وقف محاكمة المجنون لحين شفائه
قد يطرأ الجنون على المتهم بعد إرتكابه للواقعة، وعندئذ لا يمكن الإعتماد على أقواله وتصرفاته فلا يستطيع القاضي أن يقف على الحقيقة كما أن المتهم في هذه الحالة يكون عاجزاً عن الدفاع عن نفسه امام القضاء، ولذلك ينبغي وقف إجراءات محاكمة المتهم في هذه الحالة حتى يشفى، وهذا ما قضى به الحكم محل تعليقنا، وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية في جلستها المنعقدة بتاريخ 23/2012م في الطعن رقم (44537) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان المتهم بعد ارتكابه لواقعة القتل العمد تم عرضه على اللجنة الطبية التي افادت في تقريرها بان المتهم يعاني من مرض عقلي (جنون) ومع ذلك فقد استمرت المحكمة في إجراءات محاكمته حتى صدر الحكم الابتدائي المؤيد بالحكم الاستئنافي الذي قضى بإعدامه لأن كل الادلة قد دلت على أن المتهم قبل ارتكابه الواقعة وعند ارتكابه كان عاقلا مريدا مختارا،حيث تم عرض الموضوع على المحكمة العليا وجوباً لان الحكم بالإعدام، حيث قضت الدائرة الجزائية بنقض الحكم الاستئنافي، وقد جاء في أسباب حكم المحكمة العليا (وحيث كان الرجوع إلى حيثيات الحكم الاستئنافي فقد تبين للدائرة ان الشعبة حسبما ورد في حيثيات ومنطوق حكمها ما يفيد انها قد تيقنت من انه طرأ على المتهم مرض عقلي حسب القرار الطبي (رقم وتاريخ) والصادر عن اللجنة الطبية الصحية العقلية المتضمن ان المتهم يعاني من اعراض مرض عقلي وأوصت اللجنة بإحتجازه احترازياً لخطورته إلا أن الشعبة واصلت إجراءات محاكمة المتهم حتى صدور الحكم خلافاً للمادة (280) إجراءات التي نصت على أنه (اذا ثبت ان المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب جنون أو عاهة عقلية أخرى طرأت عليه بعد وقوع الجريمة يوقف رفع الدعوى عليه أو محاكمته حتى يعود اليه رشده ويجوز في هذه الحالة ان تصدر النيابة العامة أو المحكمة المنظورة امامها الدعوى امراً بحجز المتهم في احدى المستشفيات العامة الحكومية المتخصصة ...الخ) وهو ما كان يجب على الشعبة أن تفعله،وذلك أن تقرر وقف سير المحاكمة حتى تتأكد من شفاء المتهم وقدرته على الدفاع عن نفسه، وحيث لم تقم الشعبة بإعمال النص المشار اليه فان قضائها عليه بعقوبة الإعدام رغم علمها بأنه مختل عقلياً مخالف للقانون يترتب عليه بطلان الحكم مما يستوجب نقضه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: السبب الموجب لوقف المحاكمة هو الجنون الطارئ بعد إرتكاب الجريمة
قضى الحكم محل تعليقنا بوقف سير إجراءات محاكمة المتهم اذا طرأ عليه الجنون بعد ارتكاب الواقعة أو في اثناء المحاكمة وسند الحكم محل تعليقنا هو ما ورد في المادة (280) إجراءات المذكورة ضمن أسباب الحكم، لان الجنون السابق على ارتكاب الواقعة يجعل المجنون غير مسئولاً جنائياً عملاً بالمادة (33) عقوبات التي نصت على انه لا يسأل من يكون وقت ارتكاب الفعل عاجزاً عن ادراك طبيعته ونتائجه بسبب الجنون الدائم أو المؤقت او العاهة العقلية) وتقرر المادة (34) على ان ذلك لا يخل بحق اولياء الدم في الدية أو الأرش الذي تتحمله العاقلة لان عمد المجنون خطأ تتحمله العاقلة، وبحسب ما ورد في المادتين (279 و 280) إجراءات فانه اذا ثبت للمحكمة جنون المتهم فانه ينبغي لها ان لاتشرع في محاكمته ويحق لها ان تقوم بإيداعه في مستشفى حكومي للأمراض العقلية اذا كان المتهم على درجة من الخطورة أو كانت الواقعة التي ارتكبها من الجرائم الجسيمة حسبما ورد في المادة (283) إجراءات.
الوجه الثاني: إجراءات وقف محاكمة المتهم إذا جن بعد ارتكابه الفعل
وفقاً لما ورد في المادتين ( 280 و 281) إجراءات فانه ينبغي على المحكمة اذا ثبت لديها أن الجنون قد طرا على المتهم في أثناء اجراءات المحاكمة فانه يجب على المحكمة حينئذ ان تقوم بإصدار قراراً مسبباً يقضي بوقف اجراءات محاكمة المتهم المجنون حتى شفائه، ويتضمن هذا القرار الاسانيد التي تيقنت من خلالها المحكمة من جنون المتهم كما ينبغي ان يتضمن هذا القرار تحديد المستشفى الذي سيتولى معالجة المجنون. وكذا ينبغي ان يتضمن القرار أيضاً ايداع المتهم المجنون في ذلك المستشفى اذا كان يشكل خطورة ً على المجتمع، ويجوز ان يرد قرار الوقف في محضر الجلسة أو يتم إفراده بوثيقة مستقلة غير محضر الجلسة.
الوجه الثالث: إشكالية الجنون الطارئ بعد ارتكاب المتهم للجريمة
الجنون السابق لارتكاب الجريمة لا يثير أية إشكالية، لان هذا الجنون يكون ثابتاً بل يكون مشهورا ومعروفاً في الحي أو القرية التي يقيم فيها المجنون فيسهل إثباته وتكون حالة هذا الجنون ظاهرة لدى اولياء الذي يتقبلون هذا الأمر فلا يثور الشك عندهم بشأن حالة المتهم العقلية في هذه الحالة، اما الجنون الذي يطرأ على المتهم بعد ارتكابه للجريمة فانه يثير اشكاليات كثيرة للمتهم ولأولياء الدم وللقاضي نفسه حيث تكثر في اليمن الادعاءات بالجنون خاصة عندما تكون التهمة جريمة قتل عمد، ولذلك لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد استند إلى اسباب الحكم الاستئنافي التي تضمنت تقريراً طبياً صادراً عن لجنة طبيعة رسمية مختصة قانوناً صرحت في تقريرها بان المتهم يعاني من عاهة عقلية وانه يعاني منها حالياً أي عند اعداد التقرير ، والتثبت من حالة المتهم العقلية اذا طرأ عليه الجنون بعد ارتكابه للواقعة هذا التثبت وجوبي، لان نص المادة (280) إجراءات قد اشترط ثبوت حالة الجنون فقد ورد النص بصيغة (اذا ثبت للمحكمة)، والله اعلم.
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين، الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.