الترجيح بين الادلة عند تحديد سن المتهم

 

الترجيح بين الادلة عند تحديد سن المتهم

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

تدل الاحصائيات الرسمية ان 25% من اليمنيين لديهم شهادة ميلاد تثبت تاريخ ميلادهم، ولذلك يثور الجدل بشأن إثبات سن المتهم عند عدم وجود شهادة الميلاد حيث يخضع إثبات السن في هذه الحالة للقواعد العامة في الإثبات في ضوء مبدأ حرية الإثبات عند عدم وجود شهادة الميلاد. إلا أن الأدلة التي تثبت سن المتهم عند عدم وجود شهادة الميلاد تتفاوت وتختلف من حيث دلالاتها ومرتبتها الثبوتية بحسب اختلاف، ففي هذه الحالة تظهر مهارة القاضي وخبرته في الموازنة والترجيح بين هذه التي تتضارب وتتناقض في دلالاتها على سن المتهم،هذه المسالة تناولها الحكم محل تعليقنا، وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 21/1/2012م في الطعن رقم (43355) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان النيابة العامة احالت احد الأشخاص للمحاكمة بتهمة القتل العمد لشخص اخر، وامام النيابة ذكر الجاني أنه لم يبلغ سنه الثامنة عشرة، فقامت النيابة  بإحالته إلى الطبيب الشرعي لفحصه وتحديد سنه فاصدر الطبيب تقريره الذي تضمن أن المتهم لم يبلغ الثامنة عشرة عند إرتكابه لواقعة القتل،  وامام المحكمة تمسك المتهم لتقرير الطبيب الشرعي الذي يدل على انه لم يبلغ سن المسئولية الجزائية التامة (18 سنة) فاستدل اولياء الدم  ببعض المستندات على أن المتهم قد بلغ الثامنة عشرة عند ارتكابه للواقعة كشهادات الدراسة والبطاقة العائلية الوالد المتهم، فقامت المحكمة بمخاطبة فرع الأحوال المدنية ومكتب التربية والتعليم للإفادة عن سن المتهم بحسب  السجلات المحفوظة لدى هاتين الجهتين،فافادت الجهتان: ان تاريخ ميلاد المتهم هو (...) اي انه قد بلغ الثامنة عشرة عند وقوع الحادث، ولذلك فقد قضت محكمة أول درجة بإعدام المتهم قصاصاً، فقام المتهم باستئناف الحكم مستدلاً بتقرير الطبيب الشرعي الذي تضمن ان المتهم لم يبلغ سن الثامنة عشرة عند ارتكابه للواقعة، وقد قبلت الشعبة الجزائية الاستئناف وقضت بتعديل منطوق الحكم الابتدائي من الاعدام قصاصاً إلى حبس المتهم عشر سنوات مع دفع دية العمد، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (اما بالنسبة لما اثاره المتهم بشأن عدم بلوغه سن المسئولية الجنائية التامة في تاريخ وقوع الجريمة استناداً إلى تقرير الطبيب الشرعي فان ذلك في محله خاصة انه لا توجد شهادة ميلاد للمتهم تؤيد ما تضمنته البطاقة العائلية لوالده التي تم استخراجها بعد مضي عدة سنوات من ولادة المتهم، والحال كذلك فالعمل بما تضمنه تقرير الطبيب الشرعي هو الذي تطمئن اليه الشعبة لان الشك يفسر لصالح المتهم) فقام اولياء الدم بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي وارفقوا بالطعن صورة البطاقة العائلية لوالد المتهم التي تثبت ان المتهم كان قد بلغ الثامنة عشرة عند ارتكابه للجريمة بالإضافة إلى استمارة نجاح المتهم من الصف السادس الابتدائي التي يدل تاريخ الميلاد المذكور فيها ان المتهم كان قد بلغ الثامنة عشرة عند ارتكابه لجريمة القتل، إلا ان الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وبالتأمل في المناعي التي ذكرها الطاعنون نجد ان الثابت في الأوراق ان تقرير الطبيب الشرعي صدر بناءً على طلب النيابة العامة التي كلفت الطبيب الشرعي اثناء تحقيقها في الواقعة بتحديد سن المتهم وعند طرح القضية على المحكمة الابتدائية ثارت المنازعة بشان سن المطعون ضده  المتهم الذي تمسك بتقرير الطبيب الشرعي بينما ذهب اولياء الدم إلى ان المتهم قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره أي انه بلغ سن المسئولية الجنائية التامة واستدلوا على ذلك باستمارة نجاح المتهم من الصف السادس الابتدائي والبطاقة العائلية لوالد المتهم، وبذلك اصبح كل  ماطرحه الطرفان من ادلة خاضع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع التي لها وحدها الحق في الترجيح بين الادلة وتقدير قوة دلالتها ومن ثم فان نعي الطاعنين لا محل له) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول :حجية شهادة الميلاد ومرتبتها في اثبات سن المتهم :

وفقاً لقانون الأحوال المدنية فان شهادة الميلاد شهادة رسمية صادرة من جهة رسمية معدة أصلا لاثبات السن،حيث تصدر للشخص بعد ولادته حيث يجب ابلاغ السجل المدني بواقعة الولادة خلال ستين يوماً من تاريخ الولادة وبموجب ذلك يقوم مدير الأحوال المدنية بتحرير شهادة الميلاد حسبما هو مقرر في المواد (20 و 21 و 22) من قانون الأحوال المدنية، وبناءً على ذلك فان شهادة الميلاد هي الوثيقة الرسمية المعدة بموجب القانون لإثبات السن ولانها تصدر بعد ولادته فانها تكون بمناى عن التلاعب في بياناتها ولذلك تكون موثوقة، إضافة إلى أن شهادة الميلاد من اسمها هي عبارة عن إثبات وتوثيق شهادات المبلغ والمختصين بالمستشفي عن الولادة اوالجهة المعنية بان الشخص قد ولد في التاريخ المحدد فيها، وعلى هذا الأساس فان شهادة الميلاد تكون دليلاً كافياً لإثبات سن المتهم ولايجوز الطعن فيها الا بالطرق القانونية كما أنها تكون قرينة قانونية قاطعة على عمر الشخص لأن القانون قد نص على اعتبارها كذلك، فلا يحق عند وجود شهادة الميلاد اللجوء إلى الخبرة الطبية لإثبات السن لان ذلك بمثابة تكذيب واهدار للشهادة الرسمية المعدة لإثبات السن، ومن هذا المنطلق فان شهادة الميلاد تحتل المرتبة الأولى في إثبات السن حيث لا تحتاج إلى دليل آخر يساندها (إثبات عمر الشخص بالقرائن، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، بحث محكم منشور في مجلة القلم صـ28).

الوجه الثاني : حجية الوثائق الاخرى غير شهادة الميلاد في إثبات سن المتهم :

يتم ذكر سن الشخص في وثائق كثيرة كالبطاقة الشخصية للمتهم نفسه وجواز سفره وكذا البطاقة العائلية لوالد المتهم وكذا يتم ذكر سن المتهم في الشهادات الدراسية والبطاقات الدراسية التي تثبت إلتحاقه بمدرسة معينة او كشافة او نادي رياضي....الخ، فهذه الوثائق تكون قرائن بسيطة، لان هذه الوثائق معدة وفقا للقانونً لأغراض اخرى غير سن الشخص فهي اما معدة لإثبات نجاحه أو رسوبه كالشهادات الدراسية او معدة لإثبات هويته وشخصيته كالبطاقة الشخصية او معدة لإثبات ان والده عائل لأفراد اسرته المذكورين في البطاقة العائلية أو إثبات جنسيته كجواز السفر، فالجهات التي تصدر هذه الوثائق يتجه اهتمامها الى الغرض الذي صدرت لأجله الوثيقة فلا يهمها تاريخ الميلاد الذي يتم ذكره فيها، وخلاصة القول ان هذه الوثائق وان كانت محررات رسمية صادرة بموجب القانون من جهات مختصة الا انها قرائن بسيطة فيما يتعلق بإثبات السن، ولذلك ان الحكم محل تعليقنا لم يأخذ بعمر المتهم المذكور في البطاقة العائلية لوالده ولم يأخذ بعمر المتهم المذكور في شهادته الدراسية التي تفيد نجاحه من سادس ابتدائي.

الوجه الثالث : حجية تقرير الخبرة الطبية في إثبات سن المتهم :

الخبرة وسيلة من وسائل الإثبات المقررة وفقاً لقانون الإثبات وقانون الإجراءات الجزائية، وبموجب قانون الإثبات فهي قرينة، والتقرير الطبي من وجهة نظرنا قرينة قاطعة اذا تم اعداده بطريقة صحيحة عن طريق الكشف بالأشعة على عظام يدي المتهم وركبتيه وكذا الفحص والكشف لأعضائه التناسلية وكذا الكشف عن اسنانه وفكيه واذا تم الكشف والفحص عن طريق لجنة طبية(قمسيون) اي لجنة طبية مكونة من فني الاشعة وطبيب الاسنان وطبيب عظام وطبيب اعضاء تناسلية والطبيب الشرعي حسبما هو متبع في دول العالم اجمع، فاذا تم الكشف الطبي على المتهم بهذه الطريقة وعن طريق اللجنة الطبية المختصة المشار اليها فان صحة نتائج التقرير الطبي تصل إلى 97% حسبما يقرر المختصون (الطب الشرعي القضائي، د.جلال الجابري، صـ321).

الوجه الرابع : الترجيح بين ادلة إثبات سن المتهم :

الترجيح بين الأدلة عملية فنية راقية لا يتقنها إلا ارباب الصنعة والمهارة من القضاة المحترفين، فالترجيح والموازنة يحتاج إلى معرفة  معايير الترجيح وانواعها كمعيار الترجيح بكثرة الأدلة ومعيار الترجيح بقوة الدليل (ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية، لأستاذنا الدكتور رؤوف عبيد صـ115) ولذلك فقد لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد رجح التقرير الطبي  لقوته  الثبوتية وطرح البطاقة العائلية وشهادة المدرسة، فقد اخذ الحكم بمعيار قوة الدليل وغلبه على معيار كثرة الأدلة الاقل مرتبة وحجية، والله اعلم.



الأسعدي للطباعة ت : 772877717