استمرار العامل بعد بلوغه التقاعد

 استمرار العامل بعد بلوغه التقاعد

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء


نظام التأمينات الاجتماعية في اليمن حديث ولذلك عندما يبلغ بعض السن المحددة قانونا للتعاقد لا تكون اشتراكاتهم لدى مؤسسة التأمينات تؤهلهم للحصول على معاش الشيخوخة اوالمعاش التقاعدي وحينئذ يطالب هؤلاء باستمرار خدمتهم لدى صاحب العمل حتى تبلغ اشتراكاتهم الى الحد الادنى الذي يؤهلهم للحصول على المعاش, وقد اجاز قانون التأمينات الاجتماعية للعامل ان يطلب ذلك, الا ان هذا الطلب محل خلاف على اشده من حيث لزومه بالنسبة لجهة العمل او صاحب العمل بمعنى اذا اختار العامل الاستمرار في العمل هل يلزم صاحب العمل قبول خيار العامل ؛ فهذا الخلاف  تناوله الحكم محل تعليقنا ؛ وهو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/12/2010م في الطعن المدني رقم (39125) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احدى الشركات قامت بإحالة احد عمالها للتقاعد  لبلوغه السن المحددة في القانون ؛ فقام العامل المحال للتقاعد بتقديم دعوى امام المحكمة المختصة مدعيا بان الشركة قد احالته الى التقاعد وعند وصول قرار احالته الى مؤسسة التأمينات كانت اشتراكاته  لم تبلغ الحد الادنى الذي يؤهله للحصول على معاش الشيخوخة او المعاش التقاعدي بموجب قانون التأمينات ؛ فقامت المؤسسة بمخاطبة الشركة باستمرار العامل في العمل حتى تبلغ اشتراكاته لدى مؤسسة التأمينات الحد الادنى لاستحقاقه لمعاش الشيخوخة او المعاش التقاعدي,   الا ان الشركة المدعى عليها رفضت استمراره في العمل بحجة ان القانون يلزمها باحالة كل عامل بلغ سن التقاعد , وقد حكمت  محكمة اول درجة  بعدم قبول طلب المدعي بإلغاء قرار احالته للتقاعد واستمراره في العمل, وجاء في اسباب الحكم الابتدائي وحيث ان المدعي قد سبب طلبه بإلغاء قرار احالته للتقاعد بانه لم يبلغ الحد الادنى لاستحقاقه المعاش التأميني والمحدد بعشر سنوات عمل وقد استدل المدعي بنص المادة (51) من قانون التأمينات الاجتماعية رقم (26) لسنة 1991م وباطلاع المحكمة على ذلك النص وجدته نصا جوازيا وليس وجوبيا على رب العمل بحيث يلزم رب العمل بدفع الاشتراكات التأمينية للعامل او اعادته للعمل حتى يبلغ الحد الادنى للحصول على المعاش التأميني بل اعطت هذه المادة الخيار للعامل ان يسددذلك النقص من   الاشتراكات حتى يستحق المعاش التأميني ؛ ومن ثم فلا مسوغ قانوني ملزم للمدعي عليها بإعادته للعمل بعد بلوغه السن القانونية للتقاعد ولا مسوغ قانوني لإلغاء قرار احالة العامل الى التقاعد من قبل المحكمة, فلم يقتنع العامل المدعي بالحكم الابتدائي حيث قام باستئناف الحكم امام محكمة الاستئناف التي ايدت الحكم الابتدائي مسببة حكمها : ان المادة (51) من قانون التأمينات تنص على انه يجوز للعامل المدعي الاستمرار بالعمل حتى تبلغ اشتراكاته الحد الادنى لاستحقاقه المعاش التقاعدي وهي اشتراكات عشر سنوات , ولا شك ان القانون اسند هذا الحق  للعامل المؤمن عليه فله الاستمرار في العمل من عدمه حتى تبلغ اشتراكاته التقاعدية الحد الادنى لاستحقاق المعاش التقاعدي الا ان ذلك لا يعني اجبار صاحب العمل على ذلك فليس واجبا عليه القبول برغبة العامل اذا ما اراد الاستمرار في العمل لإكمال الحد الادنى لاستحقاق المعاش التقاعدي, وفي الوقت ذاته فان القانون قد حدد سن التقاعد ببلوغ العامل ستين سنة والمستأنف قد تجاوز سنه تلك السن  المحددة للتقاعد الامر الذي اوجب على المستأنف ضدها احالته الى التقاعد, الا ان العامل المستأنف لم يقنع بالحكم الاستئنافي حيث بادر الى الطعن بالنقض في ذلك الحكم امام المحكمة العليا التي قبلت طعنه ونقضت الحكم الاستئنافي؛ وقد حاء في اسباب حكم المحكمة العليا (غير ان المادة (51) من قانون التأمينات الاجتماعية في الفقرة الخامسة اجازت للمؤمن عليه الاستمرار بالعمل حتى تبلغ اشتراكاته الحد المشار اليه في الفقرة الخامسة اجازت للعامل  للمؤمن عليه الاستمرار بالعمل حتى تبلغ اشتراكاته الحد المشار اليه في الفقرة (1) من هذه المادة على ان لا تزيد عن 60 اشتراكا – أي خمس سنوات – او يسدد ذلك التأمين دفعة واحدة عن حصته وحصة صاحب العمل,فالفقرة (1) من هذه المادة حددت الحد الادنى لاشتراكات التأمين لكي يستحق المؤمن عليه معاش الشيخوخة عند بلوغه الستين عاما بمائة وثمانين اشتراكا شهريا, ومحكمة الاستئناف ايدت محكمة اول درجة في القول بأن المادة (51) من قانون التأمينات الاجتماعية تجعل الامر اختياريا للعامل  المؤمن عليه فلا اجبار على صاحب العمل بقبول رغبة العامل في مد خدمته, وهذا الذي ايدت  ايدته محكمة الاستئناف لا اصل له في النص القانوني المشار اليه, فنص المادة (51) اجاز للمؤمن عليه اذا بلغ الستين من العمر ولم تبلغ اشتراكاته الحد الادنى لاستكمال معاش الشيخوخة وهو (180) اشتراكا شهريا  ان يستمر في العمل حتى تبلغ اشتراكاته (180) اشتراكا شهريا على ان لا تزيد عن (60) اشتراكا أي خمس سنوات او ان يقوم بتسديد النقص في اشتراكات التامين دفعة واحدة عن حصته وحصة صاحب العمل, فالجواز الوارد في نص المادة (51) غير مقيد بموافقة صاحب العمل, وعلى ذلك تكون محكمة الموضوع قد حملت النص ما لا يتحمله, ولهذا السبب فان الدائرة تقرر نقض الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية : 

الوجه الاول : النص القانوني المتضمن استمرار العامل في العمل لغرض استكمال الحد الادنى للاشتراكات:

نظمت المادة (51) من قانون التأمينات الاجتماعية النافذ حين صدور الحكم محل تعليقنا نظمت حالة استمرار العامل في العمل اذا بلغ سن التقاعد ولم تبلغ اشتراكاته الحد الادنى الذي يؤهله لاستحقاق معاش الشيخوخة حيث نصت هذه المادة على انه (يستحق معاش الشيخوخة في الاحوال الاتية : 1-بلوغ المؤمن عليه سن الستين عاما وبلوغ المؤمن عليها سن الخامسة والخمسين سنة على الا تقل مدة الاشتراك في التأمين عن  (240)اشتراكا شهريا (20سنة)والا يلتحق بعمل تسري عليه احكام هذا القانون ويخفض المعاش في هذه الحالة بالنسبة الواردة بالجدول المرفق بهذا القانون.

3- اذا بلغت اشتراكات المومن عليه(360) اشتراكا شهريا أي (30سنة) والمومن عليها (300) اشتراكا أي (25سنة) مهما كان السن .

4- اذا بلغت اشتراكات المومن (300) اشتراكا أي  25 سنة وبلغ عمره سن الخمسين واذا بلغت اشتراكات المومن عليها (240) اشتراكا شهريا أي (20)سنة وبلغ عمرها سن السادسة والاربعين.

5- يجوز للمومن عليه الاستمرار بالعمل حتى تبلغ اشتراكاته الحد المشار اليه في الفقرة (1)من هذه المادة على ان لا تزيد عن (60)اشتراكا  أي خمس سنوات اذا كان ذلك سيعطيه الحق في الحصول على المعاش كما يجوز له تسديد النقص في اشتراك التأمين دفعة  واحدة عن حصته وحصة صاحب العمل ؛) وبالطبع فقد لحقت بهذه المادة  تعديلات بموجب قانون التأمينات الاجتماعية الذي صدر عام 2016 م ولكن الحكم محل تعليقنا قد استند الى المادة السابق ذكرها كما هي قبل تعديلها علما بان التعديل الذي تم في قانون 2016 لم يعالج الاشكالية التي نحن بصدد تناولها في هذا التعليق  فمازالت هذه الاشكالية كما هي ايضا في النص المعدل .

الوجه الثاني : تفسير محكمتا الموضوع للمادة (51) تأمينات : 

من خلال مطالعة اسباب حكمي محكمتي الموضوع نجد ان محكمتا الموضوع قد فسرت المادة (51) تأمينات على ان جهة العمل او صاحب العمل ليس ملزم بقبول طلب العامل للاستمرار في عمله حتى يستكمل الحد الادنى من الاشتراكات التي تؤهله للحصول على معاش الشيخوخة , ويستدل لهذا التفسير بالاتي : 

1- الجهة التي يعمل لديها العامل ملزمة بموجب قانون التأمينات بإحالة العامل للتقاعد عند بلوغه احد الاجلين , فالنص الذي يقرر ذلك واجب وامر يجب على الجهة الالتزام به. 

2- احالة العامل للتقاعد عند بلوغه احد الاجلين حق له حتى يخلد للراحة لاسيما وهو في سن يحتاج فيها الى الراحة ,وهذا الحق الجسدي الانساني لا يقبل المعاوضة مثله في ذلك مثل حق العامل في الاجازة السنوية التي يتوجب عليه ان يأخذها عينا ولا يحق له مطالبة جهة العمل بالبدل النقدي عنها لان الاجازة مقررة لصحة العامل وكذلك الحال بالنسبة لاستمراره بالعمل بعد بلوغه السن المحددة للإحالة للتقاعد .

3- عقد العمل مثل غيره من العقود الرضائية يقوم على تراضي طرفي العلاقة العقدية العامل ورب العمل ,فإجبار رب العمل على استمرار العامل بالعمل بعد بلوغه سن التقاعد يتنافى مع فكرة العقد الرضائي .

4- عقد العمل يقوم على قاعدة (الاجر مقابل العمل ) فالعامل بعد بلوغه السن المحددة للتقاعد يكون ضعيفا يقل عمله لاسيما العمل اليدوي عما كان عليه , في حين ان رب العمل سيكون ملزما بدفع أجوره المعتادة بدون نقص .

5- الغرض من استمرار العامل في العمل بعد بلوغه السن القانونية للتقاعد هو استكمال الحد الادنى للأقساط وليس شيء اخر حسب ما ورد في النص , وهذه المصلحة محضة للعامل وليس فيها أي فائدة لرب العمل  بل ان ذلك مضر برب العمل حيث ان إجباره على قبول استمرار العامل بالعمل بعد بلوغه السن القانونية للتقاعد يجعل رب العمل ملزما بدفع مبالغ مالية اضافية للعامل اثناء استمراره مثل البدلات والمزايا وغيرها اضافة الى دفع حصته من الاشتراكات التأمينية .

6- عند التأمل في المادة (51) تأمينات وتحديدا في الفقرة (5) منها نجد ان المعني والمخاطب بها هو العامل وحده ولم يرد فيها ذكر لرب العمل, ففي الزام رب العمل بما ورد فيها الزام بما لم يلزمه القانون .

7- الفقرة (5) من المادة (51) تأمينات خيرت العامل بين الاستمرار في العمل حتى يكمل الحد  الادنى للحصول على معاش الشيخوخة وبين ان يقوم العامل  بتسديد النقص في اشتراك التأمين دفعة عن حصته وحصة صاحب العمل حسبما ورد في الفقرة (5) من المادة (51), فذلك يعني  ان العامل وحده هو الذي يتحمل كلفة ونتيجة الخيار الذي يختاره, فإجبار رب العمل على تحمل نتيجة اختيار العامل فيه زيادة على النص وتجاوز له, فالخيار الثاني وهو قيام العامل بسداد قيمة النقص يجعل العامل وحده هو الذي يدفع حصته وحصة صاحب العمل في الاقساط فهذا يدل على ان العامل وحده الذي يتحمل كلفة تسوية وضعه التأم

الوجه الثالث : تفسير المحكمة العليا للفقرة (5) من المادة (51) تأمينات :

عند دراسة اسباب حكم المحكمة العليا السابق ذكرها نجد ان المحكمة العليا لم تقر تفسير محكمتا الموضوع للفقرة (5) من المادة (51) تأمينات وهذا يعني ان المحكمة العليا قد ذهبت الى ان اختيار العامل للاستمرار في العمل لإكمال الحد الادنى للاشتراكات لحصوله على معاش الشيخوخة يوجب على رب العمل قبول هذا الاختيار وتنفيذه وتمكين العامل في هذه الحالة من الاستمرار في العمل, ويستدل لوجهة حكم المحكمة العليا بالأدلة الاتية : 

1- مفهوم التأمين الاجتماعي يقوم على الجبر لطرفي العلاقة العامل ورب العمل, فلا يقبل من العامل او رب العمل رفض التأمين الاجتماعي الذي قدرت الدولة انه مصلحة اجتماعية وليست مصلحة شخصية للعامل او رب العمل, ولهذا الاعتبار يطلق اسم التأمين الاجتماككجججعي على هذا النظام وتمت تسمية القانون بقانون التأمينات الاجتماعية .

2- معاش الشيخوخة هدف من اهم اهداف التأمين الاجتماعي واستمرار العامل في العمل حتى يستكمل الحد الادنى لاستحقاق معاش الشيخوخة او المعاش التقاعدي يحقق هذا الهدف الاصيل .

3- عند النظر في الخيارين المتاحين للعامل الاستمرار في العمل او تسديد النقص في الاشتراكات, نجد ان الخيار المتاح الاسهل هو الاستمرار في العمل لاستكمال اقساط الاشتراك في حين ان خيار تسديد النقص في الاشتراكات متعذر على غالبية العمال فلا تكليف بما لا يستطاع, ولذلك فلم يبق الا خيار استمرار العامل في العمل .

4- استمرار العامل في العمل للوفاء بالحد الادنى من الاشتراكات خيار مرض للطرفين العامل ورب العمل, فرب العمل سوف يحصل على جهد العامل الذي سبق له ان جربه وعرفه وتوثقت علاقته معه في الفترة الماضية والعامل سوف يتمكن من استكمال بقية الاقساط التي تؤهله  لاستحقاق معاش الشيخوخة بحسب النسبة المحددة بموجبها .

5- ليس من الدين والعدل والاخلاق ان يخرج العامل المسن الذي يبلغ سن التقاعد الى الشارع بدون معاش شيخوخة يكفل له الحصول على الحد الادنى من الاحتياجات لا سيما وهو في سن يحتاج فيها  الى كمتطلبات شيخوخة مثل العلاج والاطعمة الخاصة .

الوجه الرابع : توصية للمشرع اليمني لمعالجة هذه الاشكالية تشريعيا :

من خلال مطالعتنا لأحكام عدة وبحكم خبرتنا ومعرفتنا والاستشارات التي تطلب منا في هذا الشأن اقول : ان هذا الموضوع يعد اشكالية واسعة النطاق فلا تخلو مؤسسة او شركة من وجود نزاعات بشأن هذا الموضوع الذي لم يحسمه المشرع وتركه للاجتهادات المتناقضة مثلما رأينا في الحكم محل تعليقنا ولذلك فانه يجب على المشرع من وجهة نظرنا ان يحسم هذه المشكلة لا سيما وان قانون التأمينات الصادر عام 2016م قد نص في المادة المقابلة للمادة (51) على ان اللائحة التنفيذية للقانون سوف تبين اجراءات تنفيذ هذه المادة التي تتضمن جواز استمرار العامل في العمل لاستكمال الحد الادنى للأقساط التي تؤهله للحصول على معاش الشيخوخة, ونوصي بان يسترشد ويستأنس المشرع في معالجته لهذه القضية بالأسانيد والادلة التي سبق لنا الاشارة اليها في الوجهين السابقين الاول والثاني، والله اعلم.