الجهة التي يقدم اليها الاستشكال الجنائي

 

الجهة التي يقدم اليها الاستشكال الجنائي

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من اخطر واهم أسباب إطالة إجراءات التقاضي وتعقيدها كثرة الاستشكالات في تنفيذ الأحكام وكيدية هذه الاستشكالات ؛فبعد ان تقطع القضايا مراحل التقاضي والطعون كلها بما فيها الطرق العادية وغير العادية التي تتخللها الدفوع والتظلمات والطلبات الكيدية تبدأ مرحلة المخالطة الثانية عن طريق الاستشكالات الكيدية في تنفيذ الأحكام كي تعطل إجراءات تنفيذ الأحكام الباتة، حيث تبدأ منازعات التنفيذ وصدور قرارات تنفيذية قابلة للطعن، بالطبع نحن لا نتكلم على الاستشكالات القانونية النظامية التي هي  مظهر من مظاهر الحق الشرعي والدستوري والقانوني في التقاضي فهذه الاستشكالات الرشيدة قليلة، ولأهمية هذا الموضوع وحتى نلفت أنظار المعنيين إلى هذا الموضوع فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 32/2/2011م في الطعن الجزائي رقم (43603) لسنة 1431هـ ، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان حكماً جزائياً قضى بإعدام خمسة أشخاص لثبوت قتلهم عمداً وعدواناً لاخوين شقيقين وقد أيدت هذا الحكم محكمة الاستئناف المختصة وأقرته الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا ثم صادق عليه رئيس الجمهورية وأذن بتنفيذ الحكم وقبل تنفيذ الحكم تقدم المحكوم عليهم باستشكال مفاده ان والدة المجني عليهما قد تنازلت عن  حقها في القصاص قبل وفاتها ثم قدموا وثيقة تفيد تنازل أخت المجني عليهما عن نصيبها في حق القصاص الذي صار اليها من بعد أمها المتوفية والدة المجني عليهما، وقد قضت محكمة أول درجة بعدم اختصاصها بنظر الاستشكال وقررت اعادة ملف القضية؛(الاستشكال) الى النيابة العامة، وقد جاء ضمن أسباب الحكم الابتدائي (من خلال دراسة المحكمة لعريضة الاستشكال ورد النيابة فقد وجدت المحكمة ان النيابة قد قامت بإحالة الاستشكال دون ان تتحقق من صحة الاستشكال لان النيابة العامة بمقتضى المادتين (529 ، 530) إجراءات لها السلطة التقديرية في تقرير ما اذا كانت العريضة استشكالاً من عدمه) فقام المحكوم عليهم باستئناف الحكم الابتدائي الا ان محكمة الاستئناف رفضت استئنافهم وقضت بإحالة القضية الى النيابة العامة لاتخاذ ما يلزم قانوناً) وقد ورد ضمن حيثيات الحكم الاستئنافي (فقد وجدت الشعبة ان سبب الاستشكال سابق على صدور الحكم الصادر عن المحكمة العليا وحيث انه اشترط لقبول الاستشكال ان يكون مبنياً على سبب لاحق لصدور الحكم محل التنفيذ اما اذا كان سبب الاستشكال هو الادعاء بان ام المجني عليها قد تنازلت عن حقها في القصاص قبل وفاتها بعد صدور الحكم الاستئنافي وقبل صدور حكم المحكمة العليا وحيث اثار عضو النيابة امام الشعبة ان هناك تنازل اخر من بنت المتوفية عن حقها في القصاص الذي صار لها أرثاً من والدتها ام المجني عليهما حسبما هو مبين في صورة التنازل الذي أبرزه عضو النيابة وحيث ان المحكوم عليهم قد تمسكوا بالاستشكال والتنازل وحيث ان المقرر وفقاً للمادة (590) إجراءات أن أي استشكال يتعلق بالاحكام الجنائية يتم رفعه الى النيابة التي تتولى تحقيقه فاذا رأت وجهاً لإحالته إلى المحكمة اذا كان حقيقياً يشكل منازعة تنفيذية ومفاد تلك المادة ان المحكمة ترفض أي منازعة في التنفيذ في الاحكام الجنائية شكلاً اذا تم رفعها مباشرة امام المحكمة ولم يتم تقديمها عن طريق النيابة لرفعها الى المحكمة وحيث ان الاستشكال قد تم تقديمه بخلاف الطريق التي حددها القانون كما ان المادة (600) من تعليمات النائب العام تقرر انه اذا قدم المحكوم عليهم بالقصاص طلب وقف التنفيذ استناداً الى أي سبب شرعي لسقوط القصاص بالعفو ونحوه فان على عضو النيابة العامة ان يبلغ رئيس النيابة ورئيس النيابة يتولى اتخاذ ما يلزم وابلاغ النائب العام واذا تبين له صحة ذلك فانه يحيل الموضوع إلى المحكمة المختصة للحكم بالعقوبة التعزيرية كما ان تعليمات النائب العام تقرر انه يتعين على عضو النيابة اذا تم تقديم الاستشكال مباشرة الى المحكمة ان يطلب رفضه ، وحيث ان الاستشكال لم يتم تقديمه عن طريق النيابة لتحقيقه لذلك فانه يتعين احالة الموضوع الى النيابة العامة بحسب الاختصاص) فلم يقبل المحكوم عليهم بالحكم الاستئنافي فقاموا بالطعن بالنقض في الحكم الا ان الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد جاء ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وحيث ان الطاعنين قد نعوا على الحكم الاستئنافي مخالفة القانون؛ ومن خلال دراسة الدائرة لأوراق القضية فقد وجدت ان تلك المناعي ليست في محلها لان الحكم المطعون فيه لم يخالف القانون عندما استند إلى المادة (529) إجراءات باحالة الأوراق إلى النيابة العامة لاتخاذ ما يلزم قانوناً كما ان الحكم المطعون فيه لم يتأسس على تعليمات النائب العام وانما اشار الى تلك التعليمات باعتبارها إجراءات كان ينبغي على الطاعن وعضو النيابة اتباعها) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : عدم جواز تقديم الاستشكال في تنفيذ الحكم الجنائي إلى المحكمة مباشرة :

قضى الحكم محل تعليقنا عدم جواز قيام المحكوم عليه بتقديم الاستشكال في تنفيذ الحكم الجنائي الى المحكمة مباشرة فان فعل ذلك فان الجزاء المقرر هو رفض استشكاله وسند الحكم في ذلك المادة (590) إجراءات التي حددت الجهة التي يتم تقديم الاستشكال اليها وهي النيابة العامة وليس المحكمة فمقتضى هذا النص ان تكون المحكمة غير مختصة بنظر الاستشكال الذي يتم تقديمه اليها مباشرة.

الوجه الثاني : وجوب تقديم الاستشكال الى النيابة العامة للتحقيق فيه :

سبق القول ان المادة (590) إجراءات قد اوجبت تقديم الاستشكال في تنفيذ الحكم الجنائي إلى النيابة حتى تتولى تحقيقه لان الاستشكال يتضمن وقائع مادية تحتاج الى دراسة وتحقيق في متسع من الوقت للتاكد من صحتها وسلامتها وتمحيص ادلة ثبوتها؛ وقد قرر القانون بان الجهة الأجدر للقيام بهذه المهمة هي النيابة العامة للسلطات المخولة لها قانوناً وخبرتها وتخصصها في هذا المجال، حتى تستطيع النيابة التحقق من صحة الواقعة سبب الاستشكال، حيث لاحظنا ان سبب الاستشكال في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان تنازل أم المجني عليهما ثم تنازل ابنتها من بعد وفاتها فقد كانت واقعة التنازل تحتاج الى تحقيق للتأكد من صدورها من الأم وتاريخ صدورها ومدى صحتها وكذلك الحال بالنسبة لتنازل ابنتها، وفي ضوء نتائج التحقيق الذي تجريه النيابة يتم إحالة الاستشكال الى المحكمة اذا اسفرت نتائج التحقيق عن صحة الواقعة سبب الاستشكال واذا تأكد للنيابة عدم صحة تلك الواقعة فانها تمضي في إجراءات تنفيذ الحكم لاسيما وان النيابة العامة هي التي تتولى الاشراف على تنفيذ الأحكام الجزائية وليس المحكمة ولهذا الجانب أيضاً كانت النيابة هي الأجدر بان يتم تقديم الاستشكال في تنفيذ الحكم الجنائي اليها وليس للمحكمة.

الوجه الثالث: إشكالات التنفيذ الكيدية وتأثيرها السلبي على القضاء والعدالة وتوصيتنا للجهات المعنية :

إشكالات التنفيذ نظمها القانون على أساس ان  هذه الاشكالات أو منازعات تنفيذ الاحكام انها منازعات تنفيذية حقيقية  تثور بمناسبة تنفيذ الحكم لاسباب لاتظهر الابعد صدور الحكم؛ ولاتمس  هذه المنازعات اصل الحق أو الموضوع الذي فصل فيه الحكم سند التنفيذ، حيث يتولى قاض التنفيذ الفصل فيها من غير حاجة إلى جلسات محاكمة ، هذا بالنسبة للاحكام المدنية، اما بالنسبة للاحكام الجزائية فقد تقدم القول بانه يتم تقديم الاستشكالات الى النيابة لتحقيقها فاذا ظهر لها صحتها احالتها للمحكمة الجزائية للفصل فيها، والجامع المشترك بين كل الاستشكالات في الاحكام الجزائية والمدنية هو ان اغلبها كيدية لا يستهدف منها المستشكل الا تعطيل إجراءات التنفيذ وتعويقها وتأخيرها كما ان اغلبها لا ينطبق عليها المضمون القانوني لمنازعات التنفيذ مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكممحل تعليقنا  فقد قام المحكوم عليهم بتقديم استشكالهم الى المحكمة وليس للنيابة العامة وهم يعرفون ان الاستشكال كيدي ليس له أصل فلو كان حقيقياً لقدموه الى النيابة العامة وفقا للقانون؛ وقد قضت محكمة أول درجة باحالة الاستشكال الى النيابة الا انه بدلاً من ان يقوم المستشكلون بتقديم استشكالهم الى النيابة قاموا بالطعن بالقرار أمام محكمة الاستئناف ثم المحكمة العليا وهم يعلمون علم اليقين ان الاستشكال في الاحكام الجزائية يتم تقديمه الى النيابة التي تتولى تنفيذ الاحكام الجزائية وليس المحكمة، حيث استمر النزاع في هذا الاستشكال مدة ثلاث سنوات بشأن الجهة المختصة التي يتم  تقديم  الاستشكال اليها هل هي النيابة ام المحكمة!!! وهكذا الحال في الاستشكالات الاخرى في الاحكام المدنية والجزائية، ولذلك نوصي بدراسة ظاهرة الاستشكالات الكيدية واسبابها واثارها ووسائل معالجتها والا فان محاولات تجاوز ظاهرة بطء إجراءات التقاضي واطالتها وتأخر وصول العدالة سيكون أثرها محدوداً للغاية .

الوجه الرابع : القوة القانونية لتعليمات النائب العام :

تصدر هذه التعليمات من النائب العام بموجب القانون للذي أناط به اصدار تلك التعليمات وتوجيهها الى اعضاء النيابة العامة للعمل بمقتضاها وتتضمن إجراءات تفصيلبة ينبغي على اعضاء النيابة العامة العمل بمقتضاها  ويصدر النائب العام هذه التعليمات كلما استدعى الامر  ذلك بصفته الوظيفية كنائب عام للمجتمع ولا يجوز ان تخالف هذه التعليمات القانون ؛ ومع ان تعليمات النائب العام ملزمة لاعضاء النيابة الا انه لا يترتب على مخالفة عضو النيابة لها بطلان الإجراءات التي قام بها عضو النيابة طالما وانه لم يخالف القانون لان هذه التعليمات ليست كالنصوص القانونية حسبما قضت محكمة النقض المصرية، وتعليمات النائب العام وان كانت ملزمة لعضو النيابة الا انها ليست ملزمة للقاضي الجزائي؛ علاوة على انه يجب على القاضي الجنائي ان يستند في حكمه الى نصوص القانون وليس الى تعليمات النائب العام حسبما اشار الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.