الثبوت الشرعي
أ.د/ عبد
المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية
الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
الثبوت والحيازة مصطلحان يثور بشانهما الجدل في اليمن ،
وفي الواقع العملي هناك خلط بين الاستيلاء والبسط على أموال الغير من غير سبب شرعي
أو قانوني، وبين الثبوت الشرعي الذي أساسه اليد الصحيحة على الأرض، وقد كشف الحكم
محل تعليقنا عن جوهر الثبوت الشرعي الصحيحً، ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترنا
التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 21/1/2013م في الطعن المدني رقم (46545) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها
هذا الحكم أن ثلاثة تقسموا تركة والدهم وتسلموا الفصول التي تحدد نصيب كل واحد
منهم وبعدئذ قام احد الاخوة بشراء نصيب اخويه في بعض المواضع وتم التعطيل والتنكيت
في البصائر والفصول وثبت الاخ المشتري على تلك المواضع في ذلك الوقت وبعد مضي مايقارب
خمسين سنة قام ابناء البائعين بتقديم دعوى أمام المحكمة الابتدائية أدعوا فيها أن
المواضع التي تحت أيدي ابناء عمهم هي تركة شائعة بينهم وبين المدعى عليهم صارت
للجميع من جدهم الجامع وأن المدعى عليهم قد اغتصبوا نصيبهم في تلك المواضع وقام
المدعون بإبراز البصيرة الأم التي تدل على ملكية الجد الجامع للمواضع محل النزاع،
وقد حكمت المحكمة الابتدائية بلزوم قنوع المدعين لثبوت زورية مستند الدعوى ولثبوت
تصرف مورثي المدعين بأنصبتهم الشرعية إلى مورث المدعى عليهم في اثناء حياة الأخوة
وثبوت تقادم الدعوى لمضي أكثر من خمسين سنة على وضع المدعى عليهم ومورثهم على
المواضع محل النزاع) وقد جاء في أسباب الحكم الابتدائي (وعند رجوعنا إلى تقرير
البحث الجنائي تبين أن البصيرة مزورة فعلاً ولا تتطابق الخطوط فيها مع خط الكاتب
الذي نسب اليه الخط في البصيرة الأم مما يدل على أن المدعين قد اخفوا البصيرة
الأصلية الأم الخاصة بالجد الجامع ولم
يحضرونها لوجود التنكيتات بظاهرها التي تدل على كذب دعواهم إلى جانب ان المحكمة قد
واجهت المدعين في الجلسة بالفروز او الفصول
التي تمت بين مورثي المدعين، وحيث لم يحضر المدعون فروزهم والبصيرة الأم
السابقة للقسمة فقد تبين عدم صحة ادعائهم بل تهربوا من احضارها مكتفين بإحضار
البصيرة الأم السابقة للقسمة التي ثبتت زوريتها علاوة على مضي أكثر من خمسين سنة
على البيع لذلك فان هذا الأمر يدل على صحة الدفع بالتقادم واستناداً إلى أحكام
المادة (1118) مدني والمواد (122 و 125 و 126) إثبات فقد حكمت المحكمة) فلم يقبل
المدعون بالحكم الابتدائي فقاموا باستئنافه إلا أن الشعبة المدنية قضت بتأييد
الحكم الابتدائي واحالة المستأنفين المتمسكين بالبصيرة المزورة إلى النيابة
العامة، فقام المستأنفون بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي إلا أن الدائرة المدنية
قضت برفض الطعن وإقرار الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا
(ان نعي الطاعنين غير وارد لسلامة الحكم المطعون فيه، لان محكمة الموضوع قد ناقشت
ادلتهم وتأكد لها زورية البصيرة التي تمسكوا بها من خلال مضاهاة الخطوط التي قام به المعمل الجنائي وان البيع لمورث
المدعى عليهم قد تم قبل أكثر من خمسين سنة والمشترون للمواضع محل النزاع ثابتون
عليها لمدة تزيد على خمسين سنة) وسيكون
تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول ماهية الثبوت الشرعي كسبب للملكية :
الثبوت الشرعي في الفقه الإسلامي هو قيام الشخص أو
اسلافه بوضع اليد او الثبوت على أرض ليست مملوكة لاحد (الاحياء) أو وضع اليد على
أرض كانت لأشخاص ولكن بسبب شرعي يفيد التمليك كالهبة أو البيع حتى لو كان ذلك بدون
وثائق اذا تم إثباته بوسائل الاثبات الاخرى، اما قيام الشخص بالبسط والغصب لأملاك الغير من غير سبب
شرعي فهو محرم عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( ليس لعرق ظالم حق) فهذا
الحديث يحرم الاعتداء والبسط والغصب لأموال الغير من غير رضاهم والتحريم يظل قائم
ولو امتد وطال عمر الاغتصاب والاستيلاء، وكذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع اراضين) ومعنى هذا
الحديث أن الغاصب والباسط على جزء من الأرض يتحمل الارض أو جزئها وما تحته إلى سبع
اراضين.
الوجه الثاني : حكم الثبوت الشرعي :
اذا حصل الثبوت بسبب شرعي يفيد التمليك كالبيع والهبة
والنذر والوقف على الشخص فيترتب على ذلك اكساب الثابت على العين ملكيتها حتى لو تخلفت بعض شروط البيع أو الهبة أو النذر فطالما ان الثابت على
العين قد استلمها برضاء المالك الأصلي من غير غصب أو اكراه وطالما أن المشتري قد
قبض المبيع فان ذلك الثبوت يكون شرعياً صحيحاً تترتب عليه كافة الاثار المترتبة
على الثبوت بما في ذلك عدم جواز منازعة المالك السابق او ورثته له حتى تستقر
المراكز الشرعية وحتى ينقطع دابر النزاع والخلاف في المجتمع، وعلى هذا الاساس نخلص
إلى أن حكم الثبوت في الشريعة الإسلامية جائز اذا توفرت فيه الشروط المعتبرة.
الوجه الثالث : الثبوت الشرعي في القانون المدني :
سلك القانون المدني مسلك غالبية الفقه الإسلامي الذي اجاز الثبوت بالمفهوم
السابق ذكره في الوجه الأول، فليس غريباً على القانون اليمني أن يسلك هذا المسلك
لانه مأخوذ في غالبية نصوصه من الفقه الإسلامي، ويظهر هذا الأمر جلياً عند
المقارنة بين ما ورد في القانون المدني وما ورد في كتابات الفقهاء، حيث نصت المادة
(1118) مدني على انه (لا تسمع دعوى الملك من حاضر على ذي اليد الثابتة الذي يتصرف
تصرف المالك بلا مطالبة ولا قرابة ولا مصاهرة ولا ظروف غير عادية تسود فيها الفوضى
أو التغلب يتعذر فيها الوصول إلى الحق وذلك بعد مضي ثلاثين سنة من يوم وضع اليد
والعبرة في اعتبار الشخص غائباً عن البلد هي بوجوده خارجها طوال المدة المقررة
ويعتبر حاضراً اذا كان متردداً اليها، ويستثنى من ذلك الميراث والوقف والشراكة فلا
تحدد بمدة ولصاحب الحق الادعا اذا كان
هناك قرائن قوية دالة على صحة الدعوى فتسمع تأكيداً لحفظ الحقوق) ومن خلال استقراء
هذا النص يظهر الأتي :
1-
عدم سماع دعوى الملك أي المنازعة للثابت في
ملكية العقار الثابت عليه بعد مضي ثلاثين سنة على ثبوته أما الدعاوى الاخرى وان
تعلقت بالعقار فهي تتقادم بحسب قواعد التقادم الاخرى المنصوص عليها في قانون
الإثبات.
2-
الثبوت لا يجوز التمسك به إلا في مواجهة
المالك الحاضر الذي يشاهد الثابت يتصرف في العين تصرف المالك ويرضى بذلك، والمقصود بالحاضر هنا هو الشخص المقيم
بالقرب من العين محل الثبوت، ويعد في حكم الحاضر الشخص الذي يتردد او يزور مكان
العين بين الفترة والاخرى ولو كان مقيماً في مدينة أو منطقة أخرى، اما اذا لم يكن
متردداً فلا تسري أحكام الثبوت والتقادم
في مواجهته، وعلى هذا الأساس فلا تسري احكام الثبوت على الغائب المنقطع عن العين
محل الثبوت ويلحق بالغائب المجنون والقاصر الذي لم يبلغ.
3-
يشترط لتطبيق احكام الثبوت الشرعي أن يظهر
الثابت على العين بمظهر المالك بقوله وفعله وتصرفاته كأن يقول : هذه العين ملكي أو
صارت لي من اسلافي أو وهبني اياها المالك أو باعها مني، او يتصرف الثابت في غلالها
بيعاً وشراء على أساس أنه المالك لها غير غاصب أومستأجر لها.
4-
لا تسري أحكام الثبوت بمطالبة المالك للثابت
باخلاء الارض أو دفع غلالها سواء اكانت المطالبة ودية أو قضائية طالما وان بوسع
المالك اثباتها ولذلك فان مجرد تكليف الثابت بالوفاء بالغلال والاخلاء يكفي في
إثبات مطالبته، ويترتب على المطالبة قطع فترة التقادم والثبوت.
5-
القرابة مانع من موانع الثبوت ،فلا يحق
للقريب أن يتمسك بالثبوت والتقادم في مواجهة قريبه، فترك القريب لقريبه من غير
مطالبة أو اخلاء يكون من قبيل الاحسان فلا يصح ان يقابل احسان القريب بجحود وإنكار
ملكيته عملاً بقوله تعالى { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } [سورة التوبة 91] والمقصود
بالقرابة إلى الدرجة الرابعة وكذلك الحال بالنسبة للمصاهرة فهي ملحقة بالقرابة وان
كان مصدر القرابة النسب ومصدر المصاهرة الزواج.
6-
الظروف غير العادية مانع من موانع التقادم والتمسك
بالتقادم، فالمقصود بالظروف غير العادية هي الظروف التي تسود فيها الفوضى والتغلب
التي يتعذر فيها الوصول إلى الحق، ولا يكون الامر كذلك اذا كانت اجهزة الدولة
المنوط بها للضبط غير قادرة عن حماية الاملاك ولا يشترط في هذه الظروف ان تكون
عامة في البلاد كلها أو بالنسبة للمواطنين جميعهم فقد تسود الظروف غير العادية في
منطقة معينة من البلاد دون بقية المناطق مثل المناطق الوسطى في فترة الصراع بين
الجبهة الوطنية والسلطة كما قد تكون خاصة
باسرة معينة كالائمة من آل حميد الدين في شمال اليمن والسلاطين في الجنوب حيث كانت
الظروف بالنسبة لهم غير عادية تحول دون وصولهم إلى حقوقهم او مطالبتهم بها وهكذا.
7- الغصب يتنافى مع الثبوت، فالقانون المدني اليمني يوافق الشريعة الاسلامية التي تشترط في الثابت ان تكون يده صحيحة على العين التي ثبت عليها، أي أن يقوم الشخص بالثبوت على العين فلا ينازعه المالك عليها ولا يطالبه بإخلائها او سداد غلاتها ،فقد اشترطت المادة (1104) مدني في الثبوت (3- ان لا تقترن الحيازة باكراه المالك او من يمثله او منازعته)، والله اعلم.