تكييف التنازل
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
صيغة التنازل في
اليمن تخفي تصرفات اخرى كثيرة ابرزها البيع، فالتنازل من حيث تكييفه يثير إشكاليات
لا حصر لها من ضمنها مقابل التنازل واثباته، ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترنا
التعليق على الحكم الصادر من الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 27/1/2015م في الطعن رقم (56400) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم ان فناناً تقدم بدعواه أمام المحكمة التجارية الابتدائية ضد صاحب تسجيلات
وتوزيع ادعى الفنان فيها أنه قد تعاقد مع محل التسجيلات والتوزيع على تسجيل شريط
اغاني متنوعة مدته (46) دقيقة، وبالفعل تم التسجيل والتوزيع للشريط إلا أن محل
التسجيلات لم يسدد مستحقاته عن ذلك الشريط، وقد رد المدعى عليه بان الفنان قد
تنازل عن كافة مستحقاته حسبما هو ثابت في المحرر الموقع عليه من قبل الفنان
والمصادق عليه من قبل مكتب وزارة الثقافة، وقد حكمت المحكمة الابتدائية بالزام
المدعى عليه بدفع ثلاثمائة الف ريال للمدعي، وقد عللت المحكمة حكمها بان (المدعي
مقر بالتنازل في اكثر من موضع إلا انه يدعي احياناً أنه تنازل صوري وتارة ينكر ان
التنازل مقابل اربعين الف، فلم تجد المحكمة ما يدل على تسليم المدعى عليه للمدعي
أي مبلغ أو مايدل على انهما اتفقا على ان
يكون التنازل مقابل اربعين الف ريال) فقام صاحب محل التسجيلات والتوزيع باستئناف
الحكم فقضت الشعبة الاستئنافية بتعديل المبلغ المحكوم به إلى اربعين الف ريالا فلم
يقبل الفنان بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض إلا ان الدائرة التجارية
رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فانه
بالرجوع إلى حكم الشعبة التجارية تجد الدائرة انها قضت بتعديل حكم محكمة أول درجة،
والحكم للطاعن بمبلغ أربعين الف ريالاً لما عللت به ومن ذلك ان الطاعن عجز عن
إثبات المبالغ المتحصلة من بيع الشريط، مع انه في مثل ذلك التعامل وهو تسويق
الاشرطة الغنائية ومدى تقبل الجمهور لها فذلك لا يعلم الا من جانب المدعى عليه
صاحب التسجيلات، وحيث أنه المدعى عليه ادعى التنازل عن الشريط وقدم الادلة على ذلك
إلا أن كل ذلك لا يكفي لاثبات تسليمه المقابل للفنان) وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : ماهية التنازل وتكييفه القانوني :
التنازل تصرف قانوني
يتضمن اسقاط الشخص لحقه الذي يرد عليه التنازل، فقد يكون محل التنازل أو الاسقاط
ثمن شيء أو اجرة كما قد يكون الشيء
المتنازل عنه عملاً كمن يدفع الاجر للعامل ومن في حكمه مقدماً ثم يعفيه من القيام
بالعمل، وقد يكون الشيء المتنازل عنه حقاً عينياً كالنقود والاشياء العينية كما قد
يكون حقاً معنوياً مثل الحق الفكري مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل
تعليقنا حينما تنازل الفنان عن حقه الفكري، ولان
الأصل في التنازل انه اسقاط محض من المتنازل عن حقه وعفوه عمن تقرر الالتزام
عليه ،لذلك فان التنازل المحض الذي يكون من غير مقابل يكون حكمه حكم الهبة فتسري
عليه أحكام الهبة، وتبعاً لذلك لا يجوز لناظر الوقف أو المسئول عن أراضي الدولة
واملاكها أو الولي على أموال القاصرين التنازل، لان حق الولاية على الأموال في هذه
الاحوال قاصرة على الادارة، إلا أن
الإشكاليات الواقعية في اليمن تظهر لان صيغة التنازل تستعمل في غير محلها حيث صار
من المألوف في اليمن ان بيع الحق في الوكالة التجارية للشركات الاجنبية في اليمن
يتم بصيغة تنازل عن وكالة تجارية كما ان غالبية الشركاء في الشركات يبيعون حصصهم
في الشركات بصيغة تنازل عن حصص في الشركةبل أن بعض الورثة يبيع
نصيبه شائعا بصيغة تنازل عن نصيب، ولذلك فان هذه الصيغ وان استعملت صيغة
التنازل إلا انها في حقيقة الأمر عبارة عن بيوع أو عقود معاوضة بحسب نوع التصرف
الذي تضمنته أو مضمون ومحتوى التصرف، فالعبرة بالمحتوى وليس بالمسمى الذي يطلقه
اطراف التصرف، ولذلك فقد لاحظنا في الحكم محل تعليقنا ان الفنان وموزع التسجيلات
قد استعملا صيغة التنازل مع ان التصرف في الحقيقة هو عبارة عن بيع الفنان لحقه
الفكري إلى الموزع مقابل مبلغ معين.
الوجه الثاني : مقابل التنازل :
ذكرنا في الوجه الأول
ان التنازل اسقاط محض من غير مقابل هذا في العالم اجمع اما في اليمن فقد ذكرنا ان
صيغة التنازل تتضمن تصرفات معاوضة كالبيع، ولذلك فأن التنازل عندما يشتمل على صيغة
البيع او غيره من تصرفات المعاوضة فانه ينبغي البحث عن العوض أو مقابل التنازل
،فاذا تم ذكر العوض او المقابل في وثيقة التنازل فان التنازل يكون بيعاً غير أنه
في بعض الحالات لا يتم ذكر العوض في وثيقة التنازل مثلما وقع في القضية التي
تناولها الحكم محل تعليقنا حيث لم يذكر مقابل تنازل الفنان عن شريطه الغنائي لمحل
التسجيلات والتوزيع لم يذكر ذلك في وثيقة التنازل، وفي حالة عدم ذكر مقابل التنازل
في وثيقة التنازل فان التصرف يكون حينئذ تنازلاً محضاً إلا اذا دلت قرائن الحال
والتعامل على ان التصرف ليس تنازلا محضا مثل تنازل الفنان عن الشريط حيث ان غالب
التعامل في حق الفنان والمؤلف انه يتقاضى مقابل حقه لاحقاً بعد بيع أو توزيع
المنتج الفني أو الادبي.
الوجه الثالث : إثبات التنازل وإثبات المقابل :
يخضع الإثبات في
الحالتين للقواعد والطرق العامة للإثبات حيث يثبت الامران بكل طرق الإثبات المقررة
شرعاً وقانوناً غير أنه اذا ثبت التنازل وحده فان ذلك لا يعني في كل الاحوال ان
التصرف اسقاط محض خاصة في اليمن لعدم
العناية في استعمال صيغة التنازل الا اذا دلت قرائن الحال على ان التنازل اسقاط
محض مثل تنازل الأب عن نصيبه في تركة أبنه المتوفي اثناء حياته، ومع ثبوت التنازل
وحده وعجز المتنازل عن إثبات العوض أو المقابل فان التنازل عندئذ يكون تنازلاً
محضاً من غير عوض، ومع ان المقرر ان ثبوت التنازل بالكتابة لا يقتضي وجوب إثبات
المقابل كتابة حسبما قضى الحكم محل تعليقنا ،مع ان غالبية المتنازلين يحرصون على
إثبات مقابل التنازل في وثيقة أخرى غير وثيقة التنازل خاصة حينما يحجم بعض
المتنازلين عن إثبات مقابل التنازل في وثيقة التنازل تهرباً من رسوم التوثيق أو
غير ذلك، والله اعلم.