الحقوق التأمينية للمجنون ومن في حكمه لا تتقادم

 

الحقوق التأمينية للمجنون ومن في حكمه لا تتقادم

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

للحقوق التأمينية اهداف وغايات كما ان للتقادم اهدافه وغاياته، وفي الحالتين من غير المقبول شرعاً وقانوناً التمسك بتقادم الحقوق التأمينية المستحقة في مواجهة بعض الفئات الذين يتعذر عليهم فهم تلك الاهداف والغايات كالمجنون أو صغير السن أو من تحول ظروف قهرية من وصولهم إلى هيئة التأمينات والمعاشات للمطالبة بحقوقهم  التأمينية في الأوقات المحددة لذلك كالمعتقل والاسير حتى لو قرر قانون التأمينات ذاته سقوط الحقوق التأمينية لهولاء بالتقادم، فهذا هو قضاء الحكم محل تعليقنا، وهو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 12/8/2016م في الطعن رقم (58104) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان موظفاً اصابه الجنون بعد ان امضى المدة القانونية لاحتساب المعاش التقاعدي فقامت الجهة التي يعمل فيها الموظف المجنون بإحالته للتقاعد وبالفعل تم ربط معاشه التقاعدي من قبل هيئة التامينات التي قامت بناء على ذلك  بصرف بطاقة معاش متقاعد لذلك الموظف وقامت ايضا بصرف راتبه لأول شهر بعد التقاعد ،وبعد ذلك توفت أم الموظف المجنون فأستملكه الحزن الشديد فهرب من المقبرة بعد دفن أمه إلى جهة غير معلومة وانقطعت اخباره لمدة تزيد على سبع سنوات حتى ظن أهله أنه مات كمداً على أمه ولم يكن أهله يعلموا بإحالته للتقاعد فلم يراجعوا الهيئة وظنوا انه اذا كان على قيد الحياه فانه يستلم معاشه التقاعدي حسبما ورد في دعوى شقيق المجنون، وقد دفعت الهيئة دعوى المجنون بعدم قبولها استنادا إلى النص القانوني العام الذي يقرر تقادم الحقوق التأمينية بعد مضي خمس سنوات على تاريخ استحقاقها عملاً بالمادة (49) من اللائحة التنفيذية لقانون التأمينات والمعاشات التي نصت على أن (كل حقوق تأمينية من معاش أو مكافأة أو تعويض لا يطالب بها صاحبها سواء كان المؤمن عليه صاحب معاش أو أحد المستحقين  احدهما خلال خمس سنوات من تاريخ نشوء هذه المستحقات طبقاً لأحكام القانون أو من تاريخ اخر صرف تقاضاه من الهيئة وتسقط هذه الحقوق وتؤول إلى الصندوق مع مراعاة ما جاء في المادة (39) وينقطع سريان الميعاد المشار اليه بالنسبة للمستحقين جميعاً اذا تقدم احدهم بطلب خلال الميعاد المذكور ،كما تعتبر المطالبة بأي من هذه الحقوق شاملة المطالبة بباقي الحقوق) فرد المدعي على دفع هيئة التأمينات بأن المادة (39) من اللائحة ذاتها تنص على أنه (اذا تغيب صاحب المعاش أو احد المستحقين بدون عذر عن محل اقامته المعتاد وانقطع عن استلام معاشه لمدة تزيد عن سنة دون اخطار سابق للهيئة وفروعها بالمحافظات آل معاشه إلى الصندوق ولا يصرف له المعاش الا من تاريخ مطالبته الكتابية وفي حالة عودته قبل انقضاء السنة صرف له ما استحقه من تاريخ الانقطاع عن استلام المعاش) وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم (بالزام هيئة التأمينات بإعادة  مستحقات المؤمن عليه المجنون التي لم تصرفها من بداية مارس 2003م حتى صدور هذا الحكم ولزوم استمرار الهيئة في صرف معاش المجنون بحسب القانون ويتم تسليمه إلى اخيه المدعي المنصوب عنه وعلى المنصوب صرف المعاش في نفقة اخيه المذكور ورعايته) فلم تقبل الهيئة بالحكم الابتدائي فقامت باستئنافه إلا أن الشعبة المدنية رفضت الاستئناف وقضت بتأييد الحكم الابتدائي، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الاستئنافي (وبالرجوع إلى أوراق القضية فقد ظهر للشعبة أن ما قضى به الحكم الابتدائي المستأنف موافق للشرع والقانون كون الثابت ان المستأنف ضده فاقد لوعيه من تاريخ انقطاعه عن استلام معاشه كما ظهر ان المستأنفة لم تأت بجديد يؤثر في الحكم الابتدائي المطعون فيه) فلم تقنع هيئة التأمينات بالحكم الاستئنافي فقامت بالطعن فيه بالنقض متمسكة بتقادم الحقوق التأمينية حسبما سبق بيانه، إلا أن الدائرة المدنية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (إضافة إلى أن ما اثاره الطاعن في العريضة ليس إلا تكراراً لما سبق ان اثاره أمام محكمة الاستئناف، وحيث أن الحكم المطعون فيه قد جاء موافقاً من حيث النتيجة لأحكام الشرع والقانون، وحيث تبين استحقاق المطعون ضده لمعاشه التقاعدي وفقاً للقانون وثبوت عذره القانوني فانه المتوجب رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : تقادم الحقوق التأمينية :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أن هيئة التأمينات قد تمسكت في مواجهة المدعي المنصوب منذ بداية الدعوى وحتى طعنها بالنقض تمسكت بالمادة (49) السابق ذكرها في الحكم التي حددت تقادم كافة الحقوق التأمينية من معاش أو مكافأة أو تعويض بمضي مدة خمس سنوات من تاريخ نشوء أو استحقاق الحق التأميني، ومدة التقادم العامة بالنسبة لكافة الحقوق التأمينية محل نقد حيث تفصل غالبية القوانين بين التعويض والمكافأة وبين المعاش التقاعدي حيث تقرر بالنسبة للتعويض كراتب الوفاة أو تكاليف الدفن أو الزواج فتجعل مدة التقادم في هذه الحالات سنة في حين تقرر مدة أطول لتقادم المعاش التقاعدي وهي خمس سنوات، والمقصود بتقادم الحقوق التأمينية وفقاً للمادة (49) السابق ذكرها هو سقوط جميع الحقوق التأمينية المستحقة من معاشات أو تعويضات أو منح بصفة نهائية بمضي خمس سنوات من تاريخ نشؤها أو استحقاقها أو من تاريخ اخر صرف اذا لم يطالب مستحقوها  بتلك الحقوق  خلال المدة المشار اليها، فاذا انقضت مدة الخمس السنوات ولم تتم المطالبة بها فانها تسقط على مستحقيها وتؤول إلى صندوق التامينات، فكل معاش تقاعدي لم يطالب به مستحقه خلال مدة الخمس السنوات يسقط بعد مضي هذه المدة فلا يحق لصاحبه المطالبة به بعد مضي المدة لتقادمه، وتستند فكرة تقادم الحقوق التأمينية إلى الفكرة ذاتها التي شرع لأجلها التقادم بصفة عامة وهي إستقرار المراكز القانونية ومبدأ استقلال السنة المالية لهيئة التأمينات وتحميل كل سنة بصرفياتها وإيراداتها فضلاً عن ان عدم الاخذ بتقادم الحقوق التأمينية يخل بأساس العمل التأميني الذي يعتمد على الحساب الالكتواري الذي يضع التوقعات المناسبة للوفيات والاصابات والاحالات للتقاعد والالتزامات التي ستتقرر على هيئة التأمينات،ومع ذلك فإننا من وجهة نظرنا نرى بان تطبيق نظام التقادم على الحقوق فيه دام كبير وإجحاف بالحقوق التامينية للموظفين والعمال المتقاعدين حسبما سياتي بيانه.

الوجه الثاني : عدم تقادم الحقوق التأمينية للمجنون والمعتقل والاسير والسجين والمصاب بجلطة سببت له الشلل وفقدان الكلام ...الخ :

من خلال مطالعة الحكم المطعون فيه نجد الحكم محل تعليقنا قد قضى باعتبار الجنون مانعاً لتقادم الحقوق التأمينية، فلا يجوز التمسك في مواجهة المجنون بالتقادم للحيلولة دون حصوله على حقوقه التأمينية السابقة التي مضت عليها مدة تزيد على خمس سنوات ،على أساس ان الجنون عذر قهري يجعل المجنون لا يعي بحقوقه وواجباته فتسقط عليه الواجبات وفي الوقت ذاته يكون الجنون مانعا من قيامه بالمطالبة بحقه في التاريخ المحدد لذلك،وعلى هذا الأساس فان حقوقه لا تسقط حتى لو لم يطالب بها لانه لا يعي هذه الحقوق ولا يدركها وعاجز عن المطالبة بها ولذلك فهو معذور شرعاً وقانوناً لانه ليس من اهل التكليف حتى يتم تكليفه بالمطالبة بحقوقه التأمينية في الوقت المحدد ،فهو عاجز عقلياً عن الوعي بها ومن ثم المطالبة بها، واستند الحكم محل تعليقنا في قضائه إلى المادة (39) من لائحة قانون التأمينات السابق ذكرها في متن الحكم محل تعليقنا التي نصت على أنه (اذا تغيب صاحب المعاش أو المستحقين بدون عذر عن محل اقامته المعتاد وانقطع عن استلام معاشه لمدة تزيد عن سنة دون اخطار سابق للهيئة وفروعها آل معاشه الى الصندوق) فهذا النص وان كان قد ورد بشان انقطاع صاحب الحق الا انه أوضح بان التمسك بتقادم الحقوق التأمينية لا يكون إلا في مواجهة غير المعذور اما المعذور كالمجنون أو المعتقل أو المصاب بمرض اقعده عن الحركة والنطق فقد تحقق بشأنه عذر شرعي فلا يجوز التمسك بمواجهته بتقادم حقوقه التأمينية.

الوجه الثالث : مدى عدالة النص القانوني بتقادم الحقوق التأمينية وتوصيتنا للمقنن اليمني :

من خلال مطالعتنا لما سبق نجد ان قانون التأمينات والمعاشات (الخاص بموظفي الدولة) وقانون التأمينات الاجتماعية (الخاص بالعمال في القطاع الخاص) نجد انهما قد اتفقا في تقرير تقادم الحقوق التأمينية للموظفين والعمال، ومن وجهة نظرنا ان هذا التقادم يهدر الحقوق المكتسبة للموظفين والعمال، لان الحقوق التأمينية هي عبارة عن استقطاعات لمبالغ مالية من رواتب الموظفين والعمال في اثناء خدمتهم إضافة إلى ان هذا التقادم يتنافى مع الغرض الاساسي لنظام التأمينات والمعاشات الذي يهدف إلى كفالة وتامين الوضع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي المستقر للموظف أو العامل بعد تقاعده حيث يكون بعد تقاعده أحوج ما يكون إلى المعاش وحقوقه التامينية، ولهذه الاعتبارات الدينية والقانونية والاخلاقية فان كثيراً من قوانين التأمينات والمعاشات في الدول العربية والاجنبية لم تنص على تقادم الحقوق التأمينية للموظفين والعمال المتقاعدين،  وفي هذا الشأن: فنحن نوصي بحذف النصوص الواردة في قانوني التأمينات والمعاشات والتأمينات الاجتماعية التي تنص على تقادم الحقوق التأمينية للموظفين والعمال المتقاعدين، والله اعلم.