المنفعة ثمناً للأرض

 

المنفعة ثمناً للأرض

أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من الإشكاليات العملية التي تحدث في الواقع ان بعض الأشخاص يبيعون بعض أراضيهم ولا يقبضون أثمانها في مجلس البيع والشراء بل ان البائع يصرح بان الثمن هو قيام المشتري بتقديم خدمة له أو منفعة له مثل متابعة معاملة للبائع لدى جهة معينة أو المحاماة والترافع عنه في قضية يكون البائع طرفاً فيها وغير ذلك، والمنفعة وان كانت تصلح ثمناً للمبيع الا انه تصاحبها إشكاليات عدة منها كيفية تقدير قيمة المنفعة ومدى تناسبها مع قيمة الأرض والتاكد من عدم وجود غبن يجعل عقد البيع معيباً قابلاً للإبطال، إضافة ان البيع مقابل المنفعة ينطوي على حيل كثيرة بل انه قد يكون واجهة وعنوانا للنشاط الإجرامي لعصابات البلاطجة والمتهبشين والباسطين على أراضي الغير بالقوة حيث يذهب المدعون بأحقيتهم باراضي الى هذه العصابات فيتعاقدون معها على إخراج تلك الأراضي من خصومهم بالقوة مقابل ان ياخذ البلاطجة نسبة من الأرض وفي اثناء قيام البلاطجة بتنفيذ مهمتهم الملعونة تحدث حالات القتل الجرح والاتلاف، فإذا سمعت ايها القارئ الكريم تبادل اطلاق النار فلا تقلق فذلك عبارة عن تنفيذ التزام عقدي من قبل البلاطجة المتهبشين على الاراضي، وعلى هذا الأساس فان المنفعة كثمن للأرض ينبغي ان تكون لها ضوابط حتى لا تتفلت  من عقالها فتكون بؤرة للحيلة والإجرام، ومن هذا المنطلق اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26/2/2011م في الطعن المدني رقم (43802) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد الأشخاص اتفق مع شخص اخر ان يقوم الشخص الاخر (بالمشارعة) نيابة عنه ويستخرج له أراضيه لدى خصومة اخوته وابناء عمومته ومقابل ذلك قام بتحرير بصيرة بيع أرض للمشارع مساحتها ثلاثون قصبة؛ وبعد اربع سنوات اراد المشارع البناء على تلك الأرض فثبت ان تلك الأرض ليست ملكاً للبائع، فقام المشارع برفع دعواه أمام المحكمة الابتدائية المختصة التي سارت في إجراءاتها حتى خلصت الى الحكم (بإلزام المدعى عليه بتسليم قيمة الأرض المنتكلة والبالغة ثلاثين ألف ريال مع احتساب فارق سعر الصرف حسب ما يقدره عدلان خبيران حسب الزمان والمكان عند التنفيذ مع احتساب أتعاب كتابة البصيرة وتحميل المدعى عليه مصاريف التقاضي مائة ألف ريال) وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (استناداً الى شهادة الشهود وكاتب البصيرة الذين شهدوا بوقوع البيع وفي ذلك  الكفاية للقول بثبوت البيع تطبيقاً لنص المادتين (13 ، 45) إثبات كما ان المحكمة استدلت على وقوع البيع فعلاً بما جاء برد المدعى عليه بان البيع كان صورياً مستدلاً على الصورية بعدم دفع الثمن ففي قوله هذا اقرار بوقوع البيع منه وصحة بصمته على البيع وهو اقرار ضمني ملزم له وحجة عليه تطبيقاً لنص المادة (87) إثبات اما قوله  بان البيع صوري لعدم تسليم الثمن فليس ذلك كاف للحكم بصورية البيع لا سيما والشهود قد شهدوا ان تحرير البصيرة كان مقابل قيام المدعي بالشريعة للمدعى عليه أي مقابل اتعاب المدعي الذي قام بالمشارعة والمنازعة وإخراج الأوراق ومن ثم فدعوى الصورية لا أساس لها من الصحة وان المساحة المبيعة منتكلة فقد ثبت انها ليست في ملك البائع) فلم يقبل البائع بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه فقضت الشعبة الاستئنافية بتعديل منطوق الحكم الابتدائي وذلك بإلغاء عبارة (مع احتساب فارق سعر الصرف حسبما يقدره عدلان خبيران وتأييد بقية فقرات منطوق الحكم الابتدائي) وقد ورد ضمن أسباب الحكم الاستئنافي ( ان الحكم الابتدائي كان مصيباً   حينما اعتمد على شهادة الشهود وإقرار المدعى عليه بالبيع؛الا  ان الحكم قد جانب الصواب عندما قضى باحتساب فارق سعر الصرف مع ان المدعي لا يستحق ذلك لانه مهمل لم يطلب تسليم المبيع أو ثمنه في تاريخ البيع)، فلم يقبل طرفا الخصومة بالحكم الاستئنافي فقاما بالطعن فيه بالنقض فرفضت المحكمة العليا طعن البائع وقبلت طعن المشتري المشارع وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا ( ان الطعن المقدم من المشتري في محله حيث قضت الشعبة بإلغاء عبارة فارق سعر الصرف مع انه من الثابت ان المحكوم عليه البائع لم يطلب ذلك من الشعبة.ولذلك فقد قضت بما لم يطلب منها الخصم والمحكوم عليه وبدون أسباب سائغة مما يجعل الطعن مقبولاً في هذه الفقرة التي قضت بإلغاء عبارة فارق سعر الصرف) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : ماهية المنفعة التي تكون ثمناً للأرض المبيعة :

المنفعة قد تكون عملاً يقوم به المشتري مثل المشارعة أو المرافعة والمدافعة، كما تكون حماية وحراسة لأرض أو محل ما؛ كما قد تكون خدمة كرعاية عاجزً او مريض، كما قد تكون معالجة وتطبيب أو تعليم وتفهيم وتدريب وغير ذلك من المنافع التي لاحصر لها ،  ففي هذه الحالة لايقوم المشتري بدفع وتسليم قيمة الأرض نقداً مشاهدة ومعاينة في مجلس العقد بحضور شهود العقد وإنما يقوم بدلاً من ذلك بالمنفعة التي يقر البائع انه قد انتفع بها او حصل عليها؛ وذلك جائز شرعاً وقانوناً لان المنفعة يمكن تقويمها بالنقود فيكون حكمها حكم النقود؛ وان كانت الاشكاليات تحيط بالمنفعة كثمن للارض من كل جانب كما سنرى لاحقا.

الوجه الثاني : الوضعية الشرعية والقانونية للمنفعة كثمن للأرض :

تجيز الشريعة الإسلامية والقانون ان تكون المنفعة ثمناً للأرض أو غيرها طالما توفرت في المنفعة شروط الثمن المحددة في المادة (503) مدني وهي ان يكون الثمن ممايصح تملكه وان يكون مملوكاً للمشتري ومعيناً عند العقد ومعلوماً للبائع والمشتري ومقدور التسليم؛ وبناءً على ذلك يجوز ان تكون المنفعة ثمناً للأرض اذا توفرت فيهاالشروط السابقة  لان المنفعة كما ذكرنا متقومة بالنقود فيكون حكم المنفعة حكم النقود.

الوجه الثالث : إشكاليات المنفعة كثمن للأرض :

الواقع انها ليست إشكالية واحدة وإنما إشكاليات كثيرة أهمها عدم مشاهدة المنفعة بالنسبة لشهود العقد حيث ان الشهود يشهدوا على اقرار البائع بانه قد حصل المنفعة ثمن المبيع كما انه من الممكن اختيار شهود ممن شاهدوا المنفعة التي قدمها المشتري، وهناك إشكالية معرفة قيمة المنفعة ومقدارها ولمعالجة ذلك ينبغي ان يقوم بالتقييم أصحاب الخبرة والاختصاص فيصرحون بان المنفعة تساوي مبلغاً معيناً ؛كما انه عند تقدير  قيمة المنفعة سوف يظهر مدى تناسبها مع القيمة الحقيقية للأرض بسعر الزمان والمكان، واذا كانت المنفعة قد تمت قبل تحرير وثيقة البيع فيتم تقديرها وذكرها في البصيرة اما اذا كانت المنفعة مستقبلية مثل المشارعة أو المقاتلة لإخراج الأرض أو غير ذلك فان هناك مشكلة اخرى وهي مشكلة تعليق البيع وعدم نفاذه لان الملتزم بالمنفعة المستقبلية ملزم بعمل مستقبلي قد يقوم به وقد لا يقوم به وقد يقوم به على النحو المتفق عليه كما قد لا يقوم به على هذا النحو؛ ومن خلال ما تقدم يظهر لنا بجلاء تام ان الإشكاليات تحيط بالمنفعة كثمن للأرض من كل ناحية.

الوجه الرابع : فارق سعر الصرف :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد انه قد حكم باستحقاق المشتري لفارق سعر صرف مبلغ الثلاثين الألف ريال فيما بين تاريخ بيع الأرض وتاريخ وفاء البائع بالمبلغ فعلا ؛ولاحظنا ان المحكمة العليا قبلت طعن المشارع المشتري ونقضت الحكم الاستئنافي جزئياً لانه قضى بإلغاء هذه الفقرة، والواقع ان قضاء المحكمة العليا في اليمن قد استقر على الحكم بفارق سعر صرف العملة إذا كان الملتزم بالدفع قد امتنع عن السداد في وقته المحدد من غير عذر قانوني؛ لان ذلك ليس من قبيل الربا حيث لا فضل ولازيادة في اصل المبلغ وانما يتم صرف المبلغ في تاريخ استحقاقه من العملة الوطنية الى اية عملة حرة فيسلم المدين المماطل مبلغ الدين  مع فارق الصرف  فليس الفارق نسبة مئوية معينة؛ والله اعلم.