حكم النذر على وارث الوارث
أ.د. عبد المؤمن
شجاع الدين
الاستاذ بكلية
الشريعة والقانون جامعة صنعاء
لاعتبارات كثيرة
يستعمل المورث اثناء حياته صيغ عدة من التصرفات لبعض ورثته, ومنها العطية والوصية والشقية والنذر, وهذه التصرفات
تثير اشكاليات كثيرة في الواقع العملي لمخالفاتها في حالات كثيرة للأصول والقواعد
العامة المقررة في الشرع والقانون التي تبطل أي تصرف صادر من المورث في اثناء
حياته لبعض ورثته المحتملين ؛ لان هذه التصرفات في غالب الاحيان تنطوي على حيلة او
يتوسل المورث بهذه التصرفات ذاتها لحرمان او نقصان ما سيؤول الى ورثته من بعده,
وقد سبق لنا الاشارة الى بعض هذه الاشكاليات ومقترحات تجاوزها وذلك في تعليقات
سابقة على احكام قضائية تناولت الاقعاد والوصية الواجبة والوصية لوارث مقابل خدمة والفرق
بين الوصية الاختيارية والوصية الواجبة وكذا الفروق بين الشقية والنفقة والوصية
للوارث, واكمالا للفائدة يأتي اختيارنا لحكم النذر على وارث الوارث بمناسبة
تعليقنا على الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 14/3/2011م في الطعن الشخصي رقم (41808) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم ان شخصا قام في اثناء حياته سنة 1363هـ بالنذر لابن ابنته
بثمانية مواضع زراعية وتم تحرير وثيقة بذلك اسمها (نذرية) وفي عام 2006م قام احفاد
الناذر برفع دعوى امام المحكمة الابتدائية طلبوا فيها الحكم ببطلان النذرية لأنها
مخالفة للشرع والقانون اضافة الى انها كانت حيلة على بقية الورثة اضافة الى ان
المنذور له المدعى عليه كان وقت النذر صغيرا غير مأذون له شرعا بقبول النذر ؛ فرد
المدعى عليه بان امه قبلت له النذر وقامت بالوفاء بما شرطه الناذر وان المواضع
التي نذر بها الناذر له كانت ارض موات وانه اي المنذور له هو الذي قام بإحيائها ؛
وقد خلصت المحكمة الابتدائية الى الحكم بصحة النذر الصادر من الناذر للمنذور له
وهو النذر بالثمانية المواضع المشار اليها وانه يلزم المدعين عدم معارضة المدعى
عليه في انتفاعه بتلك المواضع حسبما ورد في منطوق الحكم, وقد جاء في اسباب الحكم
الابتدائي (الامر الذي يتعين معه الجزم بصحة النذر على للمدعى عليه بالمواضع التي
اشتمل عليها النذر) فقام المدعون باستئناف الحكم الابتدائي امام محكمة الاستئناف
التي رفضت استئنافهم وقضت بتأييد الحكم الابتدائي مسببة حكمها بان الاصل في العقود
الصحة وان تلك النذرية قد مضى عليها ستة وسبعون سنة ولم يعارض فيها مورث المدعين
الطالبين ببطلان النذرية, فلم تقبل احدى بنات المورث بالحكم الاستئنافي حيث قامت
بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا التي رفضت الطعن واقرت
الحكم الاستئنافي, وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (من خلال اطلاع الدائرة
على الحكم الابتدائي والحكم الاستئنافي والطعن بالنقض والرد عليه ظهر ان الطاعنة
تناقش في عريضة طعنها قاعدة ان الاصل في
العقود الصحة من وجهة نظرها وهو نقاش غير شرعي وقانوني مما يستوجب رفض طعنها
موضوعا واقرار الحكم الاستئنافي لأنه جاء في نتيجته موافقا للشرع والقانون فيما استند اليه وأوضحه في
قضائه بتأييد ما قضى به الحكم الابتدائي بصحة النذر) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم
بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :
الوجه الاول : ماهية النذر للوارث :
نظم قانون الاحوال
الشخصية اليمني النذر ضمن التصرفات المشتبهات بالهبة وذلك في الباب الثاني في
المواد (من 208الى 219) وقد بينت المادة
(208) تعريف النذر وماهيته حيث نصت على ان (النذر هو ايجاب مكلف مختار على نفسه
بلفظه او ما في معناه بمال او فعل او ترك يلزمه الوفاء به دون توقف على قبول ويصح
بكل لفظ يدل عليه او بالكتابة ويقع مطلقا او مقيدا بشرط او مضاف الى اجل) واشترطت
المادة (209) ان يكون الناذر مسلما ومكلفا وان لايكون المنذور عليه جهة معصية, اما المادة (212) فقد حددت المقدار الذي
يجوز النذر به وهو ثلث المال او التركة؛ ومن خلال مطالعة النصوص القانونية الناظمة
للنذر نجد انها لم تصرح بعدم جواز النذر للوارث او وارث الوارث, ولذلك يلجا بعض المورثين الى النذر للوارث او وارث الوارث
لان النذر غير الوصية للوارث التي منعها الشرع والقانون ؛ حيث تجد ان الناذر ينذر
بعض ماله لوارثه مقابل ان يحج عنه او ان يقرأ القران الى روحه او ان يصوم
عنه.....الخ , ولذلك كان النذر يشابه الوصية الا ان الوصية تصرف الى ما بعد موت
المورث اما النذر فقد يتم في اثناء حياة الناذر كما حصل في الحكم محل تعليقنا, كما
ان النذر يشابه الوقف من حيث القربة أي ان المقابل الذي يقصده الناذر من نذره هو
التقرب الى الله تعالى الا ان الوقف تكون فيه ملكية الرقبة لله تعالى في حين ان
المال المنذور في النذر يكون ملكا للمنذور له كما حصل في الحكم محل تعليقنا .
الوجه الثاني : موقف القانون اليمني من النذر للوارث وتوصيتنا للمشرع اليمني :
ذكرنا في الوجه
السابق ان قانون الاحوال الشخصية نظم النذر في الباب الثاني بعنوان (المشتبهات
بالهبة) أي ان النذر مشابه للهبة وذكرنا ايضا ان القانون في ذلك الباب قد نظم
النذر للوارث وذكرنا ايضا ان النذر مثل الهبة والعطية لأنه يقع غالبا في اثناء
حياة الناذر, وعندما نظم القانون الهبة اوجب المساواة بين الورثة في الهبة الا انه لم يبين موقفه من التصرف المخالف
للواجب أي الجزاء القانوني او حكم التصرف؛ فاقتصر القانون على تقرير وجوب المساواة
في الهبة فقط حيث نصت المادة (183) على انه (تجب المساواة في الهبة والمشتبهات بها
بين الاولاد وبين الورثة بحسب الفريضة الشرعية) ولذلك اوصى مخلصا المشرع اليمني
باستحداث مادة ضمن المواد المخصصة لأحكام النذر تصرح بعدم جواز النذر للوارث او
لوارث الوارث الا اذا اجاز ذلك الورثة اواذا كان وارث الوارث ذا عاهة كالأعمى
والاشل والاقطع ونحو ذلك, وقد لاحظ الامام
احمد حميد الدين رحمه الله كثرة النذريات في مناطق الحديدة وريمة وماوية وتهامة
والمحويت فاصدر توجيهاته عام 1959م الى الهيئة الشرعية التي كانت بمثابة محكمة
عليا ومجلس قضا اعلى حيث الامام انذاك بعدم المصادقة على الاحكام التي تقضي بصحة
النذر للورثة الا اذا اجاز الورثة ذلك .
الوجه الثالث : حكم النذريات القديمة للورثة :
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد انه لم يقض ببطلان النذر للوارث في القضية التي تناولها لان النذر كان قد تم ونفذ قبل اكثر من ستة وسبعين عاما من تاريخ عرض القضية على قاضي الموضوع ولان المنذور له كان قد قبل المال المنذور به في ذلك التاريخ كما تم الوفاء بالنذر من قبل ام المنذور له وهو صيام امه شهرين نافلة لشفاء والدها الذي شفاه الله فأوفى بنذره, فقد كان القاضي فطنا لأنه ادرك المراكز القانونية التي ترتبت واستقرت خلال هذه الفترة الطويلة ووجد ان المنذور له لم يكن غاصبا كما ان النذرية لم تكن محل خلاف بين الطرفين من حيث صدورها من جدهم وانما الخلاف بشأن حكمها من حيث الصحة والبطلان، والله اعلم.