حكم الإجراءات الأولية للتصرف في أراضي الدولة

 

حكم الإجراءات الأولية للتصرف في أراضي الدولة

أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من المسلم به ان اراضي وعقارات الدولة لم يتم حصرها وإعداد الخرائط الجوية التي اشترطها قانون اراضي وعقارات الدولة ولائحته التنفيذية التي تعد بمثابة حصر لاراضي وعقارات الدولة لان هذه الخرائط تبين مواقعها وحدودها ومساحاتها والتعديات عليها ماضياً وحاضرا ، ومن جانب اخر فان هناك مشكلة في ادارة وتخصيص الاراضي للمصالح والمنافع العامة وكذا في صرفها للاشخاص للانتفاع بها حيث يحدث التضارب في إجراءات التصرف بعقارات الدولة سواء لهذا الغرض او ذاك، وتتسبب هذه الإشكاليات في بروز اشكاليات اخرى مثل تمسك بعض الاشخاص بالإجراءات الأولية في معاملة الحصول على ارض من اراضي الدولة حيث تقتضي المصلحة العامة تخصيص اراضي للمصالح والمنشات العامة يكون قد سبق ذلك مباشرة الاجراءات الأولية من قبل المواطنين للانتفاع بتلك الاراضي التي يتم تخصيصها للمشروع العام فعندئذ يتمسك المواطنون اصحاب المعاملات أو الاجراءات الأولية يتمسكون بتلك المعاملات على اساس ان تلك المعاملات او الاجراءات قد رتبت حقوق شرعية وقانونية لهم وانها تمنع هيئة الاراضي عن تخصيص الاراضي المشار اليها في معاملاتهم أو اجراءاتهم الاولية للمنفعة أو المصلحة العامة فعندئذ تحدث اشكاليات وفتن منها مطالبة هولاء للدولة بتعويضهم وغير ذلك من الطلبات ، ولأهمية هذا الموضوع وفائدته العلمية والعملية فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 16/3/2011م في الطعن المدني رقم (43900) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية ان ستة مواطنين شرعوا في اجراءات المعاملة الأولية للحصول على عقد انتفاع في اراضي للدولة تم تحديدها وتحديد مساحتها وحدودها في تلك المعاملات والاجراءات التي قام بها أولئك المواطنون وقبل ان  تستكمل تلك الاجراءات ويتم ابرام عقود الانتفاع قرر المجلس المحلي للمدينة انشاء ملحق للمستشفى العام المجاور للارض  في تلك  المدينة حيث اتفق المجلس المحلي مع فرع الهيئة على تخصيص تلك التي كان المواطنون الستة قد شرعوا في اجراءات الحصول عليها حيث تم الاتفاق فيما بين المجلس المحلي وفرع هيئة الاراضي على تخصيص تلك الارض لانشاء ملحق للمستشفى العام وبالفعل تم تسليم تلك الارض الى مكتب الصحة الذي بادر الى تسوية الارض والشروع بالبناء عليها وفي اثناء ذلك قام المواطنون الستة بمحاولة منع البناء حتى انتهى الأمر الى قيام المواطنين برفع دعوى امام المحكمة المختصة اختصمت فيها مكتب الصحة وفرع الهيئة  بانهما قاما بالاعتداء على باعمال الحفر والبناء في الارض التي سبق صرفها بحسب ما يحملونه من توجيهات ومخاطبات واجراءات صحيحة وان المجلس المحلي للمدينة قد حرر  محضر تسليم تلك الارض الى مكتب الصحة في حين ان المجلس المحلي ليس مختصاً بالتصرف في اراضي الدولة ، وقد سارت المحكمة الابتدائية في اجراءات نظر الدعوى حتى توصلت الى الحكم (بعدم صحة الدعوى المرفوعة من المدعين وصحة محضر تسليم الارض فيما بين المجلس المحلي ومكتب الصحة ويحق للمدعين الحصول على قطع اراضي لغرض السكن الشخصي وفقاً للاجراءات لدى هيئة اراضي وعقارات الدولة) فلم يقبل المدعون بالحكم الابتدائي فقاموا باستئنافه فقضت محكمة الاستئناف بتعديل الحكم الابتدائي تعديلاً طفيفاً حيث صار منطوقه (الزام هيئة اراضي الدولة بتعويض المدعين المستأنفين بموقع مناسب طبقاً لاوليات الصرف التي كانت قد تمت؛) ، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (فالشعبة تجد ان المناعي التي يثيرها المستأنفون على الحكم الابتدائي ليست في محلها لان الارض محل النزاع كان المستأنفون قد حصلوا على استمارات أولية (حجوزات) في تلك الارض  وبحكم مجاورة الارض لمبنى المستشفى فقد تم  تخصيصها لانشاء سكن لأطباء المستشفى حيث  تم تسليم الارض للمقاول وتم استكمال اجراءات التخصيص وتسليمها على النحو المبين في محضر التسليم  الذي تم التوقيع عليه من قبل ممثلي المستأنف ضدهما هيئة الاراضي والصحة وكان الهدف من التخصيص المصلحة العامة التي لها أولوية على المصلحة الخاصة ولا يعني ذلك حرمان المستأنفين من حقهم المكتسب في الحصول على تعويض مناسب بحكم الأوليات التي يحملونها عن الاراضي التي تم تسليمها للبناء عليها للمصلحة العامة وان يتم تعويضهم باراضي مساوية في موقع مناسب وبنفس المساحات المحددة باستمارات الحجز التي يحملونها) فلم يقنع المستأنفون بالحكم الاستئنافي فقاموا بالطعن فيه بالنقض الا ان الدائرة المدنية بالمحكمة العليا رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي ، وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (والدائرة تجد ان الطاعنين ينعون على الحكم الاستئنافي مخالفته للقانون لاستناده على محضر تسليم الارض لانشاء ملحق للمستشفى دون ان يكون هناك محضر تسليم للارض من قبل هيئة الاراضي حيث تم استخراجه لاحقاً من هيئة الاراضي بعد صدور الحكم الابتدائي وان القرار الصادر من المجلس المحلي بتسليم الارض مخالف لقانون اراضي وعقارات الدولة الذي اناط التصرف باراضي الدولة لهيئة اراضي الدولة ، وبشأن هذه المناعي فقد تبين للدائرة من خلال أوراق القضية ان ما يحمله المدعون عبارة عن اجراءات فنية قابلة للالغاء وعليه فانه لا يحق للمدعين المطالبة بتلك الاراضي بناءً على الاجراءات الاولية لانها لا  ترقى الى مستوى العقد اضافة الى تعارضها مع المصلحة العامة المقدمة على المصلحة الخاصة حسبما ورد في اسباب الحكم الابتدائي ، وحيث ان الحكم المطعون فيه قد أيد الفقرة (2) من منطوق الحكم الابتدائي وعدل الفقرتين 1و 3 منه وذلك برفض دعوى عدم التعرض لعدم قيام سببها والزام هيئة الاراضي بتعويض المدعين بارض مناسبة وجاء في رد هيئة الاراضي ان الارض التي يطالب بها المدعون بموجب المعاملات الاولية هي مخصصة أصلاً لمصلحة عامة سكن للأطباء ومعهد صحي تابع للمستشفى وقد تم تسليم الارض بمحضر رسمي  ، فطالما ان الارض قد تم تخصيصها للمصلحة العامة فان ذلك لا يمنع من تسليم المحضر قبل أو بعد التقاضي حسبما أكدت الهيئة باعتبارها الجهة المسؤولة قانونا عن التصرف باراضي وعقارات الدولة كما أوضحت الهيئة ان الطاعنين لا يملكون أية وثائق رسمية في الارض حتى يتم الاحتجاج بها امام القضاء وان كل ما لديهم من مستندات لا ترقى الى مستوى العقود ، وحيث ان رد الهيئة على الطعن قد تضمن طلب الغاء الفقرة الواردة في الحكم المطعون فيه التي قضت بالزام الهيئة بتعويض الطاعنين ، وحيث انه كان ينبغي على الهيئة ان  تطلب ذلك  بطعن وليس في ردها ولذلك فان ذلك الطلب لا يلتفت اليه وحيث ان ما اثاره الطاعنون في طعنهم لا يؤثر في سلامة الحكم المطعون فيه ولا تتحقق في الطعن اية حالة من حالات الطعن بالنقض المنصوص عليها في المادة (292) مرافعات فان الطعن يستحق الرفض) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : الوضعية القانونية للمعاملات والاجراءات الأولية للانتفاع باراضي الدولة:

في ضوء احكام الشريعة الإسلامية والقانون المدني وقانون اراضي وعقارات الدولة ولائحته التنفيذية نجد ان طالب الانتفاع باراضي الدولة هو الذي يشرع في معاملات واجراءات الحصول على ارض من اراضي الدولة حيث يقوم بحجز الارض المراد الانتفاع بها ويقوم باجراء المعاملات والإجراءات الاخرى بما فيها استمارة حجز الأرض التي تبين مساحتها وحدودها ومكانها وتنتهي هذه الاجراءات بإبرام العقد فيما بين الهيئة وطالب الانتفاع ، ومن خلال ذلك يظهر ان هذه الاجراءات او المعاملات عبارة عن اجراءات تمهيدية أو تحضيرية للتعاقد الذي يتم بايجاب من هيئة الاراضي لانها المالكة وقبول من المنتفع اوالمستفيد ، فالشخص الذي  يشرع في اجراءات المعاملة للحصول أو الانتفاع باراضي الدولة لا يكون موجباً ولا تكون تلك الاجراءات الاولية التي يقوم بها إيجاباً ولا تكون الموافقات والتوجيهات الأولية قبل التعاقد قبولاً من الهيئة لطلب المنتفع أو المستفيد ، وعلى هذا الاساس فان هذه الاجراءات الاولية لا تكون ملزمة لهيئة الاراضي الا اذا كانت الهيئة  هي التي طلبت من المستفيد ان يحضر اليها للقيام  بالاجراءات الاولية  للانتفاع بارض الدولة ، فهذه المعاملات بمثابة طلبات للافراد تقوم الهيئة بدراستها في ضوء القوانين واللوائح وللهيئة مطلق الصلاحية ان تقبل أو ترفض تلك الطلبات وهذا المعنى هو الذي قصده الحكم محل تعليقنا حينما ذكر ان تلك المعاملات لا ترقى الى مستوى العقد.

الوجه الثاني : مسؤولية هيئة الاراضي عن الاجراءات الأولية للتعاقد على ارض الدولة:

سبق القول في الوجه الأول ان هذه الاجراءات هي من طلبات للافراد تكون بمثابة الاعمال التحضيرية للعقد الذي سيتم ابرامه لاحقاً وليست من قبيل العقد ذاته الذي يرتب الاثار العقدية من التزام الاطراف بالوفاء والتنفيذ للالتزامات الواردة فيه أو تلك يرتبها القانون على ذلك ، ولذلك فان هيئة الاراضي لا تكون ملزمة أو ملتزمة بالوفاء بالمطالبات التي ترد في تلك المعاملات الأولية طالما وانها لم تتوج بالتعاقد كما ان الهيئة لا تكون ملزمة بالطلبات الواردة في تلك المعاملات والاجراءات الأولية باعتبارها من قبيل الوعد بالتعاقد لان هيئة الاراضي لم توعد طالب الانتفاع بالتعاقد بل هو الذي جاء من تلقاء نفسه يطلب التعاقد مع الهيئة وخلاصة القول ان الهيئة لا تكون مسئولة عن أية مطالبات يرد ذكرها في المعاملات الأولية للحصول على اراضي الدولة للانتفاع بها.

الوجه الثالث : حجز ارض الدولة واستمارة الحجز:

معنى الحجز هنا هو قيام طالب الحصول على ارض الدولة بتحديد مساحة معينة من حيث مكانها وحدودها وقدرها وحيازتها ثم التقدم الى هيئة الاراضي لاثبات تلك بيانات تلك الارض المحجوزة في نموذج استمارة معدة من قبل هيئة الاراضي وهو من ضمن  النماذج المعدة لطلبات الحصول على اراضي الدولة للانتفاع بها ، فالمقصود من هذه الاستمارة بيان موقع الارض المطلوب الحصول عليها ومساحتها وحدودها ...الخ ويتم التوقيع عليها بغرض تمكين المختصين في الهيئة من دراسة الطلبات واتخاذ القرار المناسب بشأنها في ضوء البيانات الواردة فيها وفي ضوء المستندات الاخرى المرفقة بتلك الاستمارة ، ولذلك فان حصول طالب الانتفاع بارض الدولة على تلك الاستمارة لا يعني أحقيته في تلك الارض في مواجهة الهيئة العامة للاراضي فلا يحق له مطالبة الهيئة بالتعويض ان لم توافق على طلبه لان الاستمارة ليست عقداً ملزماً للهيئة أو لطالب الحصول على الارض.

الوجه الرابع : اساس الحكم بالتعويض على هيئة الاراضي في الحكم محل تعليقنا :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم الابتدائي والاستئنافي قد حكما بالزام هيئة الاراضي بتعويض المدعين عن الارض المخصصة للمنفعة العامة وذلك بمنحهم اراضي مماثلة في مكان مناسب وهذا القضاء لا يتفق مع التكييف الصحيح للمعاملات والاجراءات الأولية التي لاتكسب هولاء حقاً ، ومع ذلك فان محامي هيئة الاراضي لم يستأنف الحكم الابتدائي ولم يطعن في الحكم الاستئنافي  بالنقض ويطلب في الطعن  الغاء الحكم على الهيئة بالتعويض وقد المح حكم المحكمة العليا الى ذلك ؛ فلو استأنف محام الهيئة الحكم وصرح في استئنافه وكذا في طعنه بالنقض بالغاء التعويض لحكمت المحكمة بالغاء التعويض ولكنه اخلد الى الراحة وتجنب الصدام.

الوجه الخامس : لا تستجيب  محكمة الطعن للطلبات مالم يرد ذكرها في طعن:

من مطالعة حكم المحكمة العليا نجد انه قد قرر في اسبابه ان تضمين رد الهيئة على الطعن طلبها الغاء الفقرة الخاصة بالزام الهيئة بالتعويض لا يلزم المحكمة بالاستجابة لهذا الطلب طالما وان هذا الطلب لم يرد  ذكره في طعن  ، وهذا اجتهاد سديد لان الطعون اصلاً بمثابة دعاوى تتضمن طلبات فلا يكون الخصم جاداً في طلبه حينما يذكره في ثنايا رده على طعن خصمه ، ولذلك ينبغي عليه ان اراد ان تستجيب المحكمة لطلبه ان يقدم هذا الطلب ضمن طعن كلي او جزئي اما اذا أورده ضمن رده على طعن خصمه فلا تكون المحكمة ملزمة بالاستجابة له؛ والله اعلم.