إشكالية الطعن في الجانب المدني للحكم الجزائي

 

إشكالية الطعن في الجانب المدني للحكم الجزائي

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

كل الجرائم تقريباً تترتب عليها اضراراً بالأشخاص وتفوت عليهم بسببها مكاسب كثيرة، وهذه الاعتبارات كانت الباعث على تقرير رفع الدعاوى المدنية التبعية أمام القاضي الجزائي الذي ينظر في الجرائم التي ترتبت عليها تلك الاضرار حيث يفصل القاضي الجزائي في الدعوى الجزائية والدعوى المدنية التبعية بحكم واحد، وعند الطعن في الحكم يكون استئناف المضرور من الجريمة مقصور على جانب الحكم الذي فصل في الدعوى المدنية دون الجانب الذي فصل في الدعوى الجزائية، ولكن الاشكالية تكمن في الارتباط والعلاقة الجدلية بين الدعوى الجزائية والدعوى المدنية التابعة لها حيث في الغالب لا تقوم للدعوى المدنية التبعية قائمة بدون الدعوى الجزائية، فاذا قامت الدعوى الجزائية ثبتت المسئولية الجزائية واذا ثبتت المسئولية الجزائية ثبتت تبعاً لذلك الدعوى المدنية التبعية، ولذلك نجد أن المدعي بالدعوى المدنية يكون حريصاً على قبول الدعوى الجزائية وسلامتها لتعلقها الجدلي بدعواه المدنية وحقوقه ومصالحه ،فهذه إشكالية تستحق الاشارة اليها في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/5/2013م في الطعن رقم (47853) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم في ان احد الفلاحين قدم شكوى إلى النيابة العامة مفادها :ان جاره في المزرعة قد هدم الجدار الفاصل بين المزرعتين وازال المعالم الفاصلة بينهما، فقامت النيابة العامة بإحالة القضية إلى المحكمة وطلبت النيابة في قرار الاتهام معاقبة المتهم بالعقوبة المقررة لجريمة نقل وازالة الحدود المقررة بموجب المادة (323) عقوبات، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بعدم ثبوت التهمة وان للمدعى بالحق المدني تقديم الدعوى المدنية أمام القاضي المدني المختص، وقد ورد في أسباب الحكم الابتدائي (ان النيابة اقحمت نفسها في القضية  وأضفت على النزاع جانباً جنائياً وهو غير موجود، فالقضية مدنية بحتة متعلقة بزيادة ونقصان أرض وليس كما ذهبت اليه النيابة) و قد قام النيابة باستئناف الحكم إلا أن استئنافها لم يقبل لتقديمه بعد فوات الميعاد ،وكذا قام الشاكي المدعي بالحق المدني قام باستئناف الحكم الابتدائي  إلا أن الشعبة الجزائية قضت بتأييد الحكم الابتدائي، فما كان من المستأنف إلا أن بادر إلى الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي غير أن الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا (وحيث أن البين من الاطلاع على الحكم الابتدائي أنه قضى فيما يتعلق بالدعوى الجزائية بعدم ثبوت التهمة المنسوبة للمتهم بقرار الاتهام  وقد استأنفت النيابة الحكم إلا أن استئنافها تم رفضه لتقديمه بعد مضي الميعاد كما ان النيابة لم تطعن بالنقض في حكم الاستئناف مما يجعل الحكم في الدعوى الجزائية نهائياً وبناءً على ذلك فان الطعن المرفوع من المدعي بالحق المدني قد توجه بكامله إلى الحكم في الدعوى الجزائية بعدم ثبوت التهمة للمطعون ضده الأمر الذي يتعين معه رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : نطاق الدعوى الجزائية ودور النيابة العامة بشأنها :

النيابة العامة من اسمها تمثل المجتمع فهي عليه وتحرك الدعوى الجزائية نيابة عن المجتمع ككل وتمثله أمام المحكمة للدفاع عن حقوقه فلايهمها شان المجني عليه إلا باعتباره فردا من افراد المجتمع ، ولذلك فان دورها يتمثل في التحقيق في شكاوى المجني عليهم للتأكد والتحقق من صحتها وما اذا كانت تشكل افعالاً جنائية يعاقب عليها القانون بناء على التكييف الذي تجريه النيابة، فاذا تحققت النيابة من ذلك قامت بإحالة القضية إلى المحكمة بقرار احالة او اتهام ويكون قرار الاتهام أو الدعوى الجزائية مستقلة عن الدعوى المدنية التي يرفعها المدعي بالحق المدني أمام المحكمة ذاتها التي تنظر الدعوى الجزائية، فالنيابة العامة لا ترفع الدعوى الجزائية أمام المحكمة المختصة الا بعد ان تتأكد من توفر اركان الجريمة وادلتها، وامام المحكمة التي تنظر الدعوى الجزائية تقوم النيابة العامة بتمثيل المجتمع والدفاع عن حقوقه ومصالحه الجمعية التي تأثرت من الجريمة، فاذا صدر الحكم على المتهم بالبراءة أو بعقوبة لا تتناسب مع الفعل الجرمي الذي ارتكبه او الضرر الذي لحق بالمجتمع باسره جراء الجريمة فان النيابة العامة تتولى نيابة عن المجتمع الطعن في الحكم.

الوجه الثاني : نطاق الدعوى المدنية التابعة للدعوى الجزائية :

بعد ان تتحقق النيابة العامة من اركان وادلة الجريمة وتقوم بإحالة الدعوى الجزائية الى المحكمة المختصة فبعد ذلك وتبعاً له يقوم المدعي بالحق المدني أو المضرور من الجريمة برفع دعواه المدنية التبعية امام القاضي الجزائي الذي ينظر في الدعوى الجزائية حيث تسير اجراءات المحاكمة في نظر الدعويين الجزائية والمدنية التبعية في جلسات واحدة كما يصدر فيهما  حكم واحد يتضمن الادانة والعقوبة للمتهم بارتكاب الفعل وتبعاً لذلك قبول الدعوى المدنية التبعية او رفضها تبعاً للحكم بالبراءة أو الادانة بل في بعض الاحيان وفي بعض الجرائم يتم قبول الدعوى الجزائية ولا يتم قبول الدعوى المدنية التبعية لعدم ثبوت الضرر الحاصل من الجريمة على المدعي المدني، والصحيح ان يتم تقديم الدعوى المدنية أمام المحكمة بعد رفع الدعوى الجزائية ،لان الدعوى المدنية تابعة الدعوى الجزائية ،ويكون غرض المدعي بالدعوى المدنية التبعية هو الدفاع عن حقوقه ومصالحه التي تضررت بسبب ارتكاب الجريمة للحصول على التعويض اذا كان لذلك مقتضى،فليس له أن يطلب تشديد العقوبة.

الوجه الثالث : إشكالية العلاقة بين الدعوى الجزائية والدعوى المدنية التبعية :

ربما ظهرت بعض ملامح العلاقة بين الدعويين من خلال المقارنة بين ما ورد في الوجهين الأول والثاني من هذا التعليق، وإضافة إلى ذلك نقول أن مصير الدعوى المدنية التبعية يرتبط ويتعلق بمصير الدعوى الجزائية المتبوعة بصرف النظر عن إمكانية رفع الدعوى المدنية بصفة مستقلة أمام القاضي المدني لانها عندئذ تتحول إلى دعوى مدنية مستقلة وليس تبعية، ويفضل غالبية المدعين بالدعوى المدنية رفعها تبعاً للدعوى الجزائية للارتباط والاتصال بينهما حتى لا يكون الحكم الجزائي حجة أمام القاضي المدني، ومن هذا المنطلق فان المدعي بالدعوى المدنية يحرص حرصاً شديداً على مصير الدعوى الجزائية وقبولها حتى تكون دعواه المدنية مقبولة ايضا، وفي بعض الحالات يهتم  المدعي بالدعوى الجزائية  اكثر من  اهتمام النيابة العامة حيث يهتم المدعي المدني بسير الدعوى الجزائية ويتابع عن كثب مجرياتها للارتباط والاتصال بين الدعويين، وان كانت العلاقة وثيقة والاتصال وثيق بين الدعويين الجزائية والمدنية التعبية إلا أن ذلك لا يعني التماهي بينهما من حيث المدعي فيهما حيث تظل النيابة العامة مدعية عن المجتمع بأسره تهتم وتهدف الدفاع عن حقوق ومصالح المجتمع بأسره في حين ان المجني عليه أو المدعي المدني يكون هدفه الدفاع عن مصالحه وحقوقه الخاصة التي تضررت بسبب الجريمة ،ولان المحكمة تنظر الدعويين الجزائية والمدنية في جلسات واحدة وبإجراءات واحدة فان النيابة العامة تستفيد من الادلة والمذكرات والمحررات التي يقدمها المدعي بالحق المدني وبالمقابل فان المدعي بالحق المدني يستفيد  كثيراً  من الادلة والاقوال التي تسوقها النيابة العامة في اثناء سير إجراءات المحكمة.

الوجه الرابع : إشكالية الطعن في الجانب المدني من الحكم الجزائي :

عند الطعن في الحكم الجزائي من قبل النيابة العامة والمدعي بالحق المدني تظهر استقلالية الطرفين عن بعضهما ،فالنيابة العامة تتجه في طعنها إلى الجانب الجنائي فقط حيث تتناول في طعنها الجوانب والمسائل والادلة التي ساقتها للدلالة على صحة الدعوى الجزائية التي اهملتها أو تجاهلتها المحكمة أو تلك التي اخطأت المحكمة في تطبيقها أو فهمها ومدى مناسبة العقوبة المقضي بها على المتهم مقارنة بالفعل الذي ارتكبه، في حين يتجه المدعي بالحق المدني في طعنه إلى اركان ووقائع وادلة الدعوى المدنية التي اهملها او اغفلها الحكم المطعون فيه أو تلك اخطأ في تطبيق القانون عليها او فهمها، لكن لان عماد الدعوى المدنية التبعية هو الفعل الضار (الجريمة) لذلك فأن صاحب الحق المدني لا يستطيع اغفال مناقشة هذا الفعل والتدليل على قيامه ولا اشكاليته اذا قامت النيابة بدورها في هذا الشأن سواء عند نظر الدعوى الجزائية أو عند الطعن في الحكم حيث ان المدعي بالحق المدني يكون له دور ايجابي في اثبات الفعل الضار والاستدلال على قيامه اما اذا لم تطعن النيابة في الحكم فان الجانب الجنائي من الحكم يكون نهائياً فلا يستطيع المدعي بالحق المدني ان يثبت خلاف ما قضى به الحكم الجزائي لانه لا صفة له في مناقشة الادانة والعقوبة طالما ان النيابة لم تطعن في الحكم، وعندئذ لم يعد امام المدعي بالحق المدني إلا الاقتصار على الطعن في الجانب المدني عند الطعن ،وعندئذ تتقلص فرص نجاح المدعي بالحق المدني في كسب القضية أمام محكمة الطعن، ولذلك يفضل الكثيرون في هذه الحالة رفع دعوى مدنية مستقلة ومع ذلك تكون فرصهم في كسبها ضئيلاً بسبب عدم ثبوت الفعل الضار (الجريمة) بموجب الحكم الجزائي، والله اعلم.