إزالة ضرر الكسارة وخلاطة الاسفلت
أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
كسارات الحجارة وخلاطات الاسفلت تؤدي وظيفة
مهمة في تلبية احتياجات المشاريع العمرانية والطرق ، إلا ان تحديد مواقعها ينبغي
ان يكون مناسباً لنشاطها شريطة ان لا يترتب على ذلك الاضرار بالبيئة والمجتمع
المحيط بها ، والواقع ان العشوائية في اختيار مواقع المشاريع التي تلحق الضرر
بالمحيط الجغرافي بها سمة عامة في المجتمع فليست مقتصرة على الكسارات وخلاطات
الاسفلت ولذلك فان ما سيقال عن الكسارات والخلاطات يصح ان يقال عن المشاريع الاخرى
التي تنجم عنها اضرارا بالبيئة والمجتمع
المحيط بها ، ولا ريب ان هذه المسألة
تحتاج الى موازنة دقيقة بين المنافع والاضرار المترتبة على هذه المشاريع ، ولذلك
اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 12/3/2011م في الطعن المدني رقم (43452) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع
القضية التي تناولها هذا الحكم في ان احد المستثمرين اقام كسارة حجارة وخلاطة
اسفلت في منطقة زراعية مجاورة لقرى ومزارع المواطنين في تلك المنطقة حيث ادعى
اهالي القرى انهم متضررون هم ومزارعهم من تشغيل الكسارة والخلاطة وتتمثل هذه
الاضرار في تلويث التربة والمياه والبيئة وقد قامت الجهة المختصة بالمعاينة ورفع
تقرير فني حبث اثبت التقرير صحة ما يترتب على الكسارة والخلاطة من اضرار بالبيئة
وكذلك صدر تقرير اخر مشترك من هيئة حماية
البيئة وهيئة المساحة الجيولوجية الذي اثبت حدوث تلوث في خزان مياه الشرب للقرى
المجاورة للكسارة ، وقد سارت المحكمة الابتدائية في اجراءات نظر الدعوى المرفوعة من اهالي القرى المجاورة
للكسارة والخلاطة حتى توصلت الى الحكم (بالزام المدعى عليه بنقل الكسارة والخلاطة
الى موقع اخر ترخص به الجهات المختصة) وإلزامه برفع الضرر الناتج عن كسارته
والخلاطة والتعويض عن ذلك الضرر بمبلغ ثمانية ملايين وسبعمائة الف ريال وكذا
إلزامه بدفع مائتي الف ريال مخاسير قضائية) وقد جاء في اسباب الحكم الابتدائي
(وحيث ان التقارير أثبتت حدوث الاضرار بأهالي
القرى ومزارعهم المجاورة للكسارة والخلاطة وان تلك التقارير قد صدرت من تلك الجهات
بناءً على شكوى المدعي قبل ان يقوم برفع دعواه امام المحكمة وحيث ان الضرر المدعى
به مستمر وقد قامت بتقديره مالياً الجهة
المختصة بمبلغ ثمانية ملايين وسبع مائة الف ريال وحيث ان المدعى عليه لم يقدم للمحكمة ما يثبت حصوله على ترخيص
بانشاء الكسارة والخلاطة في ذلك الموقع وحيث ان القواعد الفقهية تؤكد انه لا ضرر
ولا ضرار وان درء المفاسد مقدم على جلب المنافع) فلم يقبل المدعى عليه صاحب
الكسارة والخلاطة بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه الا ان محكمة الاستئناف رفضت
الطعن وقضت بتأييد الحكم الابتدائي ، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (فان ما
ذكره الطاعن في استئنافه من نعي بعدم حدوث
الضرر خلافا لما ثبت في تقارير الجهات
المختصة التي اكدت حدوث الاضرار فتلك
التقارير محررات رسمية حجة بما ورد فيها
حيث تنطبق عليها احكام المحررات الرسمية بالمواد (97 ، 98 ، 100) من قانون
الاثبات ولا يجوز الطعن فيها الا بالتزوير) فلم يقنع مالك الكسارة والخلاطة بالحكم
الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض ، الا ان الدائرة المدنية بالمحكمة العليا رفضت
الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي ، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (فان
الدائرة بعد الرجوع الى الاوراق تجد ان الطاعن ينعي على الحكم المطعون فيه
بالبطلان انه قد بني على دليل لم يطرح
امام المحكمة وانها حكمت بما لم يطلبه الخصوم وهو نقل الكسارة والخلاطة الى مكان
اخر يرخص به من الجهة المختصة وبمراجعة أوراق القضية من قبل الدائرة تبين ان
الشعبة المطعون في حكمها قد سارت في نظر الاستئناف وسماع طلبات الخصوم وتم الفصل
في جميع الطلبات والدفوع ولم يخرج حكمها عما جاء في الطلبات فكان الحكم المطعون
فيه مسبباً تسبيباً سائغاً وبني الحكم على أدلة تم طرحها أمام محكمتي الموضوع مما
يجعل مناعي الطاعن في غير محلها ولا مستند لها ولاتتوفر فيها اية حالة من حالات الطعن بالنقض المنصوص عليها في
القانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : الترخيص بانشاء الخلاطات والكسارات:
الغرض من الترخيص هو قيام الجهة المعنية
بدراسة طلب انشاء الكسارة ومدى سلامة اختيار الموقع المناسب لانشاء الكسارة أو
الخلاطة وانه لن يترتب على إنشائهما اية اضرار بالمجتمع والبيئة المحيطة بهما ،
حسبما ورد في قانون حماية البيئة رقم 26 لسنة 1995م علماً بان هذه التراخيص يتم
عرضها على وزارة البيئة للرقابة على سلامة منح الترخيص وعلى هذا الاساس فان الترخيص يكون بمثابة شهادة
من الجهة المختصة فنياً وقانونياً بان الكسارة أو الخلاطة غير مضرة في موقعها
المرخص به ، ولذلك لاحظنا ان المحكمة الابتدائية طلبت من صاحب الكسارة والخلاطة ان
يبرز الترخيص بإنشائهما فعجز عن ذلك فحكمت عليه المحكمة ، مع ان قضاء محكمتي النقض
في مصر وفرنسا قد استقر على ان الحصول على الترخيص لا يحول دون مطالبة المضرور
بالتعويض عن الضرر الذي قد يلحقه .
الوجه الثاني : الاضرار المترتبة على انشاء وتشغيل الكسارات والخلاطات :
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا فانه يترتب
على انشاء وتشغيل الكسارات والخلاطات تصاعد الغبار والدخان المحمل بالمواد السامة
كالزرنيخ وغيره الذي يضر بالانسان والحيوان والنبات اضافة الى انبعاث الغازات
والابخرة السامة والكريهة المضرة ، ويترتب على هذا الغبار والدخان المنبعث حدوث امراض واضرار
حسبما ورد في تقارير الجهات المعنية التي تم تقديمها امام القضاء حيث استند اليها
القضاء في حكمه بنقل الخلاطة والكسارة؛علما
بانه قد صدر قرار مجلس الوزراء 14 لسنة 2008 الذب قضى بنقل الكسارات الى خارج المدن
والتجمعات السكنية بسبب الاضرار الناجمة عنها.
الوجه الثالث : حجية التقارير المتضمنة اضرار الكسارة والخلاطة :
من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد انه
قد استند الى التقارير الصادرة من الجهات المعنية التي دلت على وجود ضرر من انشاء
وتشغيل الكسارة والخلاطة، وقد تم الاستناد الى هذه التقارير باعتبارها محررات
رسمية صادرة من جهات حكومية وموظفين عموميين فتنطبق عليها احكام المحررات الرسمية
من حيث صحتها وحجيتها الثبوتية ، كما ان هذه التقارير صادرة عن جهات رسمية ذات
خبرة واختصاص في مجال تحديد الاضرار والتلوث الذي لحق بالبيئة وتكاليف ازالة
الاضرار الحاصلة ولذلك فان الحكم محل تعليقنا قد اعتمد على هذه التقارير في تحديد
التعويض المناسب عن الضرر الحاصل من الكسارة والخلاطة غير المرخص لهما.
الوجه
الرابع : الموازنة بين منافع الكسارات والخلاطات ومفاسدها :
لاحظنا ان الحكم الاستئنافي قد استند في
أسبابه الى قواعد فقهية مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة درء المفاسد مقدم على
جلب المنافع وهذه القواعد اصلها قواعد فقهية كما انها ايضا قواعد قانونية لان القانون المدني قد قررها ضمن
مواده ، والحكم الاستئنافي حينما قام بتطبيق تلك القواعد كان تطبيقه صحيحاً لان
الشريعة والقانون قد قررا ان الضرر يزال اذا كان الضرر قد وقع بالفعل كما ان الضرر
المتوقع أو الحاصل تمنع الشريعة والقانون استمراره بمقتضى قاعدة لا ضرر ولا ضرار
وبتطبيق ذلك على القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان الضرر كان قد حصل
كما ان هناك اضرار كان من المتوقع حصولها لو استمر تشغيل الخلاطة والكسارة في
مكانهما حسبما ورد في التقارير المشار اليها ، كما ان الحكم الاستئنافي قد استند
في تسبيبه الى قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع) وبتطبيق ذلك على الخلاطة
والكسارة فلا شك ان هناك منافع مباشرة يحصل عليها مالكهما كما ان هناك منافع غير
مباشرة يحصل عليها المجتمع عامة الا انه في المقابل هناك اضرار وامراض تترتب على
انشاء وتشغيل الخلاطة والكسارة ولذلك ينبغي دفع هذه المفاسد لان ذلك أولى من تحصيل
المنافع ، كما ان انشاء وتشغيل الخلاطة والكسارة فيه مصلحة خاصة لمالكها اصلاً
وهذه المصلحة خاصة في حين ان الضرر المترتب عليها يصيب مصالح عامة المجاورين لهما؛
والله اعلم.