ماطلوهم في تجديد الاجارات ثم انكروا ملكيتهم لتلك الاراضي من
مورثيهم وابرز المدعون الاجارات الصادرة من مورثي المدعى عليهم فأنكر المدعى عليهم
تلك الاجارات فتم التعريف بخط كاتبيها فتمسك المدعى عليهم بالثبوت والحيازة وانهم
حائزون ثابتون من غير معارضة أو منازعة من المدعين وان المدعين لم يطالبوا بالغلات
منهم ومن مورثيهم، وقد طلب المدعون في دعواهم الزام المدعى عليهم بتجديد الاجارات
أو اطلاق الارض، وبعد ان سارت المحكمة الابتدائية في اجراءات نظر القضية توصلت الى
الحكم (بملكية المدعين للارض محل النزاع ورفض ادعاء المدعى عليهم بالثبوت
والحيازة) وقد ورد ضمن اسباب الحكم الابتدائي (بعد اطلاع المحكمة على الاجائر
المؤرخة رمضان 1383ه والقعدة 1387هـ وشوال 1383ه وحيث انكر المدعى عليهم صدور تلك
الاجائر فقد تم التعريف بها وحيث ان المدعى عليهم هم ورثة لأصحاب تلك الاجائر فلا
يحق لهم التمسك بالثبوت) فلم يقبل المدعى عليهم بالحكم الابتدائي فقاموا باستئنافه
إلا ان الشعبة الاستئنافية قضت بتأييد الحكم الابتدائي وقد ورد ضمن اسباب الحكم
الاستئنافي (ان تلك الاجائر المبرزة من المدعين حجة على المدعى عليهم المستأنفين)
فلم يقنع المستأنفون المدعى عليهم بالحكم الاستئنافي حيث قاموا بالطعن فيه بالنقض
الا ان الدائرة المدنية رفضت الطعن واقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم
المحكمة العليا (اما الاملاك التي تحت يد المدعى عليهم حالياً فان قضاء الحكم
الاستئنافي صحيح فقد استند الى الأجائر المبرزة من المدعين وهي الاجائر المؤرخة
رمضان 1384ه والقعدة 1387هـ اما ما دفع به الطاعنون بثبوتهم على تلك الاملاك فان
هذا الدفع قد ناقشه حكم محكمة الموضوع؛ ولما كان الامر كذلك فان مناعي الطاعن غير
مؤثرة) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول : الوضعية القانونية لعقد الإجارة :
من خلال مطالعة الحكم
محل تعليقنا نجد ان المقصود بالاجائر المذكورة في الحكم هي عقد ايجار المزارعة
المعروفة في اليمن التي يقوم المالك
بموجبها بتأجير ارضه للمزارع الذي يقوم بزراعتها مقابل جزء من محصولها، ومن خلال
استقراء النصوص القانونية ذات الصلة بهذا النوع من الاجائر المذكورة في القانون
المدني في المواد (من 765 إلى 772) ومن خلال استقراء النصوص القانونية ذات الصلة
بالمحررات العرفية المنصوص عليها في قانون الاثبات في المواد (من 103 إلى 109) نجد
ان عقد المزارعة أو الاجارة هو من جانب المستأجر بمثابة اقرار بان العين الموجرة
له هي ملك خاص وخالص للمالك الذي اجرها له ، لان المستأجر لا يستاجر المال الا من
مالكه، فبموجب الاجارة يكون الاجير مقر بملكية المالك المؤجر للعين الموجرة ، كما
ان مقتضى عقد الايجار يثبت ان يد المستأجر على الارض المؤجرة هي يد اجير وليس يد
مالك.
الوجه الثاني : استحالة ادعاء الاجير تملك الارض المؤجرة بالثبوت او الحيازة :
من خلال استقراء
النصوص القانونية السابق الاشارة اليها في الوجه الأول نجد ان المستأجر أو الاجير
مقر بملكية المؤجر للعين المؤجرة بموجب عقد المزارعة أو الايجار؛ وتبعاً فان هذا
الاقرار ايضاً إقرار بان يد المستأجر على الارض هي يد مستأجر وليس مالكاً للعين،
لان التملك بالثبوت والحيازة يقتضي ان تكون يد الحائز يد مالك وليس يد مستأجر حيث
يظهر الحائز أو الثابت على الارض بمظهر المالك، وبناءً على ذلك فانه من المحال
قانوناً على المستأجر أو الاجير التمسك بالحيازة أو الثبوت على العين المؤجرة في
مواجهة مالكها حسبما قضى الحكم محل تعليقنا ولذلك فتنطبق على الاجير في هذه الحالة
احكام الغصب وليس احكام الحيازة والثبوت.
الوجه الثالث : حجية عقد المزارعة أو الاجارة على ورثة المؤجر والمستأجر :
من خلال مطالعة الحكم
محل تعليقنا نجد ان الخلاف كان بين ورثة المالك المؤجر وبين ورثة الاجير في حين
كانت الاجائر فيما بين اباء واجداد الطرفين، ومع ذلك قضى الحكم بحجية تلك
الاجائر على ورثة الطرفين لان عقود
الإجارة تنتقل الى الخلف الخاص أو ورثة الطرفين المتعاقدين حسبما يقرر القانون صراحة؛
وتبعاً لذلك لم يكن هناك مقتضى لمطالبة المدعين لورثة الاجير بتجديد تلك الإجارات
ولذلك ايضاً لم ينص منطوق الحكم محل تعليقنا على تجديد الاجارات بحسب طلب المدعين.
الوجه الرابع : عدم شرعية وقانونية ذريعة (حد وبلد) وغيرها من الذرائع لأكل اموال الناس بالباطل :
حذر الله سبحانه وتعالى من مغبة أكل اموال الناس بالباطل؛ وتوعد الله
تبارك وتعالى الآكلين لاموال الناس بالعذاب في الاخرة وتعجيل العقاب في الدنيا؛
وذلك ظاهر في تاكيد الله لآية اكل اموال الناس بالباطل في القران مرات عدة (ولا
تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) وقوله تعالى (ولا تأكلوا
اموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم) فهذه الايات تنطبق على من
يجرد الملاك من المراهق التابعة لاملاكهم شرعاً وقانوناً وعرفاً فعقد الشراء أو
البصيرة أو الفصل ينص على ان البيع للارض يشمل مراهقها ومساقيها وطرقها واحجارها
واشجارها واصلها وقرارها ...الخ حسبما يرد في وثيقة ملكية الارض أو البصيرة، كما
ان الشريعة الاسلامية تقرر صراحة بان البيع للارض يشمل كافة المراهق والمرافق
وملحقات الارض المبيعة ومشاربها ومساقيها وطرقها واشجارها وما تم تخصيصه لمنفعة
الارض حسبما ورد في شرح الازهار 2/180
وكذا قرر القانون المدني على ان المراهق تابعة للارض المبيعة وان المبيع شامل لها
، ولذلك فان تجريد الملاك او اصحاب صنعاء من مراهق املاكهم مخالف للشرع والقانون
والعقد والعرف، لاسيما وان مساحات المراهق الخاصة بتلك الاموال تكون اضعافاً
مضاعفة لمساحات الاموال الاصلية ؛ولذلك فقد كان الجشع والطمع هو الدافع والباعث
للاستيلاء على تلك المراهق، وينطبق الحكم ذاته على سعى بعض المستأجرين لغصب اموال
المؤجرين بذريعة انه تم شراؤها بمبالغ زهيدة أو حبوب طعام أو غيرها؛ فهذه الذرائع
مخالفة للشرع والقانون والعرف والعقل.
الوجه الخامس : الحكم الشرعي والقانوني لإنكار المستأجر ملكية المالك :
عقد الاجارة من عقود الامانة حيث تكون العين المؤجرة امانة لدى الاجير يجب عليه المحافظة عليها وحمايتها من المعتدين والطامعين، فاذا قام الاجير أو المستأجر نفسه بانكار ملكية المالك المؤجر فقد خان الامانة واستوجب العقوبة المقررة لجريمة خيانة الامانة كما انه اثم يستحق العقوبة الاخروية؛اضافة الى ان ذلك يكون سبباً لنزع البركة من المال والولد (الثمرات اليانعة، يوسف بن احمد بن عثمان 1/65)؛ والله اعلم.